إن «التخصص» قد جار على «الشخصية الإنسانية» فلم يترك في كل امرئ إلا جزءا من إنسان مستغرقا في جزء من المعرفة وجزء من العناية بالعالم الواسع الذي يعيش فيه، وليس أضر، ولا أوخم من هذه التجزئة في الزمن الذي ولدت فيه الفكرة العالمية وأصبحت علاقة العالم الإنساني بعضه ببعض حقيقة متمكنة تتطلب الإنسان كله للمساهمة فيها، ولا تقنع منه بجزء ناقص محبوس في أصداف المحار.
وإن هذه العبقرية التي تعددت جوانبها وتشعبت شواغلها، مع الاتزان والاعتدال وحسن الإحاطة والإجمال، لهي الترياق الذي يشفي من هذه الآفة، والقدرة التي تستنهض الهمة لمحاكاتها، ثم لا تيئسها من بلوغ الغاية في المحاكاة؛ لأنها - بطبيعتها - تعجب النفوس والعقول، ولكنها لا تروع ولا تهول.
وقد جارت الكثرة العددية على معالم الشخصية الإنسانية فوق هذا الجور الذي ابتليت به من داء التخصص والانحصار، وقد تجدي هذه العبقرية جدواها التي لا تشبهها جدوى العبقريات الأخرى في إنصاف «الشخصية» الممتازة من طوفان الكثرة العددية؛ لأنها من هذه الكثرة خرجت، ولهذه الكثرة عملت، وعلى هذه الكثرة عولت في كل مرحلة من مراحل النجاح وعلى كل درجة من درجات السمو والارتفاع، فلم يمنعها ارتفاعها من غمار الكثرة العددية أن تكون من زمانها إلى هذا الزمان مثلا نادرا «للشخصية» الفذة التي لا تضيع في غمار.
والصفحات التالية صور متتابعة لهذه الشخصية أو لهذه العبقرية، لم نحفل فيها بسجل الأرقام ولا بإحصاء الأيام، ولم نكتبها لنبدأ فيها بسنة الولادة، ونختمها بسنة الوفاة، ونمضي فيها مع التقويم شهرا بعد شهر وعاما بعد عام، ولكننا كتبناها كما نكتب تراجمنا عامة لنعرض فيها لمحة بعد لمحة تتم بها ملامح الصورة بعد الفراغ من النظر إليها، وقد يتابعها القارئ فلا يفوته من ذلك سجل الأرقام ولا إحصاء الأيام، وإنما يلم بها حيث يعبرها في طريقه، ويستغني عنها بعد ذلك إذا شاء، أو يبقيها على حد سواء.
وسنبدأ «الصورة» بترجمة مجملة ترسم مراحل الطريق، أو ترسم حدود النظر إلى الإطار الذي يحيط بملامحها وقسماتها، ثم نتبعها بصورة لكل جانب من جوانب هذه الشخصية على أعمها وأوسعها، مع صعوبة التعميم والإحاطة بهذه الشخصية الفذة التي لم تدع شأنا من شئون عصرها إلا اشتغلت به في وقت من الأوقات، ثم ندع لها أن تتكلم بلسانها، وتعبر لنا عن كل جانب من جوانبها، ولعل الكلام الذي نسمعه منها أدل عليها من كل كلام يقال فيها.
ولنبدأ بالترجمة: ترجمة العالم الكاتب السياسي الفيلسوف الإنسان.
عباس محمود العقاد
الجزء الأول
عن فرانكلين
معالم الطريق
Bog aan la aqoon