Bila Quyud
بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية
Noocyada
15
صاغ روبرت بيتس جرابر اختصاصي علم الإنسان أحدث تعبير عن هذا النهج من التفكير، وقد كتب يقول في عام 2000: «أولى الأدوات الحجرية، مثل أدوات قردة الشمبانزي، كانت مصنوعة دون شك من مادة أكثر مرونة من الحجر ... من المحتمل تماما بالطبع أن العصي المدببة - التي اعتمد عليها بدرجة كبيرة جامعو الطعام من البشر من أجل البقاء على قيد الحياة، باعتبارها عصي حفر ورماحا، لكنها غير مألوفة بين السعادين والقردة - ربما كانت هي الأداة التي رجحت كفة القامة المنتصبة بشكل قاطع في ميزان الانتقاء الطبيعي.»
16
لعبت القدرة على حمل واستخدام رمح طويل بدرجة تكفي لمهاجمة حيوان آخر وقتله بعيدا عن مدى أسلحته العضوية دورا كبيرا في البقاء على قيد الحياة؛ فبمجرد أن تبنى أسلاف أشباه البشر تقنية الرماح أصبح لدى الأفراد الذين استطاعوا الوقوف بثبات على قوائمهم الخلفية - أثناء الوخز بالرمح بأطرافهم الأمامية ورميه - ميزة واضحة على منافسيهم. وكلما استطاع هؤلاء الأفراد البقاء واقفين لمدة أطول، واستطاعوا السير والعدو لمسافات أبعد، وصارت الأسلحة التي يمكنهم حملها أضخم وأثقل؛ كانت قدرتهم على الدفاع عن أزواجهم وأبنائهم ضد الهجمات من الضواري المحتملة أكثر فاعلية، وزادت كمية اللحم التي يستطيعون العودة بها ليتقاسموها مع أعضاء آخرين في المجموعة. لكل هذه الأسباب كان دور الرماح المصنوعة في التمكين من البقاء على قيد الحياة كافيا ليأتي بهذه التغييرات التشريحية الكبرى الضرورية ليتطور حيوان يمشي على أربع إلى حيوان يمشي على قدمين.
رصدت سلوكيات من النوعية التي قد تكون قد أدت إلى استخدام الرماح بين قردة الشمبانزي والغوريلا، من تحطيم فروع الأشجار والتلويح بها كثيرا أثناء الاستعراض التهديدي، كما أشرنا في الفصل الأول. يمكن سن الخشب المرن للفروع النضرة بسهولة؛ وذلك بحكه ببروز صخري أو اللحاء الخشن لبعض الأشجار المدارية. وقد شوهدت قردة الشمبانزي البرية، في السنغال في غرب أفريقيا، وهي تصنع رماحا خشبية بنزع الفروع واللحاء عن عود خشب مستقيم، وتسن أحد طرفيه بأسنانها، وتستخدمه في قتل حيوانات الجلاجو، بطعنها في فجوات الأشجار وهي نائمة.
لكن إذا كان عدد كبير من الأنواع التي عاشت في عصور ما قبل التاريخ قد صنعت الرماح وعصي الحفر واستخدمتها لملايين السنين، فلماذا لم يعثر على بقايا هذه الأدوات والأسلحة الخشبية في المواقع الأثرية التي تعود إلى هذه الفترات الزمنية؟ هذه إحدى الحالات الكلاسيكية التي يكون فيها «عدم وجود الدليل ليس دليلا على عدم الوجود»، تلك الظاهرة التي ذكرتها في المقدمة.
لفترة طويلة ظل أقدم ما عثر عليه من الأدوات الأثرية التي صنعها البشر من الخشب لا يتعدى عمرها بضعة آلاف السنوات، واختلف علماء الآثار بشدة حول عمر هذه القطع، لكن لوقت طويل ظلت وجهة النظر السائدة هي أن صنع الأسلحة الفتاكة من الخشب - واستخدام هذه الأسلحة في التعاون على صيد الحيوانات الكبيرة - لم يبدأ قبل ظهور الإنسان الحديث تشريحيا منذ ما يقرب من 50 ألف عام.
لذلك كانت صدمة للأوساط العلمية عام 1997م، حين استخرج أخيرا من أحد السبخات القديمة في شونينجين في ألمانيا عدة رماح خشبية خفيفة دقيقة الصنع ومتوازنة تماما عمرها نحو 400 ألف عام، لكن بسبب الطبيعة الشديدة الحمضية لهذه السبخات وانعدام الأكسجين فيها فقد «تخلل» الخشب بالمعنى الحرفي للكلمة؛ مما حفظ تلك الرماح من التآكل البكتيري. كانت رماح شونينجين من صنع الإنسان المنتصب القامة، أحد البشر الناشئين، الذي استخدمها فيما يبدو لصيد الخيل البرية قبل ظهور الإنسان الحديث بزمن طويل.
صنعت رماح شونينجين من خشب أشجار الطقسوس المعالج بالنار، ولم تتطلب صناعتها قطع أشجار كبيرة الحجم فحسب، وإنما انتزاع الجزء الأكثر مرونة من جذع الشجرة من الخارج للكشف عن خشب القلب الأكثر صلابة بالداخل . وكان من الضروري حينذاك أن يقوى طرف الرمح في النار. وكانت هذه عملية دقيقة، ولا بد من إجرائها دون تفحم الخشب.
كان من الضروري أيضا جعل الطرف الأمامي من الرمح الخفيف أسمك وأثقل من الطرف الخلفي، تماما مثل الرماح الحديثة التي تصنع الآن. ومما يلفت النظر أن مركز الجاذبية في رماح شونينجين يقع عند الثلث الأول من مقدمة الرمح بالضبط، وهي نقطة التوازن الأمثل للإلقاء به، بل ومطابقة لنقطة التوازن في الرماح الخفيفة الحديثة المستخدمة حتى اليوم. هذا السلاح المعقد - الذي يعطي دليلا واضحا على التخطيط المتقدم والمعرفة التقنية الدقيقة في الأعمال الخشبية - صنعه الإنسان الناشئ، الإنسان المنتصب القامة، الذي عاش قبل إنسان النياندرتال بزمن طويل، وكان دماغه أصغر من أدمغتنا بدرجة كبيرة. ولم يكن ذهن الإنسان المنتصب القامة ليتفتق عن المعرفة الدقيقة بالأعمال الخشبية، المشتملة على عمليات معقدة متعددة الخطوات، فجأة في أكمل صورها؛ فهي بالأحرى نتاج التراكم البطيء للمعرفة عبر آلاف الأجيال، التي تعود لما قبل ظهور هؤلاء البشر الناشئين إلى فجر أشباه البشر الأوائل.
Bog aan la aqoon