وهذا المفاوض الذي كان من طبعه أن يذهب مع المفاوضة إلى الحد الأقصى، لم يكن يذهب بها إلى غير حد ولا نهاية، فلما جاء العدوان في بلده من الهنود الحمر وظهر من العدوان أنه استضعاف وسوء فهم لمعنى المسالمة والمداراة، كان هو المقاتل المصر على القتال إلى أن يتبدد هذا الفهم وتزول من نفوس المعتدين مظنة الاستضعاف. ولما فتح كل باب للمسالمة مع الساسة البريطان ويئس من كل حل وكل حيلة، كان هو في طليعة الدعاة إلى المقاومة بالسلاح وعلى رأس العاملين على توفير الأسلحة وتجنيد الفرق واتخاذ الحيطة في مواضع الهجوم والدفاع.
أما المفاوضة في فرنسا فقد كانت في نصف الطريق أكبر مجازفة، وكانت في النصف الآخر أكبر نجاح.
برح الديار الأمريكية سرا في السادس والعشرين من شهر أكتوبر (1776) مع ثلاثة من الزعماء لمفاوضة الدولة الفرنسية في عقد معاهدة مع الدولة الأمريكية المستقلة تمهد لغيرها من المعاهدات مع الدول الأخرى، وتبدأ الاعتراف بالدولة المستقلة الجديدة في المعاهدات الدولية، وكان سفره على سفينة صغيرة لا تحتمل زعازع المحيط الأطلسي في تلك الآونة، وأخطر من زعازع المحيط الأطلسي رقابة الأسطول البريطاني على السفن التي تفارق الشواطئ الأمريكية، ومن عسى أن يكون فيها من الثوار العاملين في خدمة الثورة ومناجزة الدولة الحاكمة، ولا خفاء في الجزاء الذي ينتظر فرنكلين لو وقع في قبضة الأسطول المنتشر في عرض البحار، فإنه لا ينجو من الشنق بتهمة الخيانة العظمى قصاصا منه وعبرة لأمثاله، وما كان هذا الجزاء الرابض له ليخفى عليه قبل سفره، فقد كان جون هانكوك
Hancock
يوقع إعلان الاستقلال ويقول والقلم في يده: «علينا يا صحاب أن نتعلق جميعا بعلاقة واحدة» وهي عبارة باللغة الإنجليزية ترادف الكلمة العربية التي تعبر عن هذا المعنى «بالاعتصام» بحبل واحد، فقال فرنكلين: نعم، وإلا تعلقنا بحبال كثيرة متفرقين!
سافر من بلاده في السبعين وهو يعلم هذا الخطر الذي يترصد له في الطريق، ولكنه لم يصل إلى «نانت» ليهدأ بعض الشيء على أثر هذه الرحلة المقلقة في السفينة المضطربة حتى أحس طوالع النجاح بعينيه، وعلم أن الحفاوة التي سيلقاها من الأمة الفرنسية تفوق كل ما خطر على باله وبال أصحابه، وانقضى اليوم السابق لدخوله باريس دخول الفاتحين في التساؤل عن الموعد وعن الطريق والتسابق إلى أقرب الأمكنة لرؤية السفير المنتظر، فلم يبق رجل ولا امرأة من المشتغلين بالسياسة والمطلعين على أخبار الثورة الأمريكية، إلا خف إلى طريق من الطرق التي قيل: إنه سيعبرها إلى مقره أو إلى البلاط، وأقبل «الدكتور» في قبعته الفرو المعهودة والكساء الساذج يحيي المستقبلين على جانبي الطريق بابتسامته الطيبة ونظرته الوديعة في غير إكثار من الإيماء والحركة، وغزا المجتمع الباريسي من اللحظة الأولى، ولا سيما مجتمع العلية وذوي الثقافة من أقطاب الآداب والفنون، وكان العصر عصر التنافس بالأندية، أو الصالونات، فكانت السعيدة من عقيلات النبلاء من تظفر بزيارة من «الدكتور» ومن تضمن دعوة الضيوف الكبار لمحادثته عندها حين تشاء ، وساعدته الشهرة السابقة والقدرة السهلة على كسب الأنصار والأصدقاء من ذوي الجاه والمنزلة العالية بين قادة الآراء، وعلم أن هذا النجاح الأدبي غنيمة لا يستهان بها كائنا ما كان موقف البلاد والدواوين الرسمية، ولكنه كان يعلم من باطن هذا الموقف أنه يناصره، ويتمنى له التوفيق، وأنه - مع التحفظ الشديد في الظاهر - يملي له ويعينه في الباطن ويستمهله فترة من الزمن ريثما تسنح الفرصة التي يرتقبها الساسة المسئولون، فيعلنون الاعتراف بالدولة الجديدة آمنين عاقبة العداء الصريح للدولة البريطانية، فإن هذه الدولة نفسها ستعترف لا محالة بالحكومة الثورية متى يئست من قهرها وإكراهها على الخضوع.
ولم يأت هذا الأمل المرتقب بغير عناء وبغير شك وبغير تردد مخيف بين الأمل الضعيف في النصر، والخوف القوي من الهزيمة. إلا أن السفير المتفائل لم ينقطع قط عن الرجاء وعن بث الرجاء في قلوب المتشائمين، ولم يتخذ له الجواب السريع في حالة من حالات الشك والحيرة، أو حالة من حالات الهزيمة الظاهرة التي تلجم الألسنة وتبلبل الأذهان. فلما قيل له يوما: ما الخبر يا دكتور، إن هاو
Howe
قد أخذ فلادلفيا، لم يلبث أن أجاب على الأثر: عفوا ياسيدي؛ إن فلادلفيا هي التي أخذت هاو.
ثم وصل الخبر المرتقب بعد عام، وانهزم الجنرال برجوين في ساراتوجا تلك الهزيمة المنكرة التي تقرر بعدها مكان الدولة الحديثة، وكان وصول الخبر إلى باريس في الرابع من شهر ديسمبر ودعوة الوزير فرجين
Bog aan la aqoon