مع ذلك، وولي العهد هذا يسجل في يوميته عشية رأس السنة قوله: «يبدو أننا في ذلك الدور لم نحب ولم نحترم، بل كنا مرهوبين، وكنا نعد قادرين على كل جرم ولؤم، فتزيد عدم الثقة بنا، وليس ذلك نتيجة هذه الحرب، وإلى ذلك جرتنا نظرية الحديد والنار التي ابتكرها بسمارك فسار عليها عدة أعوام! وما هي فائدة كل قوة وكل مجد وكل رفعة في الحروب إذا ما وجدنا الحقد والارتياب أمامنا في كل مكان؟ أجل، إن بسمارك جعلنا عظماء وأقوياء، ولكنه أفقدنا أصدقاءنا وعطف العالم علينا وراحة البال فينا. ولا أزال أعتقد أن ألمانية كانت تستطيع بغير الدم والحديد أن تأتي بفتوح أدبية وأن تصبح موحدة حرة قوية بحقها الخاص الصالح، وكان للشريف المقدام - وهو رجل عنف - وجهات نظر أخرى، وقد أسفرت حيله ومكايده في سنة 1864 عن الإضرار بانتصار قضية صالحة، وقد هزم النمسة في سنة 1866 من غير أن يحقق الوحدة الألمانية، فما أصعب مقاومة عبادة القوة الجافية والفوز الخارجي! وما أصعب تنوير البصائر! وما أصعب توجيه الطموح والغيرة إلى غايات جميلة ومقاصد سليمة!»
تلك الكلمات جديرة بأريستيد العادل وأبراهام لنكولن، وهي من الكلمات التي استطاع فريتاغ وليبكنخت أن ينطقا بها هنا وفي الوقت الحاضر، ولكنها مما لا ينبغي أن تصدر عن قائد عام جعل رايات الماريشال بلومنتال المنصورة تخفق تحت اسمه وأراد أن يكره أبناء عمه الحلفاء من الأمراء على الخضوع ورغب عن استفتاء الشعب واقترح الاكتفاء بإعلان الدستور وأن يلبس فرو السمور الأبيض وقورا ساحرا وفق الوضع الذي انتحله في تلك القرية المورقة، وهو لم يفقه تاريخ السنوات العشر الأخيرة، وإلا فبأي شيء تكون الحرب الدانيماركية «قضية صالحة» إذا لم تعد الدوكيات إلى بروسية؟ ولم هزمت النمسة وهو الذي أيد طلبات بسمارك في نقولسبرغ حفظا لها؟ ولم أجل مستشار جامعة دول الشمال الألمانية «بسمارك» اندماج الجنوب في هذه الجامعة إن لم يكن قد رأى هذا الاندماج لا يتم بسوى الحديد والدم؟ ولا جرم أنه كان من الممكن إتمام الوحدة الألمانية بغير استعمال السلاح، غير أن هذا يعني فقدان الأسر المالكة العتيدة لسلطانها، ويعني عدم ترك شيء لذلك الناقد في عشية رأس السنة سوى فرو السمور الأبيض الذي يلبسه اثنان وعشرون من أبناء عمه الأمراء بجانبه، ويا لحسن حظ هذا الأمير الذي أنقذه عمر والده الطويل من الامتحان العملي فمكنه بذلك من دخول حظيرة التاريخ متوجا بهالة الرجل المثالي الذي لم يجرب نظرياته!
وبجانب هذا اللامكيافيلي يسير ذلك الواقعي العظيم قدما نحو هدفه، ويريد ولي العهد الديمقراطي «إعلان» الدستور في المعسكر، ويفكر الوزير الرجعي في دعوة جميع الريشتاغ الألماني إلى فرساي، ومع أن هذا التدبير الرئيس لا ينطوي في الظاهر على غير تهديد الأمراء المترددين يحول بسمارك هذا تهديده إلى غيرة وجد، وكان بسمارك قد أحصى المنازل في القصر، وكان وزراء دول الجنوب الأربع يذهبون ويجيئون، وتعترض بافارية على اثنتين وعشرين مسألة في المشروع ويتشدد بسمارك، ويرجع الوزراء إلى ميونيخ، ويظل كل شيء ساكنا كما في الماضي.
والآن يتظاهر بسمارك بأنه يرى التفاهم مع بادن وورتنبرغ وحدهما، والآن تبدو بادن مستعدة لعمل هذا ما أبصرت بافارية تطلب التوسع على حساب بالاتينة البادنية، وترفع دوائر البريد والخطوط الحديدية ومصالح البرق أصواتها، وتطالب جيوش مختلف البلدان الألمانية ببزات مميزة، وتكاد الوحدة الألمانية تصاب بالخيبة من أجل لون الطوق، ويقول أحد وزراء بادن عن بسمارك مادحا: «إنه أبدى أطيب العواطف نحو مصالح الدول، وإنه لم يصب هذه المصالح بشيء من غير سبب مقبول، وإنه لم يمس مصالح بافارية إلا بالمقدار الذي تتطلبه مصالح الريخ.» وبسمارك إذ كان راغبا في إيجاد الريخ تساهل في جزئيات البزات وما إليها من الترهات، وتبلغ الوحدة، وإذا عدوت بافارية بدا لك كل شيء جاهزا ووجدت الفرقاء الذين اشتركوا في المفاوضة راغبين في الإمضاء، وهنالك تتدخل ملكة ورتنبرغ التي هي من أصل روسي، وهنالك تتأثر بدس أحد البارونات فتحمل زوجها الضعيف الإرادة على الإبراق قائلا إن من الرأي أن ينتظر أمر بافارية، وهنالك يبدي بسمارك غضبه لخلصائه مع هدوئه الظاهر فيمرض ويفكر في تعبئة جماهير جنوب ألمانية ضد حكوماتها.
والآن ينتصب عرف
8
البافاريين مرة أخرى، والآن عند عودتهم يعطون الشيء الكثير، والآن يدخل إلى الدستور نص قائل بتأليف لجنة دبلمية ترأسها بافارية، وستتمتع بافارية باستقلالها في دوائر بريدها وخطوطها الحديدية ومصالح برقها، وفي جيشها أيام السلم، وتنال بافارية ضرائب الجعة والمسكرات، ويضمن بسمارك لها كل ما تريد، «وتمضي بافارية العقد».
وفي ذلك المساء من شهر نوفمبر وبعد المفاوضة؛ يدخل بسمارك القاعة حاملا قدحا ويجلس بين زملائه، «وتهيأ معاهدة بافارية وتوقع، وتصير الوحدة الألمانية أمرا واقعا، ويغدو الحكم قبضة الإمبراطور، وهذا حادث، ولا ترضى الصحف بهذا، ومن يكتب تاريخا وفق الوجه المألوف يستطع أن يقول: كان يمكن الأغبياء أن يطالبوا بما هو أكثر من ذلك، وكان يجب عليهم أن يصنعوا ذلك، وقد يكون للمؤرخ حق في استعمال كلمة «يجب» هذه، ولكن ما هي فائدة المعاهدات إذا قامت على كلمة «يجب»؟ أراهم قد انصرفوا راضين، وللمعاهدة نقائصها، ولكن ليس في الإمكان أبدع مما كان، ويمكن في المستقبل تلافي ما فات، وأعد المعاهدة من أهم ما أنجزناه في السنوات الأخيرة».
ثم يتكلم بارتياب عن ملك بافارية، ويقول أبيكن الدائم الولاء : «ولكنه رجل كثير الظرف مع ذلك».
وينظر بسمارك إليه دهشا فيقول: «كلنا ذلك الرجل هنا».
Bog aan la aqoon