قال وهو يهدي الحكاية، أو العبرة، إلى تلك السيدة:
تذكرين يا صديقتي العزيزة أنني في ذلك اليوم السعيد الذي قضيناه في الحديقة البهجة والصحبة الحلوة عند مولان جولي، قد تنحيت هنيهة عن الزمرة وتخلفت وراءها قليلا منفردا بنفسي، وقد رأينا أثناء ذلك عددا كبيرا من «الهياكل العظمية» لذلك الذباب الذي يسمونه تارة «بالمنا» وتارة بذباب الربيع، وقيل لنا: إن أجيالا منه تحيا وتموت وتتعاقب في مدى النهار الواحد، وصادفني جمع من هذا الذباب منعقدا على ورقة من أوراق الشجر مستغرقا في الحوار والجدل، وأنت تعلمين أنني بألسنة هذه الخلائق الدنيا خبير.
إن اشتغالي بألسنة هذه الأحياء لهو العذر الذي أعتذر به من التقدم البطيء في تعلم لسانكم الجميل، فأصغيت - بداعي الفضول - إلى حديث المؤتمر، ولم يتيسر لي أن أستوضح جلية القول من كل حديث؛ لأنهم كانوا في اندفاعهم وحمية شبابهم يتكلمون كل أربعة أو خمسة في وقت واحد. إلا أنني أدركت من كلمة هنا وكلمة هناك أنهم يتناقشون في المفاضلة بين الطنين الذي يسمع من إحدى مدارس الذباب الغنائية والطنين الذي يسمع من المدرسة الأخرى، وكانوا مستغرقين في هذه المناقشة كأنهم على ثقة من امتداد العمر بهم شهرا أو يزيد.
قلت في نفسي: ما أسعد هؤلاء القوم! وقلت كأنني أخاطبهم: لا شك أنكم تعيشون في ظل حكومة رفيقة عادلة، لا تشغلكم بالشكايات والمظالم عن الاسترسال في أمثال هذه الأحاديث عن الموسيقى الأجنبية التي تبحثون في محاسنها أو عيوبها، وأدرت بصري عنهم، فلمحت واحدا منهم أشيب الرأس منفردا على ورقة أخرى يناجي نفسه نجاء أعجبني وراقني، فدونته على الورق لساعته.
كان هذا الحكيم الذبابي يقول: إن حكماء أمتنا الذين عاشوا قبلنا منذ عصر بعيد يقولون: إن هذا العالم الفسيح المسمى بالمولان جولي لن يعمر أكثر من ثماني عشرة ساعة، وأخالهم على حق فيما يقولونه؛ لأن هذا النهر العظيم الذي تتولد منه الحياة كلها قد مال في حياتي إلى جانب البحر المحيط حيث يغرق لا محالة، وينطفئ وتخمد معه شعلة الحياة في كل مكان، ويدع هذا العالم الكبير مطويا في غمرة البرد والظلام.
ولقد عشت سبعا من هذه الساعات - عمرا طويلا ولا ريب؛ لأنه لا يقل عن أربعمائة وعشرين دقيقة، وما أقل الذين يعمرون منا مثل هذا العمر الطويل! لقد أبصرت بعيني أجيالا تولد، وتحيا، وتموت، وصحابتي اليوم إنما هم الأبناء والحفدة لمن كانوا صحابة لي في ريعان الشباب، ولم يبق منهم أحد أراه وا أسفاه.
وإني لا محالة لاحق بهم عما قريب؛ فإنني - وإن كنت في صحة وعافية - لن أخرق قانون الطبيعة، ولا مطمع لي في البقاء بعد سبع دقائق أو ثمان. فما غناء هذا العناء الذي عانيته وهذا الشهد الذي جمعته على هذه الورقة حيث أتركه ولا أنعم بمذاقه؟ ما غناء الغزوات السياسية التي غزوتها في سبيل هذه الجماعة على تلك الأجمة؟ ما غناء الفلسفة ومعضلاتها التي تعمقت فيها عسى أن أفيد بها أبناء النوع كله؟ وما غناء القانون في السياسة بغير أخلاق؟
إن جيلنا الحاضر من ذباب الربيع لوشيك أن يخالطه الفساد والمنكر خلال لحظات، ويصبح كغيره وغيره من سكان تلك الأجمات في ضروب الفساد والشقاء، أما الفلسفة، فما أقصر الخطى التي خطوناها في مضمارها! وما أصدق قول القائلين: إن الفن لطويل، وإن العمر لقصير.
ويواسيني أصدقائي، فيذكرون لي السمعة التي سأتركها من بعدي ويقولون لي : أنني استوفيت حكم الطبيعة، وحكم المجد أجمعين. فماذا تجدي السمعة ذبابة قد فنيت وليس لها من وجود؟ وماذا يبقى من التاريخ كله بعد الساعات العشر والثمان، وبعد فناء الدنيا وفناء المولان جولي نفسها في غيابة الظلام والخراب؟
إنني - بعد السعي الحثيث والدأب الطويل - لم يبق لي من متعة في العمر غير التدبر في تلك الأيام الطوال التي أحسنت فيها المقصد والنية، وغير الأحاديث التي أبادلها نخبة من الذبابات الطيبات، وغير ابتسامة من حين إلى حين، أو أغنية في يوم بعد يوم، تجود بهما الحبيبة الحسناء.
Bog aan la aqoon