297

Bismarck

بسمارك: حياة مكافح

Noocyada

وهنالك يرسل الإمبراطور إليه كتابا بخط يده عن حديثه مع القيصر، فيذكر له أنه كان هنالك سوء تفاهم، وأنه لم يكن هنالك تهديد بل خطأ، وأنه يرجى عد الرسالة غير موجودة، وأنه ألمع إلى الآباء، وأنه أعرب عن كل ثقة قلبية، وأنه وعد بالصداقة التامة؛ ولذا لا مناص من رفض محالفة النمسة، وكان بسمارك في تلك الأثناء يضع خططه وصولا إلى ذلك الحلف فصار يرسل من غاستن إلى مولاه في كل يوم - أو في كل يوم تقريبا - تقريرا عن السياسة الأوروبية، وأخيرا يكتب إليه في شهر سبتمبر ما يأتي:

ليس من الرأي أن تناط سلامتنا بروسية، وأجمل من ذلك أن يعتمد على النمسة، ومن ينظر إلى وضع النمسة وطبيعة الأجزاء التي تؤلف منها؛ يجدها محتاجة إلى سند في أوروبة كاحتياج ألمانية إلى مثله، وعكس هذا أمر روسية التي لا تحتاج إلى دعامة ما لم تكن إمبراطوريتها معرضة لخطر التقسيم، ومن ينظر إلى النمسة وهنغارية يجد لشعوبها كلمة في الموضوع ويجد رغبة هذه الشعوب في السلم، وعكس هذا أمر روسية التي لا تنطوي سياسة معاداتها لألمانية وسياسة محاربتها لألمانية على تهديد لوضع إمبراطوريتها الداخلي فيمكنها انتحال هاتين السياستين في كل حين، والنمسة - لا روسية - هي المحتاجة إلينا، ومن ينظر إلى النمسة يجد داخلها - على ما يحتمل - سليما أكثر من داخل جميع الدول، ويجد بيتها الإمبراطوري ثابت الأساس بين جميع شعوبها، وعكس ذلك أمر روسية التي لا يستطيع أحد أن يبصر ما تخفي من اندفاعات ثورية يمكن أن تعم إمبراطوريتها الكبيرة.

والعكس هو الذي كان بسمارك يعتقده، أو كان يتمسك به، حتى ذلك الحين، فكان يعد روسية صخرة النحاس ضد الثورة على حين يرى ثبات النمسة ملغوما بتحاسد مختلف الشعوب التي تتألف منها، والآن يقول لنا بسمارك إن النمسة إمبراطورية نموذجية على حين يجد روسية بؤرة ثورة! فبمثل هذه البراهين أخذ بسمارك يحاول أن يقنع نفسه ويقنع مولاه، ولكن السبب الحقيقي يمكن أن يبصر من خلال السطور، ومن ذلك أن النمسة ضعيفة محتاجة إلى ألمانية، وأن روسية قوية غير محتاجة إلى ألمانية؛ ولذلك يعدها بسمارك خطرا، والحكم من عادة بسمارك، وبسمارك وزيرا، وهذا يعني أن على الوزير أن يعمل متحدا مع الوزراء الآخرين. كان يفضل ألا يكون في وزارته سوى أناس يستطيع أن يسيطر عليهم، فهل يحتمل الآن ظهور القيصر بجانبه صديقا متوعدا؟ والذي يصد بسمارك عن روسية قبل كل شيء هو جرأتها على المطالبة بحقها في المساواة، ومثل هذا الطلب مما لا يطيقه بسمارك في عالم السياسة ولا في الحياة المنزلية ولا في المجالس الوزارية. والهنغاريون أناس مسالمون دوما، وهم يسعون في إرضاء ألمانية القوية، وهم يرون أنفسهم من السعداء إذا ما كانوا تحت حماية من هو أقوى منهم.

ويركب الإمبراطور متن العناد، ويبلغ ولهلم الثانية والثمانين من سنيه، وهو قد ترك بسمارك يقوده في الأعوام السبعة عشر الأخيرة، ولم يبدو الآن جامحا؟ ثار حس الشرف فيه، وأخذ يفكر في تراث أبيه، ويظهر أثر الشعور الأسري، وتمثل العادة والرغبة دوريهما، ويتمثل ما كان من اعتذار ابن أخته القيصر إليه قلبا وقالبا، وتزول عوامل الخلاف بينهما: «وتمازجني هذه العقيدة فيتعذر علي أن أوافق على اقتراح مستشار الإمبراطورية، وأجدني قد وقعت في ورطة هائلة، وأفضل أن أنزوي من الميدان فأسلم إلى ابني مقاليد الحكم على أن أسير ضد عقيدتي فأقترف خيانة ضد روسية، ويمكن الأمير «بسمارك» أن يخاطب الكونت أندراسي حول بعض الاحتمالات في المستقبل، ولكن على ألا يكون هنالك تحالف لا أريده، وكان الأمير قد قال لا ينبغي لنا أن نقيد أيدينا بمحالفات، وكان الأمير يقول - في الحين بعد الحين - إن النمسة دولة لا يعتمد عليها.»

وتكون ذاكرة العاهل الشائب جيدة عندما يكون مضطربا، وتظهر أجوبة بسمارك طويلة مقدارا فمقدارا، ومن الواضح أن كان ذهنه مصروفا إلى عمل إنشائي ، ولا نكاد نشك في أنه كان يفكر فيما هو أهم من إقناع الملك، والآن يشكو تهدم صحته ويصرح بأنه لا يستطيع احتمال مثل ذلك التحاك وبأنه يستقيل إذا لم يعقد الحلف، «وقد يمكنني أن أستمر على خدمة الإمبراطور إذا كنت من السعادة ما أقدر معه على مشاطرة صاحب الجلالة عقائده في المسائل السياسية الحاسمة، ولا تزال صحتي تقاسي تأثير مثل ذلك التحاك الذي احتملته في نقولسبرغ وفرساي، واليوم بلغت صحتي من الوهن والانحطاط ما لا أقدر أن أحلم معه بإنجاز عمل في مثل تلك الأحوال، وفي التاسع عشر من الشهر الجاري يكون قد مضى سبع عشرة سنة من بدء احتمالي هذا الكفاح الذي دام بلا انقطاع، وأعتقد أنني في أثناء هذا الدور قمت بالواجب الرسمي، وإذا لم يغير الوضع في ثمانية أيام أو عشرة أيام من الآن استقلت وظائفي وبينت الأسباب وفق قوانين الإمبراطورية».

ولم يؤد تعيين بسمارك وقتا لاستقالته التهديدية إلى غير إثارة غضب الإمبراطور الذي صرح غير مرة بأنه يتنزل عن العرش إذا اعتزل بسمارك منصبه.

وهكذا تبصر كلا من ذينك الزوجين يهدد الآخر، من برلين إلى غاستن ومن غاستن إلى برلين، بالطلاق إذا لم يصنع ما يرضيه، وفي كل يوم يحمل المستشار سكرتير الدولة على الإبراق مخبرا إياه بمزاج الإمبراطور كما يحمل الإمبراطور على سؤال هوهنلوهه: «أأفترض أن المستشار متبرم مني؟» ولا يعرف الإمبراطور كيف يعامل بسمارك، وبسمارك هو الذي يهيئ أهم وثائق الدولة عن مبادرة منه! ويكتب الإمبراطور إلى بسمارك ما يأتي:

يشق علي أن نبدي صداقة لروسية في الظاهر، وأن نحالف النمسة ضدها، وقد بلغتم من العزم على ذلك ما لم تقتصروا معه على إيضاح خطتكم للكونت أندراسي، بل أذنتم له في عرض الأمر على إمبراطوره الذي لم يعتم أن وافق على الفكرة، فضعوا أنفسكم في مكاني لقصير وقت وفكروا في أنني ذهبت للاجتماع بصديقي وقريبي وحليفي في السراء والضراء فأسفر ذلك عن زوال ما حام حول بعض عبارات وردت في كتابه من سوء تفاهم وعن الوصول إلى نتائج سارة، ثم فكروا في أنني في الوقت نفسه أعقد حلفا معاديا لهذا العاهل؛ أي أصنع خلف ظهره ما يناقض أقوالي، ومهما يكن الأمر فلا أريد - ولا ينبغي لي - أن أتنصل من الخطوات التي اتخذتموها لدى أندراسي ومولاه، فيمكنكم إذن أن تبحثوا في فينة عن عواقب اختلاف مع روسية قد يؤدي إلى قطع الصلات بها، ولكنني لا أستطيع - عن وجدان - أن آذن لكم في عقد أي اتفاق ولا ائتلاف ولا حلف ...

المخلص لكم: ولهلم

عالمان مختلفان يتحادثان هنا، وهما بروسية القديمة والإمبراطورية الجديدة، أو الفارس والدبلمي، أو الوجدان والذكاء، بيد أن ميفيستوفل يتصرف في وسائل قوية، فعلى هوهنلوهه بباريس وروس بفينة ومولتكه ببرلين وجميع الوزراء أن يؤيدوا سياسته، وتهدد الوزارة بالاستقالة، ويجد الإمبراطور نفسه محصورا، وليست سياسة بسمارك ولا حيله هي التي تثير إعجابنا في هذه المرة، بل نعجب بالإمبراطور الفارس.

Bog aan la aqoon