إن التفرقة بين العقلين سهلة بينة في كثير من الأحوال؛ فهناك العالم الذي يحسن التفكير والفهم والإحاطة بالأفكار والمفهومات، ولكنه لا يحسن تنفيذ الأفكار في آلات مخترعة، ولا يحسن توجيه المنفذين إلى صنعها واختراعها، وهناك الصانع الذي يباشر التركيب والفك، وإعادة التركيب بمهارة يدوية وحيلة تطرأ في ساعتها من تلك الحيل التي جعلت العرب يطلقون اسم علم الحيل على علم المكنات، وربما كانت هذه الحيل جميعا خفية على الصانع عند ابتداء المحاولة الأولى، ثم تظهر له بالمعالجة والاختبار كأنها طرق يسير فيها حتى يراها مغلقة أمامه فيرجع عنها ويتحول إلى غيرها، أو كأنها في النهاية من قبيل المصادفة التي لم يكن ينتظرها.
وفرنكلين كان صانعا نشأ بين الصناع يعمل ويجرب ويحاول ويعتمد على التواتر كما يعتمد على المصادفة، ولكنه في البحث عن النظريات والعلاقات بين الحوادث المبعثرة لم يكن مقصرا عن شأو أمثاله من المفكرين الباحثين، فلم تكن تعوزه ملكة لازمة للعالم الباحث عن الحقائق والنظريات، وكل ما يحتاج إليه هذا العالم الباحث من تفتح الذهن وصدق الملاحظة وحسن الترجيح والموازنة بين الأسباب والاحتمالات فهو من عاداته الذهنية في مباحثه العلمية وفي معيشته اليومية، فلم يكن ينهض من مكتب العالم ليدخل إلى مصنع العامل المخترع، بل كان مكتبه ومصنعه موضعا واحدا تشترك فيه ملكاته وخصائص ذهنه هنا وهناك.
إلا أنه كان يعتقد أن المعرفة مصلحة إنسانية، وأن العلم الذي لا يتحول إلى منفعة عامة لا قيمة له في العقل ولا في الحياة، ومن رأيه أن الكشف العلمي الذي لا يوضع موضع التطبيق في المنافع العامة ولا يصلح لشيء من الأشياء هو كشف «غير صالح» على الإطلاق.
وكأنما كان خجلا من إضاعة الوقت في قدح الشرر وجذب الريش والزغب وتجريب هذه الألاعيب الكهربية على غير جدوى، فكتب (صيف سنة 1749) إلى صديقه العالم الإنجليزي كولنسون
Collinson
يروي له - في شيء من التهكم - كيف يعتذر إلى أولئك الذين ساءهم، أو أحفظهم، قليلا أن يسمعوا عن تجارب الكهربا، ولا يحسوا لها أثرا ملموسا في نفع بني الإنسان، فقال له: إنه خرج مع طائفة من صحبه إلى نزهة خلوية تطهو طعامها على نار مستمدة من الكهربا: «ويشتعل فيها الكحول بشرارة تعبر النهر من شاطئ إلى شاطئ بغير موصل غير الماء، ويقتل فيها ديك رومي بالهزة الكهربية، وينضج على سفود تديره الكهربا أمام نار مقدوحة من القناني الكهربية، وعما قليل يستطاع أن يشرب نخب الكهربيين المشهورين في إنجلترا وهولندا وفرنسا وألمانيا في أكواب مكهربة ترعش الشفاه قليلا عند مساسها بفعل التيار المنبعث من بطرية كهربية.»
3
ومنافع الكهربا اليوم لا تحصى، ولا يضارعها شيء مما كان يستخدم قبلها في الصناعة وتيسير أعمال الناس أو تيسير الأعمال للملايين من المهندسين والصناع والتجار والوسطاء بين الصناعة والتجارة، ولكن فرنكلين استطاع أن يقنع العالم بفائدة لها تساوي جهود المئات من العلماء في المئات من السنين؛ لأن العمود الذي اخترعه للوقاية من الصواعق قد وازن تلك الجهود وأربى عليها، ولم يوازنها ويرب عليها عند الذين أصابتهم الصواعق أو تعرضوا للإصابة بها حيث يتتابع نزولها، بل هو قد وازنها وأربى عليها عند الملايين من الذين لا يتعرضون للصاعقة، ولا يعرفون منها إلا اسما يهول ويتردد في مقام الإنذار والوعيد، ووازنها وأربى عليها عند أرباب الخيال الذين تصورا جوبيتير على السحاب وتصوروا فرنكلين على الأرض ندين يتبارزان، ويخلع الند البشري منها سلاح الند السماوي المقدس في ملاحم الشعر ومزاعم الأساطير.
ولم يعدم المازحون قائلا يقول: «إن عمود الصواعق قد صب على فرنكلين صواعق الغضب والنقمة من عاهل في الأرض يناظر جوبيتير في السماء، ذلك هو جورج الثالث ملك إنجلترا في أيام الثورة الأمريكية». فإنه كره أن يشيع في العالم اختراع رجل ثائر على التاج ولم يقدر على منعه وتحريمه؛ لأن خوف الناس من صواعق السماء أعظم من كل خوف يخافونه من صاحب التاج، فتوسل بكل وسيلة يقدر عليها لهزيمة فرنكلين في هذا الاختراع.
وكان فرنكلين على طريقته البسيطة قد عرف أن كهربا السحاب تنجذب إلى الموصل السهل فتسري فيه ولا تصطدم بعائق على الأرض تنفجر الصاعقة من جراء المصادمة بينها وبينه، فاختار لجذب الكهربا السحابية وتوصيلها إلى الأرض بغير عائق وبغير مصادمة عمودا قائما ينتهي إلى أسلاك صالحة للتوصيل بالكهربية الأرضية، وفضل العمود المسنن على العمود المستدير من أعلاه؛ لأنه يقلل المصادمة وبواعث الانفجار.
Bog aan la aqoon