199

Bismarck

بسمارك: حياة مكافح

Noocyada

ولكننا إذا علمنا أن نابليون الثالث كان يزدلف بنظامه إلى الشعب مدعيا أنه يود أن يحافظ على مجد فرنسة وعظمتها؛ أبصرنا أن فريق الأمة الفرنسية المعارض والمستنكف ذلك كان يعرب جهرا أو سرا عن رغبه في سياسة عمل وسلم ثابتة، وما كانت الأمة الفرنسية الهادئة المرحة بطبيعتها، والتي لا تسير مع العاطفة إلا بفعل زعماء ممتازين أو عن ضرورة؛ لتميل إلى مقاتلة أي كان، وحال روحية كتلك مما لا يروق فاتحا يرى بهر عيون الجمهور حفظا لمقامه، والأمة كانت راغبة في النظام الجمهوري حبا للسلم، والإمبراطور كان يبحث عن انتصارات فيرتعد عند تفكيره فيما قد يمنى به من غلب بدلا من الوصول إليها.

وكان نابليون الثالث يرى الحرب أمرا لا مفر منه بعد مسألة اللوكسنبرغ، وكان أهون على بسمارك من غيره أن يحول دون وقوعها بعد الهرج مع عسر ذلك، وكان نابليون الثالث قد تفاهم هو وإيطالية والنمسة، فلما كانت أوائل سنة 1870 وضع مع أرشيدوك نمسوي خطة مشتركة لمحاربة بروسية، ويعين في ذلك الحين دوك دوغرامون وزيرا للخارجية مع مقته له شخصيا؛ وذلك لما كان من إصرار الإمبراطورة وكارهي بروسية في البلاط على ذلك التعيين، وكان هذا الوزير قد أبدى في سنة 1866 رأيا في الهجوم على بروسية، فلا بد من أن يكون قول بسمارك «إن غرامون غبي» قد انتهى إلى مسمعه، وهكذا كان كل شيء معدا للحرب، وشهر الحرب لا يحتاج إلى غير ذريعة، ولسرعان ما ظهرت!

طرد الإسبان ملكتهم، فبحثوا عمن يقوم مقامها على غير جدوى، ثم ولوا وجوههم شطر ألمانية التي أمدت بيوت أمرائها نصف أوروبة بالملوك، ويسأل عن كلالة

1

لآل هوهنزلرن كانت قد جهزت رومانية بملك، ويستأذن رئيس الأسرة ولهلم فيبدي نفوره من ذلك، وكان من سياسة بسمارك فتح فروع لشركته ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ومن الحماقة أن يفترض أن غايته هي إحداث ثغرة ضد فرنسة، وكل ما يمكننا قوله هو أنه كان يفضل أن يرى رجلا من آل هوهنزلرن فوق عرش إسبانية على تسكين باريس، وأنه كان يفضل نصرا دبلميا على ملك لآل هوهنزلرن في إسبانية، وأنه كان يفضل تفاهما على نصر دبلمي.

وبسمارك إذ لم يكن لديه سبب ولا شوق إلى الحرب (ضما للألزاس مثلا)، وبسمارك إذ كان يرى الحرب آتية من أجل توحيد ألمانية، وبسمارك إذ كان مستعدا لقبول الحرب على هذا الأساس، لم ينشد أية ذريعة مطمئنا إلى أن فرنسة ستجد من ناحيتها ما يكفي لذلك في مسألة إسبانية؛ ولذا كان عازما على الانتظار.

وكان بنيديتي قبل الاقتراحات الرسمية قد أنبأ في شهر مايو سنة 1869 بأن صداما من الطراز الأول يقع لا محالة إذا ما قبل رجل من آل هوهنزلرن تاج إسبانية، واجتنب بسمارك تحريض الملك على رفض العرض الإسباني ناظرا إلى أن المسألة مسألة أسرة يمكن الكلالة أن تصنع ما تراه فيها، فلا يرتبط في شيء تاركا الخصم خائفا، ولم يلبث بسمارك أن أبصر أن المسألة شائكة، وكيف يغري الملك بقبول العرض الإسباني بعد أن كان الملك مخالفا قبول العرض الروماني؟ «ومن المحتمل أن يكون الإسبان كثيري الشكر لألمانية إذا ما حررتهم ألمانية من خطر الفوضى، وإذا ما نظر إلى صلاتنا بفرنسة رئي من الأمور الطيبة أن يكون في الناحية الأخرى من فرنسة بلد يمكننا الاعتماد على عواطفه ولا معدل لفرنسة عن الركون إليه»، وبهذا تقتصد بروسية فيلقا أو فيلقين، وبذينك الفيلقين يوجه ذهن الملك.

ويعرف بسمارك أن تلك الخطوة مما يؤدي إلى الحرب، وبسمارك كان مستعدا للمخاطرة، وبسمارك إذ كان لا يعمل إلا من أجل سلطان بروسية وما يتعلق به لأسباب سياسية، وبسمارك إذ كان اليوم قليل المبالاة بالألزاس قلة مبالاته بسليزية النمسوية سنة 1866، وبسمارك إذ لم يرد اليوم ولا في أي يوم آخر أن يستولي على أرض ألمانية أو أجنبية في سبيل بروسية، وبسمارك إذ كان راغبا في بسط زعامته السياسية على ألمانية، أعد العدة لمحاربة نابليون الثالث كما كان قد أعدها لمحاربة فرنسوا جوزيف، ومن كلا العاهلين نزعت جامعة دول ألمانية الشمالية ثم الإمبراطورية الألمانية.

وكانت رغبة ذلك القطب السياسي الألماني المعقولة في جمع أبناء أمته - ولو على الرغم منهم - سبب كلتا الحربين، ولم يكن في ألمانية شيء يقال له مسألة الألزاس في الحقيقة كما أنه لم يكن في فرنسة شيء يقال له ضفة الرين في الحقيقة، وما كانت هاتان المسألتان إلا من اختراع متحذلقين قليلين أرادوا تحريض شعوب مسالمة على مسك بعضها برقاب بعض. ولكل من سياسيي فينة وباريس حق كبير في الحيلولة دون قيام دولة موحدة على الحدود، ولكل من جموع الألمان والأمراء أن تجاهد في سبيل شيد تلك الدولة مع اختلاف الخطط وتفاوت الأدوار والمبادرات.

ويطبق المثل الذي ضربه بسمارك في نقولسبرغ، فقال فيه إن محاربة النمسة لبروسية ليست أنفى للأخلاق من محاربة بروسية للنمسة، على الحرب الفرنسية الألمانية بمثل ذلك الوضوح أيضا، وما كانت أمة لتأذن للأمم الأخرى في إتمام وحدتها وفي تحولها إلى أمة ذات سلطان عظيم إلا حربا ما دامت الدول العظمى في أوروبة الصغيرة ولوعا بالزعامة والسيطرة كلفة بالمحالفات.

Bog aan la aqoon