Bina Umma Carabiyya
منهاج مفصل لدروس في العوامل التاريخية في بناء الأمة العربية على ما هي عليه اليوم
Noocyada
وقد بلغت هذه الحالة أسوأها خلال القرن الثامن عشر، وشقيت بها طوائف التجار من أجانب ومن أبناء البلاد وطوائف أهل الصناعات، إلا أن أشقاهم كان الفلاحين؛ فإن التجار والصناع كانوا يملكون من الوسائل ما يدفعون به عن أنفسهم بعض الشر؛ فالتجار كانوا يستطيعون بشيء من البذل أن ينقذوا لأنفسهم شيئا، والصناع كانوا يملكون بأدوات التجمهر في المدن دفع الظلم. أما الفلاحون فلم يستطيعوا كثيرا، فهم لا يملكون الاتحاد والعمل المشترك، وليس لهم عدو واحد، فقد يكون صاحب عصابة من الجند، وقد يكون عدوهم عشيرة تزحف عليهم وتتطفل عليهم إلى أن تميتهم.
وحتى القرن الثامن عشر لم ينته تطور الحوادث في البلاد العربية عند نتيجة، فالعجلة - إن صح التشبيه - تدور ولا تقف عند شيء، كان يصح مثلا أن يستولي على أزمة الحكم مغامر أو غاصب من نوع علي بك الكبير في مصر، وأن يقيم حكما مستقلا يتخذ لنفسه أساسا قوميا، ولكن لم يحدث شيء من ذلك، وكان يصح مثلا أن تتمكن الدولة من أن تعيد للحكومة الشرعية سلطانها، ولكن الدولة حتى آخر القرن الثامن عشر لم تستطع إلا أن تسقط غاصبا أو مغامرا بالذات لا أن تستأصل الغصب، وكان يصح أن يظهر من أبناء البلاد زعيم يطالب برفع الظلم عن بني قومه، وأن ينادي بأن أكثر الظلم واقع على العرب، وأن الظالمين في أكثر الأحوال من الغرباء، ولكن الذين تحدثوا ضد الظلم لم يتحدثوا عنه على هذا الأساس إنما تحدثوا عما يجب للمحكوم من الحاكم.
وكان الذي حدث آخر القرن الثامن عشر شيء لم يكن أحد يتوقعه - هو الغزو الأوروبي - وقد قطع هذا الغزو دورات العجلة فانفتح المجال لتطورات ... فلننتقل إلى ذلك الغزو.
الموضوع الثالث
الغزو الأوروبي: الحملة الفرنسية على مصر وسوريا 1798-1801
يتصل مشروع الفرنسيين امتلاك مصر وسورية عند آخر القرن الثامن عشر بأكثر من أصل؛ يتصل بالحرب بين فرنسا وأعدائها في عهد الثورة الفرنسية، وبالتنافس الاستعماري القديم بين فرنسا وبريطانيا، وبالرغبة في بناء إمبراطورية فرنسية جديدة في حوض البحر المتوسط؛ أي بجعل سواحل ذلك البحر المجال الحيوي لاستعمار فرنسي من نوع جديد مؤسس على مبادئ الثورة الفرنسية والانقلاب الصناعي الجديد، كما يتصل أخيرا بالتاريخ الداخلي للثورة الفرنسية وتطورها نحو القيصرية - كما تطورت الجمهورية الرومانية نحو القيصرية - والذي يلفت النظر أن مصر اتصلت بالفصول الأخيرة من زوال الجمهورية الرومانية وزوال الجمهورية الفرنسية.
واحتلال الفرنسيين مصر وإن كانت مدته قصيرة يستحق العناية لأكثر من سبب يهم الذي يدرس الحروب؛ فهو يوضح مثلا أهمية المواصلات البحرية للفتوح عبر البحار؛ فالواقع أنه بعد أن حطم نلسون الأسطول الفرنسي في خليج أبي قير كان إخفاق الفرنسيين في المحافظة على مصر أمرا محققا طال أو قصر احتلالهم لها. ويهم المتتبع لظهور مسألة مستقبل مصر في السياسة الأوروبية ولتاريخ العلاقات بين الدولة العثمانية والدول الأوروبية عموما وللعلاقات بين العرب وأوروبا خصوصا.
لقد سبق الحملة الفرنسية علاقات بين الدول الأوروبية والإمارات والشياخات على سواحل الجزيرة العربية وأفريقية الشرقية. على أن العلاقات مست العروبة على الهامش - إن صح التعبير - ولم تمس القلب. ولقد سبق الحملة الفرنسية بدء سيطرة الدول الاستعمارية الكبرى، الروسيا وهولاندة وبريطانيا وفرنسا على دول وإمارات إسلامية في أواسط آسيا وجزائر الهند الشرقية والهند. ولكن هذه السيطرة لم تمس أيضا قلب العروبة، ولقد سبق الحملة الفرنسية إنشاء علاقات بين فرنسا والروسيا وبعض الطوائف المسيحية من رعايا السلطان، ولكن هذه العلاقات كانت أقرب إلى تكوين ما عرف في زماننا باسم «الطابور الخامس» منها إلى تكوين ملك فرنسي دائم فيما وراء البحار وفي الأقطار العربية، ويحكم طبقا لمبادئ وتحقيقا لأهداف ستكون ذات أثر في تحديد سياسة فرنسا في المستقبل نحو العرب والإسلام في المغرب.
هذا كله من الناحية العربية العامة. أما من الناحية المصرية الخاصة، فالحملة الفرنسية حركت تطورات وتغيرات على درجة كبيرة من الخطورة أثبتت إفلاس النظم القائمة، وحطمت قوة المماليك، وأتاحت للسلطنة فرصة استرداد سلطانها الشرعي، وأثبتت السلطنة عجزها عن أن تفعل، وأطلعت الناس على ألوان من الحضارة الغربية قدروها أو أنكروها، ولكنهم في الحالتين لا يستطيعون إغفالها أو الإعراض عنها، وفوق هذا كله أثبت الاحتلال الفرنسي ما ستعيد الاحتلالات الأجنبية إثباته في مصر وفي غير مصر، وهو أنه لا يستطيع تقديم الأساس الصالح للتقدم أو التعاون المثمر بين مختلف المجتمعات.
والاحتلال الفرنسي يثير مسائل كثيرة جديرة بالاعتبار منها: لم اضطر الفرنسيون للانسحاب من مصر، ولم بقوا في الجزائر على الرغم من أن الجزائريين كافحوا كفاحا مريرا في الدفاع عن وطنهم؟ ظاهر أن الدولة العثمانية في سنة 1830 لم تبذل شيئا في سبيل الجزائر، ولكنها بذلت في سنة 1798 شيئا كثيرا في سبيل الاحتفاظ بمصر. وظاهر أن الاحتلال الفرنسي للجزائر لم يجد المقاومة المسلحة من جانب الدول الأوروبية التي وجدها احتلالهم لمصر في سنة 1798 من جانب البريطانيين والروس، ومنها: في 1798 ابتداء الربط في نظر السياسة البريطانية بين مصر والهند.
Bog aan la aqoon