Bila Quyud
بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية
Noocyada
ثانيا: كل هذه الأنهار الكبيرة البطيئة الجريان كانت تغمرها أمطار الربيع أو الصيف كل عام، وكان الطمي الذي تحمله الفيضانات السنوية يجدد أراضي الزراعة الواقعة على امتداد ضفاف الأنهار برواسب جديدة من التربة الخصبة. وكان هذا يضمن عدم اضطرار السكان قط للانتقال بحثا عن أراض زراعية أجدد وأخصب؛ إذ تتدفق المياه عند مصب هذه الأنهار الهائلة تدفقا بطيئا جدا عند اقترابها من البحر؛ مما يتيح لحبيبات الطمي الدقيقة المعلقة في النهر الاستقرار في القاع. مع مرور الوقت، صارت كميات ضخمة من الطمي مترسبة عند مصبات الأنهار، مكونة دلتاوات شاسعة ذات جزر عديدة خصبة التربة، تحيط بها أراض رطبة ذات مستنقعات ومسطحات مائية ضحلة. تبلغ مساحة دلتا نهر النيل مائة ميل من الشمال للجنوب، وتشغل مائة وخمسين ميلا من ساحل البحر المتوسط، وتبلغ مساحتها نحو عشرة آلاف ميل مربع.
كذلك شجعت طبيعة هذه الأنهار الشعوب التي عاشت على ضفافها على وضع خطط لمشروعات طويلة الأجل - مثل تجفيف مستنقعات الدلتاوات وإنشاء أنظمة لري السهول الفيضانية المنبسطة - مما أوجد مساحات جديدة من الأراضي الزراعية الخصبة، لكن مثل هذه المشروعات تطلبت تعاونا وثيقا بين أعداد كبيرة من الأشخاص، وهو الشيء الذي كان قد تحقق بالفعل حين خضع العديد من المستوطنات الصغيرة والعمال الذين عاشوا فيها لسيطرة سلطة مركزية واحدة.
ثالثا: وفرت الأنهار طريقا طبيعيا ربط بين المئات من المدن والقرى التي نشأت على امتداد ضفافها؛ مما أطلق شرارة بداية فترة غير مسبوقة من التجديد في تقنية صناعة القوارب. استخدمت شعوب الصيد وجمع الثمار القوارب والأطواف والزوارق ذات المجاديف الأحادية والثنائية قبل ظهور الزراعة بزمن طويل، لكن هذه الأشكال الأولى من وسائل النقل المائي تطورت سريعا إلى أنواع أكبر كثيرا من قوارب قادرة على السفر لمسافات طويلة في اتجاه منابع الأنهار ومصباتها. وأثمر هذا توسعا هائلا في السفر والتجارة بين المستوطنات الزراعية المتعددة في أودية الأنهار؛ مما مكن المدن والقرى النامية من شحن حمولات ثقيلة من الغلال والجلود والأخشاب والحيوانات والأواني الفخارية بسهولة من مستوطنة إلى أخرى بالنقل النهري؛ فقد كان باستطاعة طاقم قليل الأفراد على متن صندل أو مركب نهري أن ينقل شحنة تزن آلاف الأرطال، في حين كان نقل حمولات بهذا الحجم برا يتطلب أعدادا ضخمة من البشر أو الدواب.
مهود الحضارة: بلاد الرافدين ومصر والهند والصين
ظهرت أقدم المجتمعات المتحضرة أول ما ظهرت في الوادي الشاسع المسمى «بلاد الرافدين» الواقع بين النهرين الكبيرين دجلة والفرات في العراق حاليا. فظهرت الحضارة السومرية في جنوب وادي دجلة والفرات بعد عام 3500 قبل الميلاد،
2
وبعدها بعدة قرون ظهرت الحضارة الأكادية في شمال وادي دجلة والفرات.
بنى كل من السومريين والأكاديين قنوات ري وخلفوا أدلة وفيرة على وجود إدارة مدنية مركزية تدعمها بيروقراطية معقدة؛ فقد مكنهم ابتكارهم المبكر للكتابة من إعداد سجلات بالضرائب والخراج، وكذلك من سن نظام قانوني مكتوب، وقد شيدوا داخل مدنهم المحصنة معابد وقصورا ومخازن وأضرحة معقدة البناء. في البداية كان رجال الدين يحكمون حضارة بلاد الرافدين، لكن فيما بعد فرضت مع ظهور الملوك والمنظومة العسكرية الضرائب وأموال الخراج التي تدفقت من الريف إلى المدن.
في الوقت نفسه تقريبا، نشأت إحدى أبرز حضارات العالم القديم في وادي نهر النيل. حضارة مصر القديمة، التي كان الإغريقيون والرومانيون القدماء يعدونها أعرق المجتمعات في التاريخ وأكثرها حكمة، مشهورة بمعابدها وتماثيلها وأهراماتها الشاهقة، ونصوصها المستفيضة المكتوبة بالهيروغليفية، وبإنجازاتها الهندسية والمعمارية التي قلما ضاهتها إنجازات منذ ذلك الوقت، لكن من الإنجازات الأقل شهرة للحضارة المصرية مهارة المصريين القدماء المبكرة في بناء السفن والإبحار، والتي كانت نتيجة طبيعية لموقع مصر الجغرافي على ضفاف نهر النيل، الذي هيمن على كل جوانب المجتمع والثقافة المصرية.
شكل 7-1: ظهرت أوائل الحضارات المدنية في الهلال الخصيب، في وادي نهري دجلة والفرات في بلاد الرافدين أولا، ثم في وادي نهر النيل في مصر لاحقا.
Bog aan la aqoon