أنبأ سفير بسمارك في ربيع سنة 1876 غورشاكوف بأن ضربته الروائية ببرلين في السنة الماضية أسفرت عن «حذر وحير» في ألمانية تجاه روسية، وأجاب غورشاكوف عن هذا بحماسة قائلا إن عد بسمارك تلميذا له كعد رفائيل تلميذا لبيروجينو، وفيما هو ينطق بمعسول الكلام على هذا الوجه تبصره مستمرا على حوك الدسائس في ميدان السياسة ضد بسمارك.
وهو إذ كان عارفا بورطة خصمه لم يلبث أن نصب له شركا؛ ففي خريف سنة 1876 أرسل من ليفادية إلى برلين السؤال الآتي بواسطة الملحق العسكري الألماني، وهو: هل تظل ألمانية محايدة عند وقوع حرب بين روسية والنمسة؟ وكان غورشاكوف من الحذق السياسي ما لا يضع معه مثل هذا السؤال القاسي من غير أن يكون قد حسب نتائجه الممكنة، ويأخذ بسمارك هذه البرقية حينما كان في فارزين، ويسير في المرحلة الأولى عن مبادرة منه، فيأمر ديوان الخارجية مؤكدا على خلاف عادته ب «عدم الجواب عن مسألة سرية قائلا إننا لا نعرف مقاصد غورشاكوف بوضع هذا السؤال ولا وجه فائدته منه، والسؤال وقح ، والسؤال في غير وقته ، والسؤال دسيسة حيكت بخيوط بيض.» ثم يقول غاضبا: «إن الأمر يدور حول توقيعنا سفتجة على بياض لتملأها روسية وتقبض بدلها ولتستعمل ما تقبض ضد النمسة وإنكلترة.»
وهنالك أيضا يدقق بسمارك في حساباته وفق جدول الأنساب العددية، وهو يعرف جيدا غرض غورشاكوف من السؤال، وهو يعرف أن غورشاكوف يريد أن يعلم: هل تقسم النمسة؟ فإذا قال: «كلا» كان ذلك لما يبصره من تدفق سلافي يغمر شرق أوروبة فيجعل ألمانية في وضع التابع فما بعد، ويرى بسمارك أن الخير كل الخير في دعوة القيصر إلى الانتباه ما دامت سياسة بسمارك قائمة منذ زمن طويل على جعل كل من الدول الثلاث المتنافسة، روسية والنمسة وإنكلترة، في حال توتر وفي طور ينشد معه التأييد من ألمانية، والآن يريد منع نشوب حرب عالمية بأن يوجه جيش الروس المستعد للقتال إلى البلقان.
ويضغط بسمارك مرة أخرى؛ حملا له على الجواب القاطع، فيقول إنه، وإن كان لا يميز أحد الفريقين الصديقين المتقاتلين من الآخر يأسف كثيرا إذا بلغ جرح أحدهما من الخطر ما يغدو به دولة غير عظيمة.
والآن يستطيع غورشاكوف أن يقيم لمولاه دليلا قاطعا على أن بسمارك هو العقبة الكأداء دون تحقيق الروس لآمالهم في نصب الصليب فوق قبة أياصوفية، ويقنع القيصر بذلك فيقلع عن فكرة مهاجمة فرنسوا جوزيف، وهو بدلا من هذه المهاجمة يجتمع بأخيه الإمبراطور في رايشتاد، ويصل معه إلى اتفاق مؤقت حول البلقان فيعده بإعطائه البوسنة إذا ظل محايدا، وهكذا تتوجه الزوبعة المتوعدة إلى الجنوب الشرقي، فيزحف الروس إلى الآستانة؛ ليواجهوا الأسطول البريطاني في الدردنيل في ربيع سنة 1877 وليلاقوا مصاعب إضافية، وهنالك يشعر الروس بأن الدول لا تدعهم يصلون إلى القرن الذهبي، فيكتفون بمعاهدة أياستفانوس موجبين «اختلال التوازن الدولي».
وقال غورشاكوف في جوابه إلى بسمارك: «ليست المسألة التي يرى حلها ألمانية ولا روسية وإنما هي أوروبية.» ويكتب بسمارك على الهامش: «من يقل أوروبة يخطئ؛ فما هي أوروبة؟» ومنذ عشر سنوات مضت، وحين بدا سفير إنكلترة متوعدا، كان بسمارك قد استعمل تلك الكلمات الثلاث موكدا مع مزح، وبسمارك يقول: «يلوك رجال السياسة كلمة أوروبة عندما يطلبون من الدول شيئا لا يجرءون على سؤاله باسمهم الخاص.» وبهذه الكلمة الصائبة في تلك الأيام يجيب بسمارك عن عبارة غورشاكوف.
وفي سان بطرسبرغ كان يوجد رجل ذو آراء أوروبية وصاحب قلب يلبي ما لا يعرفه الشيخ غورشاكوف من مشاعر الإنسانية، وذلك أيام عقد معاهدة أياستفانوس التي تقضي بطرد الترك من أوروبة وبتوسيع رقعة دولة بلغارية التابعة، وأيام شعور النمسة بأن روسية تحيط بها إحاطة جزئية، وأيام تظهر إنكلترة قلقها، وأيام كان شبح حرب طاحنة أشد من الأولى يلوح في الأفق، والرجل هو الكونت بطرس شوالوف، ويهرع شوالوف هذا إلى صديقه بسمارك ويرجو منه أن يتوسط، وكان بسمارك في فردريكسروه وكان مصابا بالهرص
2
ووجع الأعصاب وشقيقة الوجه فلا يستطيع حتى حلق ذقنه، ويقابل بسمارك شوالوف مع ذلك، ولكنه يرد طلبه.
وفي هذه المرة - كما هو الأمر قبل ضم الألزاس واللورين - لم تضل غريزة بسمارك السياسية، وبسمارك منذ بضعة أشهر حينما عرضت عليه اقتراحات شبه رسمية وصولا إلى توسط ألمانية؛ رفض ذلك رفضا باتا قائلا: «لا نكاد نعتقد أن التوسط لدى دولة أخرى يتم بغير ضغط روسية، ولكن ضغطا كهذا لا يؤدي إلى إذعان روسية إلا بصعوبة عظيمة، ونحن لما نبصر من اتساع الحدود بيننا وبين روسية؛ نرى صلاتنا بهذه الإمبراطورية أهم من جميع تركية بمراحل؛ ولذا لا نرى من الرأي إحداث كدر غير مجد بقبول ذلك التوسط.» وليس عندنا دليل مؤيد للزعم القائل إن بسمارك في مشيبه وجد هذا التدخل أعظم خطأ وقع في غضون منصبه، وليس هذا الزعم صحيحا - كما يظهر - وإنما الذي لا مراء فيه هو أن بسمارك رفض التدخل في بدء الأمر.
Bog aan la aqoon