تقديم
رواية الأزهر وقضية حمادة باشا
تقديم
رواية الأزهر وقضية حمادة باشا
بداية المسرح التسجيلي في مصر
بداية المسرح التسجيلي في مصر
مسرحية الأزهر وقضية حمادة باشا نموذجا
تأليف
سيد علي إسماعيل
تقديم
قليلة ونادرة هي الكتب القديمة المجهولة التي تغير حقيقة ثابتة في مجال الأدب المسرحي، وتضيف - في الوقت نفسه - تاريخا مجهولا لم يك معروفا من قبل في تاريخ المسرح المصري. والأمر الصعب الذي يصادف الباحثين دائما هو كيفية الوصول إلى هذه الكتب؛ خصوصا إذا كان الحصول عليها أشبه بالمستحيل، وذلك لقدمها وندرة نسخها! ولحسن طالع مصر أن حباها الله بوجود المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية، الذي يعتبر صرحا شامخا تفتخر به الأمة المصرية والعربية؛ لما يحتويه من كنوز تراثية فنية وأدبية يندر وجودها في أي مكان آخر.
والكتاب الذي تطلع عليه الآن - أيها القارئ العزيز - هو أحد إصدارات المركز القومي، وهو أحد الكتب القليلة النادرة التي ستغير حقيقة ثابتة في مجال الأدب المسرحي؛ تلك الحقيقة التي تغنى بها الكتاب والباحثون، والتي تقول إن بيتر فايس «الألماني» هو رائد المسرح التسجيلي في العالم منذ 1964، ولكن بعد قراءة هذا الكتاب - وتحديدا بعد قراءة البحث المرفق به - سينتابك الشك في هذه المقولة الشهيرة شيئا فشيئا؛ لتصل في النهاية إلى الاطمئنان بأن حسن مرعي «المصري» هو رائد المسرح التسجيلي منذ عام 1906.
كما أن هذا الكتاب - بالإضافة إلى بحثه المرفق - سيضيف تاريخا مجهولا لم يك معروفا من قبل في تاريخ المسرح المصري؛ حيث إن دراسات الباحثين السابقين أثبتت أن الألمان هم رواد المسرح التسجيلي في العالم منذ منتصف القرن العشرين، ولكن هذه الحقيقة التاريخية ستقف عاجزة أمام هذا الكتاب الذي يحتوي على أدلة منطقية تثبت أن مصر كانت سباقة إلى ريادة المسرح التسجيلي عالميا منذ أوائل القرن العشرين.
والكتاب الذي بين أيدينا الآن يحمل بداخله نصا مسرحيا تراثيا تم طبعه لأول مرة عام 1909، والطبعة التي بين أيدينا الآن هي طبعته الثانية؛ حيث أراد الأستاذ الدكتور سامح مهران؛ رئيس المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية، إعادة نشره، فكلفني بكتابة كلمة عنه على سبيل التقديم، ولكن عندما قرأت النص قراءة متأنية اكتشفت أنني وقعت على كنز ثمين لا يمكن وأده في مقدمة أو دراسة عادية، بل يجب علي أن أكتب بحثا علميا يليق به ويتناسب مع قيمته؛ لأنني أعتبر هذا النص المسرحي اكتشافا كبيرا يضاف إلى اكتشافات الباحثين في تاريخ المسرح المصري.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن مسرحية «الأزهر وقضية حمادة باشا» لها قيمة تاريخية تعليمية وتربوية، بالإضافة إلى قيمتها الفنية؛ حيث إنها تؤرخ لأول اعتصاب قام به طلاب الأزهر الشريف طوال تاريخ الأزهر الديني والتعليمي، وهذا الاعتصاب أخذ شكل ثورة ومظاهرات قام بها الطلاب من أجل إلغاء قانون الأزهر عام 1908، الذي كان يهدف إلى تغيير بعض المناهج الدراسية، وإضافة مناهج جديدة ومواد علمية معاصرة؛ بهدف تطوير الأزهر علميا في الظاهر، وتقليل أهميته الدينية والتعليمية وإضعاف أثره الاجتماعي في الباطن.
لذلك رفض طلاب الأزهر هذا المخطط، وقاموا بالاعتصاب، وامتنعوا عن تلقي الدروس، وأصبح الأزهر خاويا من طلابه وعلمائه طوال شهر كامل، فقام الخديوي وحكومته بتهديد المعتصبين بقطع جراياتهم، فلم ينجحوا في إثناء الطلاب عما عزموا عليه، فقاموا بقطع رواتبهم فصمد الطلاب أكثر فأكثر! فقاموا بمخالفة القوانين بتجنيدهم في الخدمة العسكرية، فتقبل المعتصبون الأمر بشجاعة فائقة! فقاموا بإحاطة الأزهر بالعساكر والسلاح، فلم يكترث المعتصبون بالأمر! فقاموا بإدخال القوة العسكرية إلى صحن الأزهر، فكظم المعتصبون غيظهم! فقام حمادة باشا وأعوانه بجلد الأزهريين داخل الجامع الأزهر، وحول الرواق العباسي إلى سجن زج فيه المعتصبين ... وهنا هاج الشعب المصري ووقف بجانب الأزهريين، وأصبحت القضية قضية رأي عام لم يستطع الخديوي وأعوانه الصمود أمامها، فرضخ أخيرا لمطالب الأزهريين وألغى قانون الأزهر الجديد، وأعاد العمل بالقانون القديم!
الأزهر الشريف.
هذه الحادثة التاريخية التي حدثت منذ قرن تقريبا لا يستطيع المرء حيالها إلا أن يتساءل: أكان الأزهريون مصيبين حقا في ثورتهم ضد تغيير المناهج الدينية وإدخال بعض العلوم العصرية في النظام التعليمي للأزهر الشريف؟ أم كانوا مخطئين؟! أليسوا بثورتهم هذه قد أخروا تطوير التعليم في الأزهر عدة أعوام؟! ماذا كان سيحدث لو قبل الأزهريون تغيير المناهج وإدخال العلوم العصرية في مناهج الأزهر الشريف الدينية منذ عام 1908؟! وهل كان هذا الأمر له علاقة بما حدث منذ وقت قريب - وما زال يحدث حتى الآن - من الدعوة إلى إعادة النظر في مناهج التربية الإسلامية ومناهج اللغة العربية في البلدان الإسلامية والعربية بحجة التطوير والإصلاح؟! أم أن هذه الدعوة تهدف إلى عزل العربي والمسلم عن هويته وعقيدته؟! ... مجرد سؤال!
وفي نهاية هذه الكلمة، أتوجه بخالص الشكر إلى الأستاذ الدكتور سامح مهران؛ رئيس المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية؛ لتكليفه إياي بكتابة هذا البحث الخاص بمسرحية «الأزهر وقضية حمادة باشا»، وإتاحة الفرصة كي أضيف حجرا جديدا في بناء تاريخ ومكانة مسرحنا المصري؛ فإقدام الدكتور سامح مهران على نشر هذه المسرحية يعتبر خطوة جديدة من خطواته السديدة في سبيل الحفاظ على تراث أمتنا المصرية، وكذلك أتوجه بالشكر إلى كافة العاملين بالمركز القومي، وفي مقدمتهم: رضا فريد يعقوب، وأحمد محمد عبد الله، ورانيا عبد الرحمن ... باعتبارهم قادة إدارة التراث المسرحي؛ تلك الإدارة التي تمثل عصب تراث المسرح المصري في المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية.
أولا: الإطار العام (1) الموضوع
يعالج هذا البحث موضوع «ريادة المسرح التسجيلي في مصر» متخذا من مسرحية «الأزهر وقضية حمادة باشا» نموذجا، ويقصد ببداية المسرح التسجيلي تلك الإرهاصات المبكرة للإبداع المسرحي التسجيلي؛ التي اتكأت على أحداث التاريخ توثقها وتسجلها طبقا للمفهوم العلمي للمسرح التسجيلي وسماته المتنوعة كما جاءت في الدراسات التنظيرية والتطبيقية المترجمة عن الألمان، وكذلك في الدراسات العربية. وقد اتخذت الدراسة من المبدع «حسن مرعي» نموذجا لذلك المسرح، تحديدا في الأنموذج المختار؛ وهو مسرحية «الأزهر وقضية حمادة باشا»، المؤلفة في وقت مبكر عام 1909 من أجل تعقب السمات الفنية للمسرح التسجيلي من خلال التحليل؛ طبقا لمعايير الدراسة التي يتبناها البحث للتحقق من أهدافه المرجوة. (2) أهمية الدراسة وأسباب اختيار الموضوع
تعد دراسة المسرح التسجيلي واحدة من أهم دراسات الأجناس الأدبية لفن له خصائصه الدقيقة والمتميزة ؛ حيث إن خيال المبدع فيه محكوم بأطر فنية وأهداف؛ إذ هو لا ينقل لنا تاريخا واقعا كما هو في سرد الأحداث بالحياة. ومن جانب آخر، فهو لا يخرج عن إطار التاريخ والأحداث، وبين هذه وتلك فإنه لا يقع على مجرد حوادث عابرة، ولكنه يقف إزاء قضية لها قيمتها الاجتماعية والإنسانية، يتبنى منها موقفا ينبثق منه خياله الإبداعي، متجسدا في الرؤى الفنية التي يلبسها للأحداث من خلال مسرحتها، بشكل لا يخل بالحقيقة التاريخية؛ ولكنه تحت قناع المسرح في العمل الفني؛ ومن ثم فإن أهمية هذه الدراسة تتمثل في محاولة إلقاء الضوء على باكورة المسرح التسجيلي ونشأته في مصر عام 1909، قبل أن يبتكره الألمان في ستينيات القرن العشرين تطبيقا وتنظيرا، كما أكدت على ذلك بعض الدراسات الحديثة.
ومن زاوية أخرى، فإن الدراسة تحاول أن تميط اللثام عن أحد رواد هذا اللون المسرحي في مصر؛ لتستوضح مدى الدور الريادي الذي يمكن أن ينسب إليه بوضعه على محك معايير التأليف في هذا الفن، ومن ثم يمكن دحض ما أقرته بعض الدراسات العربية من أن مصر وليبيا عرفتا هذا اللون المسرحي في سبعينيات القرن العشرين.
1
هذا بالإضافة إلى أن ندرة النص المسرحي الذي تتناوله الدراسة في هذا الفن يجعل منه قيمة جديرة بالدراسة؛ للتحقق من سمات الإبداع الفني فيه، في وقت عاش فيه المؤلف أحداثه ورصدها فنيا، ومنع فيه العمل من التمثيل؛ حيث لا تتوافر - على حد تعقبي للموضوع - من العمل المطبوع غير نسختين؛ الأولى: محفوظة بدار الكتب المصرية وممنوع الاطلاع عليها بسبب تمزقها وتهالكها،
2
والأخرى: محفوظة بالمركز القومي للمسرح والموسيقى: وهي في حالة جيدة نوعا ما، وهي النسخة التي اعتمدت عليها الدراسة. (3) الدراسات السابقة
لم تعن دراسة سابقة - على حد اطلاعي - بتناول أعمال حسن مرعي بالدراسة والتحليل من أية وجهة فنية؛ ناهيك عن مسرحيته «الأزهر وقضية حمادة باشا» على وجه الخصوص، إلا أننا إذا نظرنا إلى الموضوع من دائرة أوسع فيما يخص المسرح التسجيلي: تاريخه وتحديد مفهومه؛ فإننا نجد هناك دراسات عديدة نظرية وتطبيقية تتناوله - خصوصا عن الكتاب الغربيين - ومن هذه الدراسات: معالجة جلال العشري - في صفحات قليلة - مفهوم المسرح التسجيلي في كتابه «لن يسدل الستار: اتجاهات المسرح المعاصر» الصادر عام 1967؛ حيث وضح دور بيتر فايس في ازدهار هذا اللون المسرحي من خلال الإشارة إلى بعض مسرحياته. وتناول الدكتور يسري خميس في تقديمه لمسرحية «مارا صاد»، لبيتر فايس، المنشورة في سلسلة روائع المسرحيات العالمية عام 1967، مفهوم المسرح التسجيلي، وحدد عناصره، وتبنى رأيا يذهب إلى أن الكتاب الألمان هم المؤسسون الفعليون للمسرح التسجيلي.
وتعد دراسة بيتر فايس عن المسرح التسجيلي، التي نشرت لأول مرة في مارس 1968 بمجلة
Theater Heute
الألمانية، الدراسة النظرية الأولى لأسس وملامح ومميزات المسرح التسجيلي. وقد ترجمها ونشرها الدكتور يسري خميس في مقدمته لمسرحية «أنشودة أنجولا» لبيتر فايس؛ التي صدرت ضمن سلسلة من المسرح العالمي في نوفمبر 1970 بالكويت. وفي هذه الدراسة وضع بيتر فايس ملاحظات كثيرة حول المسرح التسجيلي؛ ومنها: أن المسرح التسجيلي مسرح تقريري، وأنه جزئية من مكونات الحياة العامة تعكس بشكل ما وجهة نظر الجماهير العريضة، وأنه مسرح يقف ضد كل الفئات التي يهمها خلق ذلك الجو السياسي المضبب والمظلم والمزيف، وأنه يكتسب أصالته الكاملة من تفسيره للواقع، وأن قوته في أنه يختار من جزئيات الواقع عينة قابلة للاستعمال والعرض نموذجا للأحداث الحاضرة والمهمة، وأنه يضع الحقائق تحت منظار التقييم، وأنه مسرح متحيز، وأغلب موضوعاته لا يمكن أن تقود إلا إلى إدانة موقف معين.
وعالج الدكتور عبد القادر القط في كتابه «من فنون الأدب: المسرحية»، الصادر عام 1978 - من خلال صفحات قليلة - معنى المسرح التسجيلي مع ذكر بعض خصائصه؛ مشيرا في ذلك إلى دراسة بيتر فايس النظرية. وتنتظم دراسة الدكتور علي الراعي في كتابه «المسرح في الوطن العربي»، الصادر عام 1980 بالكويت، سلك هذه الدراسات التي عنيت بمفهوم المسرح التسجيلي؛ حيث تحدث في صفحتين عن مسرحية «يوم الهاني»، الصادرة عام 1976، للكاتب الليبي «الأزهر أبو بكر حميد»، التي اعتبرها د. علي الراعي مسرحية تاريخية لا مسرحية تسجيلية، كما قال مؤلفها.
وتعرض الدكتور إبراهيم حمادة في كتابه «معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية»، الصادر عام 1985، لتعريف مصطلح المسرح التسجيلي، كما تناول الدكتور فاروق عبد القادر في كتابه «مساحة للضوء مساحات للظلال: أعمال في النقد المسرحي»، الصادر عام 1986، بصورة سريعة، معنى المسرح التسجيلي من خلال حديثه عن بيتر فايس، وهو المسلك ذاته الذي صنعه الدكتور أحمد العشري في كتابه «مقدمة في نظرية المسرح السياسي»، الصادر عام 1989؛ حيث وضح سريعا تعريف المسرح التسجيلي. (4) المادة عينة الدراسة ومعايير الاختيار
إذا كانت الدراسة قد حددت لنفسها نقطة محددة الأبعاد في المسرح التسجيلي - لما ذكر قبلا من أسباب - فإن مقتضى البحث العلمي يوجب على البحث أن يحدد بدقة مبنية على معايير واضحة المادة التي من خلالها ستتم معالجة الموضوع من خلال ثلاث نقاط كالآتي: (أ) المؤلف وتاريخه الفني
يعد حسن مرعي من الشخصيات المغمورة تاريخيا في هذا المجال - وهذا شأن البدايات - حيث لا يوجد في الدراسات الحديثة، على قدر اطلاعي، ترجمة وافية تناولت حسن مرعي، ولا يوجد أيضا من كتب عنه أو عن مسرحياته، كما ذكرت الدراسة، من قبل. وما استطاعت الدراسة الحصول عليه عن حسن مرعي هو بعض الأخبار التي نشرت في الدوريات القديمة؛ يمكن من خلالها أن يحدد على وجه التقريب إبداعه المسرحي ونشاطه الفني مع بعض ملامح شخصيته، وهو أمر مهم بالنسبة للبحث لاختبار سبق الريادة في المجال، وكذلك لتحديد آثار الشخصية في العمل الإبداعي.
والأخبار التي بين يدي الدراسة تقول: إن حسن مرعي ولد عام 1880 تقريبا، حيث كان ممثلا شابا بتياترو ألف ليلة وليلة عام 1899، وخصص له إيراد إحدى ليالي تمثيل مسرحية «عرابي باشا»،
3
وفي بدايات القرن العشرين اتجه إلى الصحافة؛ حيث كان صاحب مجلة الصحائف،
4
وفي يوليه عام 1906 ألف أول مسرحية له؛ وهي «صيد الحمام أو حادثة دنشواي». وقد كتبها بعد أقل من شهر من وقوع حادثة دنشواي المشهورة، ثم عزم على تمثيلها بمسرح حديقة الأزبكية في شهر أغسطس؛ ولكن الحكومة منعت تمثيلها، فقام بطبعها وبيعها لعامة الناس.
5
وفي الذكرى الثانية لمذبحة دنشواي حاول حسن مرعي إعادة الكرة مرة أخرى؛ حيث عزم على تمثيل مسرحيته «دنشواي» في يوليه 1908، فتقدم إلى نظارة الداخلية للحصول على تصريح بتمثيلها، ولكن الداخلية بعد أن أخذت رأي الحكمدارية رفضت رفضا باتا قبول تمثيل هذه المسرحية.
6
حسن مرعي.
وفي مارس 1909، نشر حسن مرعي مسرحيته الثانية «الأزهر وقضية حمادة باشا»، وقد ضمنها حادثة اعتصاب طلاب الأزهر.
7
وفي الذكرى الثالثة لحادثة دنشواي احتال حسن مرعي على القانون، فعزم على تمثيل مسرحيته «دنشواي» على مسرح النوفتيه بالتوفيقية دون التصريح له من قبل الداخلية، فقام بطبع التذاكر وتوزيعها على الناس. ولكن اكتشف أصحاب المسرح هذا الأمر فأبلغوا قسم الموسكي، وتم القبض عليه واتهامه بالنصب والاحتيال، وانتهت القضية ببراءته لعدم ثبوت نية النصب والاحتيال لديه.
8
وأمام هذا الأمر نشرت جريدة الأخبار في 2 / 4 / 1911 خبرا قالت فيه: «أصدرت المحافظة منشورا إلى الأقسام بمنع تمثيل خمس روايات؛ وهي: رواية إسرائيل، والوقائع المدهشة، ونابليون، والأزهر، ودنشواي، وشددت على المأمورين بملاحظة ذلك.» وهذا الخبر يشير إلى أن حسن مرعي حاول أكثر من مرة تمثيل مسرحيته دون جدوى؛ مما دعا المحافظة إلى تعميم مصادرة المسرحيتين مع المسرحيات الأخرى المذكورة في الخبر.
وتتوقف الأخبار عن حسن مرعي بضع سنين، بعدها يلاحظ ظهوره مرة أخرى عام 1915؛ لنكتشف أنه كان نزيلا في مستشفى المجاذيب، وقد هرب منها بعد أن تنكر في ملابس سيدة! وبعد هروبه ساعدته فرقة إخوان عكاشة بإعطائه إيراد ليلة خيرية مثلت فيها مسرحية «جناية الملكة»، وقامت بتعيينه وكيلا لها في توزيع التذاكر.
9
ويتنقل حسن مرعي بعد ذلك بين الفرق المسرحية؛ إذ عمل ممثلا عند الريحاني تارة، وإداريا بمسرح برنتانيا، ووكيل إدارة مسرح الماجستيك تارة أخرى.
10
وفي عام 1921 كون فرقة مسرحية أطلق عليها اسم «فرقة الكوميدي العصري»، ومثل بها عدة مسرحيات بمدينة بورسعيد.
11
في عام 1925، كتبت مجلة التياترو المصورة كلمة عن حسن مرعي بوصفه مديرا مسرحيا، فأشادت فيها بكفاءته وحزمه وحسن تصرفه في الإدارة المسرحية، كما حمدت له صراحته وعدم تزلفه للآخرين، وقدرت عدم خشيته أو رهبته أمام عظائم الأمور.
12
وهذا في حد ذاته يعني أن الحس الفني لدى حسن مرعي كان متأصلا في وجدانه، وهذا ما دفع الدراسة إلى أن تجعل منه نموذجا لتحليل عمله. ومن الجدير بالذكر أن الكلمة التي نشرت في مجلة التياترو المصورة كانت آخر ما توفر لدى البحث من أخبار عنه. بعدها اختفت الأخبار عن ذكر حسن مرعي - على حد علمي - ولعله مات بعد ذلك.
13 (ب) المسرحيات
يتمثل نتاج حسن مرعي طبقا للمتاح بين يدي الدراسة من مصادر ومراجع في مسرحيتين؛ الأولى: «حادثة دنشواي» عام 1906، والأخرى: «الأزهر وقضية حمادة باشا» عام 1909. وستتناول الدراسة المسرحية الثانية - رغم أن المسرحيتين مشتركتان في عنصري الطباعة والمنع من التمثيل - لأن مسرحية دنشواي مفقودة حتى الآن، ولا توجد منها نسخة في دار الكتب أو في المركز القومي للمسرح. وهذا يعني أن 50٪ من نتاج حسن مرعي الفني ليس متوافرا؛ ومن ثم اعتمدت الدراسة على المسرحية الثانية نموذجا للتحليل والتطبيق، وهي تمثل 50٪ من نتاجه. وهذه المسرحية تقع في أربعين ورقة من القطع الصغير، ستتناولها الدراسة كاملة مع استكشاف السمات الفنية، وعلاقة الحدث الدرامي بالحدث التاريخي ... إلخ أهداف البحث المنطوية عليها الدراسة. (ج) الحدث التاريخي
اعتمدت مسرحية «الأزهر وقضية حمادة باشا» على حدث تاريخي سجله الكاتب فنيا، وهذا الحدث عني به مصدران للكشف عن لثامه؛ الأول: العمل الفني، والثاني: ما سجلته الصحف في تاريخ القضية إبان وقوعه؛ لذلك فقد جعل من تلك الصحف مصدرا مساندا للعمل؛ لكون الدراسة تبحث عن سمات المسرح التسجيلي، وكيفية توظيف الحدث فنيا بطريقة لا تخل به واقعيا؛ ولهذا فقد تعقبت الدراسة الصحف التي عنيت بالموضوع، فوقعت على ثلاث صحف قامت بتسجيل الأحداث التاريخية التي تناولتها المسرحية بطريقة فنية؛ وهذه الصحف هي: الجريدة واللواء والمؤيد، ويقوم هذا التحديد على ثلاثة معايير؛ الأول: أنها أكثر الصحف تسجيلا لهذه الأحداث، والثاني: أن بعضها ذكر في نص المسرحية، والثالث: أن مظاهرات طلبة الأزهر توجهت إليها أثناء مسيرتها. وبالرغم من ذلك فسيكون اعتماد الدراسة الأساسي على جريدة الجريدة؛ لأنها كانت جريدة محايدة في الأحداث، بعكس جريدة اللواء التي وقفت بجانب اعتصاب الطلاب وساندتهم، وبعكس جريدة المؤيد التي وقفت ضد اعتصاب الطلاب وهاجمتهم. (5) المنهج والأدوات
لقد حاول البحث أن يجد لنفسه منهجا يمكنه من الوصول إلى أهدافه بيسر ووضوح؛ فاختار المنهج التكاملي الذي يأخذ بحظ من المناهج الأدبية المختلفة؛ كالفني والتحليلي والتاريخي والنفسي والوصفي، الأمر الذي يمكن الدراسة من استقصاء الظواهر المختلفة التي تناولها النص المسرحي، وهو ما يخدم أيضا الأهداف التي تطمح إليها الدراسة. ومن أجل ذلك، ستقوم الدراسة بمعالجة عناصر المسرحية تبعا لتعريف ومفهوم وسمات المسرح التسجيلي، وذلك في ضوء الأحداث التاريخية الفعلية التي صاحبت اعتصاب طلاب الأزهر عام 1909. (6) أهداف الدراسة
إذا كان لكل عمل علمي أهداف يطمح إلى التحقق منها، فقد اختار الباحث هذا الموضوع على وجه الخصوص، وهذه المسرحية وتلك القضية على وجه التحديد؛ وعني بالمنهج والأدوات سالفة الذكر بغية الوصول إلى: (أ)
تتبع بواكير المسرح التسجيلي في مصر. (ب)
تبين سمات المسرح التسجيلي في مسرحية الأزهر وقضية حمادة باشا. (ج)
استيضاح الفروق الفنية للأحداث بين الواقع التاريخي والإبداع الفني. (د)
استكشاف أسس المسرح التسجيلي بين التنظير والتطبيق.
ثانيا: الدراسة التحليلية (1) بواكير المسرح التسجيلي في مصر
لقد رصدت الدراسات التي دارت حول المسرح التسجيلي
Documentry Theater
ملامح هذا المسرح، وحددتها في كونه مسرحا تقريريا يختار مادته من الصحف والأخبار والخطب والبيانات والإحصاءات ... إلخ، ثم تكتب أو تعرض بصورة فنية بحيث لا تبدو المسرحية تسجيلا خالصا للوقائع والأحداث. وعملية اختيار المادة تتم تبعا للموضوع الاجتماعي أو السياسي المشتمل على مضمون إنساني عام يعكس - بشكل ما - وجهة نظر الجماهير العريضة؛ أملا في إبراز عنصر التهييج السياسي في إدانة موقف معين. ولا بد للمؤلف أن يكون محايدا أمام الحادثة التاريخية، ويستطيع إبداء وجهة نظره الإيجابية في الحادثة بصورة غير مباشرة، من خلال اختيار الأحداث وطريقة ترتيبها، دون أن يجعل من نفسه قاضيا على التاريخ.
14
وإذا نظر في تاريخ المسرح المصري - من خلال هذا التعريف - منذ بدايته وحتى عام 1906، فسيلحظ أن أقوى احتمال هو القول بأن معظم المسرحيات التي عرضت، أو التي نشرت في مصر في هذه الفترة لا ينطبق عليها تعريف المسرح التسجيلي. وهذا الحكم جاء بناء على دراسة سابقة؛
15
حيث إن المسرحيات في هذه الفترة تتنوع بين المسرحيات التاريخية، والمسرحيات المترجمة، والمسرحيات الكوميدية، والمسرحيات المعتمدة على التراث الشعبي ... إلخ الأنواع المسرحية التي لا تعزى للمسرح التسجيلي.
ويشذ عن هذا الأمر مسرحية واحدة هي مسرحية «أدهم باشا»،
16
من الممكن تجاوزا أن يطلق عليها مسرحية تسجيلية بناء على ما بين يدي الدراسة من أخبار عنها؛ ففي مارس 1897 نشبت الحرب بين تركيا واليونان، وانتهت بانتصار تركيا بقيادة أدهم باشا،
17
وبعد انتهاء الحرب بقليل مثلت مسرحية باسم «أدهم باشا» في بعض الأقاليم المصرية؛ ظهرت فيها قوة ومهارة الباشا في هزيمة اليونانيين، مما أثر على نفسية الجالية اليونانية في مصر، فحدثت مشاكل بينها وبين من قاموا بتمثيل هذه المسرحية. وفي سبتمبر 1897، عزمت جمعية الاتحاد على تمثيل المسرحية مرة أخرى بالمنصورة، فنبهتها جريدة المقطم إلى عواقب ذلك، وطالبتها بحذف ما يجرح مشاعر اليونانيين منها. وفي يناير 1898، أرادت جمعية السراج المنير تمثيل المسرحية بالمسرح العباسي بالإسكندرية، ولكن محافظ المدينة وحكمدارها منعا تمثيلها رعاية لمشاعر الجالية اليونانية في الإسكندرية.
18
وبناء على هذه الأخبار، يمكن القول إن هذه المسرحية تجاوزا مسرحية تسجيلية؛ وذلك لأن الدراسة لا تملك الدليل على أن تأليفها جاء من خلال أقوال الصحف والتقارير الرسمية التي تحدثت عن هذه الحرب في هذا الوقت، كما أنها لا تملك الدليل على أن هذه المسرحية مؤلفة؛ لأنه من الممكن أن تكون مترجمة عن التركية، ولا تملك أيضا الدليل على أن مؤلفها مصري، فربما يكون تركيا. وأخيرا لا يمكن الجزم أن هذه المسرحية منشورة؛ لعدم وجودها في فهارس دار الكتب أو في مقتنيات المركز القومي للمسرح، والأرجح أنها مسرحية مخطوطة ومفقودة. وهذه الأمور كلها لا تتوافر لها أدلة قاطعة لتثبت أن مسرحية «أدهم باشا» مسرحية تسجيلية بصفة نهائية. ويبقى الأمر مجرد احتمال يفتح طريقا للبحث لتعقبه، أو ربما يتعقبه آخرون.
وإذا عادت الدراسة مرة أخرى إلى تعريف المسرح التسجيلي ستجده مسرحا يعبر عن وجهة نظر الجماهير العريضة؛ أملا في إبراز عنصر التهييج السياسي في إدانة موقف معين. وهذا التعريف بهذا الوصف يحمل بين جنباته موانع رقابية لم تسمح بها أية رقابة مسرحية في مصر طوال تاريخها السياسي؛ فمن غير المعقول أن توافق الحكومة أو السلطة على عرض مسرحية تعبر عن الرأي العام للجمهور في قضية مثارة في الصحف بهدف التهييج السياسي وإدانة موقف معين؛ لأنه من المحتمل - بل من المؤكد - أن هذه الإدانة ستكون موجهة إلى الحكومة أو السلطة الاستعمارية؛ ولهذا السبب ترجح الدراسة أن المسرح التسجيلي في مصر هو المسرح المرفوض رقابيا لأسباب سياسية أو اجتماعية.
وبالعودة إلى تاريخ المسرح المصري منذ نشأته حتى عام 1906، وبالنظر إلى المسرحيات المرفوضة رقابيا؛ سيبرز جليا أنها مسرحيات مرفوضة لأسباب دينية، مثل مسرحية «يوسف» عام 1891، ومرفوضة لأسباب شخصية، مثل مسرحية «قطب العاشقين» عام 1901؛ حيث إنها تعرضت لشخصيات مهمة بالتجريح والتشويه،
19
فضلا عن مسرحية «أدهم باشا» - التي ذكرت قبلا - مع التحفظ في الجزم بأنها مسرحية تسجيلية لما قيل آنفا.
وإذا كانت الدراسة قد جعلت من عنصر الزمان معيارا لتعقب بواكير الريادة في المسرح التسجيلي، فاتخذت من عام 1906 حدا للبحث عن ظهور المسرح التسجيلي في مصر، لكونها تعتقد أن هذا المسرح ظهر في مصر على يد حسن مرعي، عندما كتب مسرحيته «صيد الحمام» أو «حادثة دنشواي» عام 1906. وهذا الاعتقاد - رغم عدم وجود النص وفقدانه حتى الآن - يرجع إلى المنطق وبعض الأخبار المتوفرة عن المسرحية، التي تشير إلى تطابق تعريف المسرح التسجيلي على هذه المسرحية.
فإذا كان المسرح التسجيلي هو مسرح تقريري يختار مادته من الصحف بصورة فنية؛ فإن مسرحية دنشواي لحسن مرعي أقرت حقيقة الحادثة - بدليل عنوانها «صيد الحمام» أو «حادثة دنشواي» - وقد اختار مؤلفها مادتها من الصحف؛ لأنه كان في ذلك الوقت صحافيا يمتلك مجلة الصحائف. ولا توجد صحيفة في ذلك الوقت لم تتحدث عن حادثة دنشواي.
20
وقد قام المؤلف بصياغة مادته الصحفية بصورة فنية، بدليل أن الجنس الأدبي الذي خرجت فيه هو الأدب المسرحي، أي لا بد من وجود شخصيات وحوار وحدث وزمان ومكان ... إلخ، وهذا كله يؤكد أن صياغة المادة جاءت بصورة فنية تبعا لقواعد الكتابة المسرحية.
وإذا كان المسرح التسجيلي يعكس - بشكل ما - وجهة نظر الجماهير العريضة، أملا في إبراز عنصر التهييج السياسي في إدانته موقفا معينا تبعا لتعريفه. إذا كان الأمر كذلك فإن الدراسة لاحظت أن مسرحية دنشواي لحسن مرعي عبرت عن وجهة نظر الجماهير المصرية في ذلك الوقت، وأدانت المحاكمة والاستعمار ودور اللورد كرومر. والدليل على ذلك - رغم عدم وجود النص بين يدي الدراسة - أن المسرحية منعت من التمثيل بأمر من الحكومة والاستعمار. وكفي بالدراسة للتدليل على ذلك ذكر قول جريدة اللواء بتاريخ 12 / 7 / 1906: «منعت الحكومة تمثيل رواية «حادثة دنشواي» التي سبق الإعلان عن تمثيلها يوم 19 أغسطس القادم في تياترو حديقة الأزبكية بمعرفة حسن أفندي مرعي؛ حتى لا تزيد الناس أشجانا، والقلوب أحزانا، بعرض أفظع مظهر من مظاهر القسوة والجبروت.»
لم يبق أمام الدراسة غير التحقق من أن مسرحية «دنشواي» لحسن مرعي اشتملت على عنصر التهييج السياسي. وهذا الأمر لا بد فيه من الاطلاع على نص المسرحية، وهذا أمر ليس متاحا الآن، ولكن - لحسن الحظ - أن عبد الحليم دولار
21
ألف قصة بعنوان «حمام أم حمام دنشواي»؛ كتب في مقدمتها المؤرخة في 20 / 7 / 1906 - مقارنا بين عمله وبين عمل آخر يدور حول حادثة دنشواي - قائلا: «... ولم يكن القصد من وضعها - أي قصته - إلا التفكه بمطالعتها وقت الخلو من العمل، وليس لباعث سياسي يحرك مكامن القراء، ويوقظ في قلوبهم مرامي الهيجة كما خاض البعض في بحار السياسة، فجمع روايته
22
على مبدأ يخالفني تماما، والفرق بين خطتي والخطة التي سلكها بعيد بمراحل شاسعة.»
23
وعلى الرغم من عدم ذكر العمل الآخر الذي يقارن عبد الحليم دولار عمله به، إلا أن كلامه يخص مسرحية «حادثة دنشواي» لحسن مرعي، والدليل على ذلك عدم وجود أي عمل قصصي أو مسرحي يخص حادثة دنشواي قبل صدور قصة دولار غير مسرحية «حادثة دنشواي» لحسن مرعي.
24
وبناء على ذلك يعتبر كلام عبد الحليم دولار دليلا قويا على أن مسرحية «دنشواي» لحسن مرعي كانت تشتمل على عنصر التهييج السياسي، وبذلك يتطابق تعريف المسرح التسجيلي على مسرحية «حادثة دنشواي». وبناء على ما سبق، يمكن القول - وبتحفظ شديد - إن حسن مرعي يعتبر أحد رواد المسرح التسجيلي في مصر، إن لم يكن الرائد بالفعل. (2) سمات المسرح التسجيلي في مسرحية الأزهر
على الرغم من التحفظ الشديد في القول بأن حسن مرعي يعتبر من رواد المسرح التسجيلي في مصر - إن لم يك رائده بالفعل - بناء على مسرحيته «دنشواي» المفقودة؛ فإن هذا التحفظ له وجه آخر عندما تتناول الدراسة مسرحيته الثانية «الأزهر وقضية حمادة باشا» عام 1909؛ وذلك لأن نص المسرحية بين يدي الدراسة، ثم يمكن اختبار معايير المسرح التسجيلي من خلالها - كما مر ذكره آنفا - خصوصا تعريف المسرح التسجيلي. ولكن الملاحظ على هذا التعريف أنه جاء بصورة جامعة لسمات عديدة أوردتها الدراسات السابقة عن المسرح التسجيلي. وطالما النص في حوزة الدراسة الآن، فيجب عليها عدم الاكتفاء فقط بتطبيق تعريف المسرح التسجيلي عليه، بل يجب عليها التحقق من توافر سمات المسرح التسجيلي فيه؛ لذلك فإنه من المفيد لمنهج البحث أن تكون الخطى منظمة من خلال نقطتين؛ أولاهما: عرض ملخص عام لفصول العمل المسرحي المناط بالتحليل، وثانيتهما: اختبار السمات الفنية للمسرح التسجيلي من خلال النص المسرحي المتاح بين يدي الدراسة على النحو التالي: (أ) ملخص عام للمسرحية
تقع مسرحية حسن مرعي «الأزهر وقضية حمادة باشا» عام 1909 في أربعة فصول. أدار أحداث الفصل الأول في ساحة الدرس بالأزهر الشريف من خلال حوار بين الطلاب والعلماء حول مطالب مشروعة من قبل الطلاب؛ يطالبون فيها بتحسين أحوالهم الدراسية والمعيشية التي ساءت بسبب فرض قانون جديد طبق عليهم في الأزهر. وتصاعدت وتيرة الحوار بينهم لتصل إلى درجة اتهام الحكومة والخديوي بسرقة أموال أوقاف الأزهر، وحرمان الأزهريين من حقهم فيها. وينتهي الحوار بإعلان الطلبة اعتصابهم؛ أي امتناعهم عن حضور الدروس في الأزهر حتى تجاب مطالبهم.
وأمام هذا الاعتصاب يجتمع شيخ الأزهر مع علماء وشيوخ الجامع لمعالجة هذا الأمر، ويفهم من الحوار أن شيخ الأزهر قدم مطالب الطلاب إلى أولي الأمر، ولكنهم لم يستمعوا إليه ولم يهتموا بالأمر بسبب تدخل الغرباء في شئوننا - على حد قول المسرحية - ويقصد بذلك الإنجليز. وعندما يلمح أحد الشيوخ بأن الأزهر من اختصاص الخديوي شخصيا ولا دخل للإنجليز في أموره يتصاعد الحوار، ويبين - بصورة تهكمية - أن الخديوي لا يهتم بالأزهر بقدر اهتمامه بتجارته وزراعته الخصوصية، واستبدال أراضيه بأملاك أخرى من الأوقاف، والاحتفاظ بأموال الأوقاف المخصصة للأزهر في خزانته الشخصية. وفي هذا الوقت تأتي الأخبار بأن اعتصاب الطلبة وصل إلى درجة الهياج والثورة، فيقوم شيخ الأزهر بطلب قوة عسكرية للمحافظة على الأمن.
وتنتقل الأحداث في الفصل الثاني إلى قصر عابدين لنرى اجتماعا بين شيوخ الأزهر ورئيس الوزراء وبعض الوزراء المعنيين. وفي هذا الاجتماع نعلم أن الخديوي متغيب لتفقد مزارعه الخاصة، فيطلب شيخ الأزهر من رئيس الوزراء التصرف في أمر اعتصاب الطلبة، فيرد عليه بأنه اكتفى بوجود القوة العسكرية التي تحيط بالجامع الأزهري، وهنا تثور ثورة شيخ الأزهر على الجميع لعدم اكتراثهم بالأمر بالصورة المطلوبة، كما أظهر استياءه من وجود هذه القوة العسكرية التي أحالت الأزهر إلى ساحة حرب لا ساحة علم ودين. وأثناء هذا النقاش تسمع أصوات طلبة الأزهر خارج أسوار قصر عابدين مطالبين بحقوقهم المهضومة، بعد أن قاموا بمظاهرة سلمية واصلت طريقها إلى قصر عابدين، فيقوم رئيس الوزراء بإبلاغ الجموع المحتشدة من الطلاب بأن الخديوي سوف ينظر في مطالبهم قريبا؛ وذلك تسكينا لثورتهم.
وتنتقل الأحداث بعد ذلك إلى ساحة حديقة عامة بالجيزة اجتمع فيها الطلاب المعتصبون، ووقف بينهم خطيب ألقى خطبة حماسية؛ أبان فيها مطالب الأزهريين، كما أبان عيوب النظام الجديد الذي طبق في الأزهر، ومن ذلك: أن العلوم الدراسية المستحدثة في الأزهر أحيل تدريسها إلى أساتذة غير أكفاء، هذا بالإضافة إلى زيادة عدد الساعات الدراسية، حتى إن الطالب لا يجد وقتا لدراسة ما هو مقرر عليه، كما أن الفقر يزداد يوما بعد يوم على طلاب الأزهر، لدرجة أن الطالب لا يجد ثمن الكتب والأدوات المدرسية؛ وذلك بسبب نهب الحكومة لأموال الأوقاف الأزهرية. ويطالب هذا الخطيب رجال الفكر والثقافة والصحافة ونواب الأمة وأعضاء الجمعية العمومية بالوقوف بجانبهم حتى تجاب مطالبهم، ثم تتوالى الخطب الحماسية بعد ذلك من قبل الطلاب؛ لتبين أمورا كثيرة وشروحا أكثر حول هذه المطالب.
وفي الفصل الثالث، تسير هذه الجموع الحاشدة من الطلاب المعتصبين في شوارع القاهرة في مظاهرة سلمية منظمة، في حماية قوة عسكرية تسير بجانبهم، وهم يهتفون بإحياء الإسلام والدين والأزهر والطلبة والخديوي وجريدة اللواء. وعندما وصل الطلاب بمظاهرتهم إلى شارع محمد علي وأمام مبنى جريدة المؤيد، قام عمال المؤيد برشقهم بالحجارة، فشهد هذا الأمر رئيس القوة العسكرية، ووعد الطلاب بأنه سيكون شاهدا على هذه الواقعة، وتدور مناقشات داخل دار المؤيد بين صاحبه الشيخ علي يوسف،
25
وبين مديره سركيس،
26
انتهت بقيام سركيس بإبلاغ المحافظة أن الطلاب يرشقون مبنى الجريدة بالحجارة، ويطالبهم بإرسال قوة عسكرية لحماية المبنى ومن فيه. وفي الجانب الآخر، تدور مناقشة بين طالبين يفهم منها أن صاحب المؤيد كان السبب في إفساد الأمر بين الأزهر وبين الخديوي، كما أنه كان مدافعا عن الأميرة نازلي هانم فاضل؛
27
عندما أهانت المصريين بقولها: إن المصري لا يساوي ثمن الحبل الذي يشنق به.
وفي أثناء ذلك يهتف الطلاب بسقوط المؤيد وصاحبه، ويقومون برشق عمال المؤيد بالحجارة التي تساقطت عليهم، فيحدث هرج ومرج بين الطلاب والقوة العسكرية المصاحبة لهم، وتأتي قوة عسكرية أخرى فتهاجم جموع الطلبة، فتقوم معركة شديدة بين البوليس والطلبة، انتهت بالقبض على ثلاثة من الطلاب وثلاثة من عمال المؤيد، ولكن العمال تم الإفراج عنهم سريعا. أما الطلاب فزج بهم في السجون. وينتقل المشهد بعد ذلك إلى خارج جامع الأزهر لنرى قوة من البوليس تحوطه وتحرس أبوابه، وتمنع الطالب من دخوله طالما لا يحمل بيده تذكرة الدخول، ونعلم من مناقشات الطلاب أن مجلس الوزراء برئاسة الخديوي اجتمع أمس، وقرر السماح فقط لطلاب السنتين الأولى والثانية بدخول الأزهر، ومنع طلاب السنتين الثالثة والرابعة من دخوله؛ لأنهم أساس الاعتصاب، مع شطب أسمائهم وصفتهم الأزهرية؛ لتطبق عليهم لائحة القرعة العسكرية ويتم تجنيدهم، كما قرر المجلس انتداب خليل باشا حمادة - مدير الأوقاف
28 - ليكون مشرفا على الأزهر.
وفي الفصل الرابع والأخير، تنتقل الأحداث إلى داخل الأزهر؛ لنرى المدرسين وسط طلابهم مع وجود المفتشين والملاحظين وحجاب ديوان الأوقاف ممسكين بقضبان الخيزران وآلة التعذيب (الفلقة)؛ متحرشين بالطلبة في وجود دولار بك والشيخ عاشور، وهما من أعوان خليل حمادة باشا، الذي يتحدث معهما عن وجوب اتباع الشدة مع الطلاب المتمردين، فتتوجه مجموعة من الطلبة إلى الباشا مطالبين السماح لزملائهم الممنوعين بدخول الأزهر لاستكمال تعليمهم، فيحتدم النقاش بينه وبينهم، وينتهي بحبسهم في الرواق العباسي. ويقوم أعوان الباشا بوضع كل طالب متمرد في هذا الرواق الذي أصبح سجنا داخل الأزهر، فتحدث ثورة بين الطلاب خارج الرواق، فيقوم الباشا وأعوانه بضرب مجموعة من الطلاب بالفلقة في صحن الجامع وأمام أعين زملائهم، فيشتد الأمر هياجا بين الجميع، فيستصدر الباشا أمرا بإدخال القوة العسكرية إلى الجامع، ويأمر جنودها بالقبض على كل طالب مهيج، وأن يضربوا كل عاص. وبذلك تنتهي المسرحية. (ب) اختبار معايير المسرح التسجيلي من خلال المسرحية
أولا: ملمح التقرير
من سمات المسرح التسجيلي في اختيار مادته أنه مسرح تقريري، يختار مادته من المقالات الصحفية والخطب والسجلات والمحاضر والتقارير والمقابلات والتصريحات ... إلخ كل مادة وثائقية، بحيث يكون الاختيار مركزا على قضية اجتماعية أو سياسية من أحداث الماضي ووقائع التاريخ، بحيث تشتمل القضية على مضمون إنساني عام يعكس وجهة نظر الجماهير العريضة.
29
وهذه الأمور متوفرة في مسرحية «الأزهر وقضية حمادة باشا»؛ حيث إنه نص يقر بحادثة تاريخية معاصرة حقيقية وقعت قبيل تأليف النص بأيام قليلة، بل وتمت كتابة النص أثناء وقائع الحادثة، كما سنرى فيما بعد. ومادة النص المسرحي مختارة من أقوال الصحف المصرية التي غطت الحادثة بتفاصيلها عام 1909، وبالأخص صحف الجريدة واللواء والمؤيد، بالإضافة إلى بعض المنشورات الرسمية والخطب الحماسية، كما سيعرض في البحث عند الحديث عن الفروق الفنية لأحداث الأزهر بين الواقع والإبداع.
كما أن قضية اعتصاب طلاب الأزهر من القضايا الاجتماعية والسياسية التي هزت الرأي العام عام 1909، وهي قضية اشتملت على مضمون إنساني عام؛ عكست وجهة نظر الجماهير العريضة. وكفي للتدليل على ذلك الكم الهائل من التلغرافات والرسائل المنشورة في الصحف التي يناشد فيها أصحابها الخديوي عباس حلمي الثاني، ومجلس الأمة، ورئيس الوزراء بطرس غالي، بالنظر بعين الرحمة والإنصاف في الاستجابة لمطالب طلاب الأزهر. وهذه التلغرافات والرسائل كانت مرسلة من قبل الأعيان والمحامين، وضباط الجيش، وعلماء الأزهر، وأعضاء محفل الصدق العثماني، وتجار وأعيان فاقوس، وزفتى، والمنصورة، وشبرا اليمن، وقليوب، وبني سويف، والمنيا، وقنا، وأسيوط، والفيوم.
30
ثانيا: ملمح معالجة الأحداث بصورة فنية
ومن سمات المسرح التسجيلي في معالجته لمادته التوثيقية أنه يقوم بمسرحتها بصورة فنية في الشكل دون تغيير في المحتوى؛ وذلك حرصا على القيمة الفنية إلى جوار الواقعة التاريخية، بحيث لا تبدو المسرحية تسجيلا خالصا للوقائع والأحداث. ويتم ذلك بأساليب فنية عديدة؛ منها: تنظيم الأخبار، أو وضع مقتطفات من الأخبار في مقاطع دقيقة التوقيت، أو استبدال اللحظات القصيرة من الحدث الحقيقي بوحدات طويلة ومعقدة، أو تركيب موقف اعتمادا على قول مقتبس أو مقولات مضادة، أو تحول الأقوال والأحاديث إلى أشكال فنية أخرى، أو استخدام المونولوج والحلم والرجوع إلى الخلف من أجل كشف سلوك معين.
31 (1)
المادة التاريخية:
والشواهد على ذلك كثيرة في النص المسرحي؛ حيث إن المؤلف قام بمسرحة مادته التوثيقية بصورة فنية مع احتفاظه بمحتوى الحقيقة التاريخية؛ وذلك عندما نظم الأخبار الصحفية في شكل مسرحي تنظيما منطقيا في الأحداث أخضعه للمنهج الفني. ويتضح ذلك من ملخص المسرحية سالف الذكر، ومقارنته بملخص القصة التاريخية لاعتصاب الطلاب، كما سيأتي في الجزء الخاص بالفروق الفنية لأحداث الأزهر بين الواقع والإبداع. (2)
استغلال مقتطفات الأخبار:
قام المؤلف بوضع مقتطفات من الأخبار في مقاطع دقيقة التوقيت في نصه المسرحي. وهذا أمر له شواهده في النص المسرحي، ومثال على ذلك: المناقشة التي دارت بين شيخ الأزهر وأعوانه حول اعتصاب الطلاب في أول الأمر. ومن هذه المناقشة هذا الموقف:
آخر :
قلت يا فضيلة الشيخ أنك كثيرا ما عرضت أمرنا على أولي الأمر، أو بالأحرى على جناب خديوينا المعظم، فما كانت النتيجة؟
الشيخ :
إن مولانا المعظم ليس خاليا لنا، ولا لمصلحة معهدنا ولا لمصلحة الأزهريين التي أصبحت من خصائصه وشأنه الخاص.
عالم :
وما الذي يشغله عن مصالحنا؟ فلعلها أمور سياسية لمصلحة بلاده العامة، وقد تكون خيرا لنا.
الشيخ :
لا، مولانا - حفظه الله - لا يشغله هذا الأمر، بل تشغله أمور أخرى.
عالم :
وما هي؟ أمشتغل بالسعي في مطالبة الأوقاف بإبدال بعض أراضيه المجهول مكانها وقيمتها بأراض أخرى في الجزيرة أو في وسط عاصمة البلاد؟
الشيخ :
وغير ذلك! فإن ما يشغله عن مصلحة الأزهر وغيره من مصالح الأمة اشتغال سموه بالتجارة وزراعاته الخصوصية.
32
وهكذا يتضح للدراسة أن المؤلف وضع بعض مقتطفات من حقائق التاريخ ومن أقوال الصحف حول هذه الأزمة في توقيت دقيق للغاية. فبدلا من اهتمام الخديوي الذي يرأس المجلس الأعلى للأزهر بأمر اعتصاب الطلاب، نجده يهتم بأموره الشخصية من تجارة وزراعة واستبدال الأراضي. واختيار هذه الأمور في هذا التوقيت له دلالته السياسية والاجتماعية، كما سيتضح - فيما بعد - عند الحديث عن فنية عنصر الإضافة. (3)
استبدال اللحظات القصيرة بوحدات طويلة:
لجأ المؤلف إلى استبدال اللحظات القصيرة من الحدث الحقيقي بوحدات طويلة ومعقدة، فأهم شاهد على ذلك معالجته لزيادة مرتبات المدرسين بالأزهر، وهو أحد مطالب الاعتصاب الأزهري. وقد ذكرت الصحف هذا المطلب بأكثر من صورة؛ منها: «... أن تكون مرتبات المدرسين على الأقل مثل مدرسي المدارس الابتدائية الأميرية.» أو «... أن غلاء جميع حاجات العيش يدعو إلى جعل مرتبات العلماء غير كافية بحاجتهم.» أو «... أن مرتبات علماء الأزهر ومدرسيه في الحقيقة قليلة جدا، بل هي لا تكاد تذكر في جنب مرتبات أساتذة أصغر مدرسة في العالم.»
33
وهذا الأمر الذي لم يستغرق سوى سطر أو سطرين في الصحف عالجه المؤلف في مسرحيته بصورة فنية، من خلال حوار طويل هذا جزء منه:
طالب :
وعلى هذا؛ أيمكن لسيدي أن يخبرني عن مرتبه الذي يتقاضاه قياما لما يقوم به من الأعمال الجليلة؟
عالم :
لندع مقدار المرتب الذي لا يذكر، ونبشركم بأنه وإن كان مرتبنا قليلا جدا؛ فإن لنا مكافآت متوالية نأخذها عند نجاحنا في كل امتحان!
طالب :
وما هي مدة كل امتحان؟ وما هو مقدار المكافأة؟
عالم :
أما المدة فهي قصيرة جدا، وهي سنتان أو ثلاث بالأكثر، ومقدار المكافأة فعظيم جدا؛ وهو جنيه واحد إنكليزي يخصم منه ستون غرش ثمن استمارات ورسوم للامتحان، والباقي وهو الأربعون قرش إلا قرشي ونصف لنا خاصة. بارك الله لنا فيها. وقد نصت اللائحة أن هذه المكافأة لم تعط إلا تشجيعا للاجتهاد على العمل، والإقدام في خدمة الدين الإسلامي.
34 (4)
تركيب المواقف اعتمادا على المقتبس:
عني حسن مرعي بتركيب مواقف اعتمادا على قول مقتبس، والشاهد الأبرز على ذلك من المسرحية ما جاء على لسان أحد الطلبة في خطبته أمام زملائه من المعتصبين قائلا: «إخواني ... اسمعوا مني هذه الكلمة الأخيرة، وهي أنه إذا أرسلت لكم الإدارة للتفاوض مع لجنة مخصوصة، فلا تفعلوا هذه اللجنة بالمرة، كما لا تفعلوا رئاسة لجنة الإصلاح الأزهري، إلا إذا كانت مسندة إلى صاحب الفضيلة قاضي مصر، وأعضاؤها: الشيخ بخيت، وحسن مدكور باشا، وإبراهيم رفعت باشا، ومجدي بك؛ المستشار بالاستئناف، وإبراهيم ممتاز باشا، وحسن جلال بك، على شرط أن تنشر المناقشات على صفحات الجرائد يوميا. فإذا نفذت اللجنة طلباتنا كان بها، وإلا فنحن باقون على ما نحن عليه من المظاهرات.»
35
والجدير بالذكر أن الأسماء الواردة هنا مقتبسة مما أوردته الصحف المصرية حول تشكيل لجنة فحص مطالب المعتصبين؛ فعلى سبيل المثال: طالب المعتصبون أن اللجنة تضم ضمن أعضائها الأسماء الآتية: الشيخ محمد بخيت، والشيخ عبد الكريم سلمان، والشيخ محمد الطوخي، ومحمود بك عبد الغفار، وعبد العزيز بك فهمي المحامي، وعمر بك لطفي. أما اللجنة في صورتها النهائية فقد شكلها الخديوي من: الشيخ محمد أبو الفضل؛ وكيل مشيخة الأزهر، والشيخ عبد الغني محمود؛ عضو مجلس الإدارة، والشيخ أحمد نصر؛ وكيل رواق الصعايدة، والشيخ علي الفزاني؛ شيخ رواق المغاربة، وإبراهيم بك ممتاز؛ مندوب الداخلية، وحسن بك جلال؛ مندوب الحقانية.
36 (5)
تركيب المواقف بالاعتماد على المقولات المضادة:
أما من حيث قيام المؤلف بتركيب موقف اعتمادا على المقولات المضادة، فخير شاهد على ذلك قول أحد المعتصبين في خطبته أمام الطلبة: «... واحذروا من في الظاهر يتظاهر بالميل لكم، وفي الباطن يدس لكم الدسائس ليفشل مسعاكم. ولكن لا أخشى أن أقول إنه خاب مسعاهم، وساء حالهم، فنحن رجال لا تؤثر فينا الدسائس.»
37
وهذا الموقف من الخطيب جاء به المؤلف مركبا من مقالة كتبها أحمد علي المنشاوي تحت عنوان: «دس الدسائس ودفع المفتريات في الأزهر»، قال فيها على سبيل المثال: «علمنا من ثقة أن بعض الخائنين لأمتهم يرسلون أناسا إلى المساجد يؤذون العلماء لينسب ذلك إلى الطلبة، ويقصدون بذلك تثبيط هممهم، والضرب على مطالبهم.»
38
كما جاء في مقالة أخرى هذا القول: «... ثم علم الطلاب من جهة أخرى أن يدا خفية حركت بعض صنائعها على إهانة بعض المدرسين؛ لإلقاء تبعة الاضطراب على المتظلمين، فتنبه الطلاب إلى ذلك.»
39 (6)
تحويل الأقوال والأحاديث إلى أشكال فنية:
وأما من حيث قيام المؤلف بتحويل الأقوال والأحاديث إلى أشكال فنية أخرى، فهذا أمر واضح في المسرحية، وخير دليل على ذلك تحويل بعض المقالات المنشورة في الصحف إلى خطب حماسية ألقاها الطلبة في المسرحية.
40
وكذلك تحويل نشرات الأزهر الرسمية وقرارات المجلس الأعلى للأزهر المنشورة في الصحف إلى حوار فني بين شخصيات المسرحية.
41
وهذا الأمر سيتضح أكثر عندما تتعرض الدراسة إلى الحديث عن الفروق الفنية لأحداث الأزهر بين الواقع والإبداع. (7)
ظاهرة الرجوع للخلف:
لقد لجأ المؤلف لفكرة الرجوع إلى الخلف من أجل كشف سلوك معين، فخير دليل على ذلك من المقالات المنشورة في الصحف قيام الطلبة في مظاهرتهم بالهتاف ضد جريدة المؤيد، وضد صاحبها الشيخ علي يوسف.
42
فيقوم المؤلف بصورة فنية بتفسير هذا الأمر بأسلوب الرجوع إلى الخلف تاريخيا؛ وذلك عن طريق قول طالب مع آخر أثناء المظاهرة قائلا له: «لندع يا أخي صاحب المؤيد وشأنه، بعدما تحقق لنا أن هذا الرجل هو الذي قد أثار غبار مسألتنا الأزهرية بدسائسه وسوء قصده، بما ألقاه من المنشورات المفسدة على مسامع سمو خديوينا المعظم.»
43
وهذا الأمر تثبته مقالات المؤيد التي نشرت قبل إثارة مسألة الاعتصاب في الأزهر تمجيدا في قانون الأزهر الجديد؛
44
ذلك القانون الذي رفضه الأزهريون واعتصبوا من أجل إلغائه.
جريدة المؤيد.
ثالثا: ملمح العناية بالقضية الاجتماعية والسياسية
من سمات فنية المسرح التسجيلي أن كاتبه يعنى في المقام الأول بالقضية الاجتماعية والسياسية، ولا يحفل كثيرا بالفرد من حيث وجوده الذاتي. وبالرغم من ذلك، فإنه يضفي لمسات إنسانية مؤثرة على الموضوع العام، من خلال تصويره بعض لوحات من مآسي الأفراد، ويحاول كذلك أن يغطي على المعالجة المباشرة بكثير من السخرية الطريفة ذات الدلالة الاجتماعية والسياسية.
45 (1)
التركيز على القضية العامة:
وهذا الأمر قام به المؤلف خير قيام، خصوصا عندما اهتم بقضية الأزهر واعتصاب طلابه أكثر من اهتمامه بالأفراد؛ فعلى سبيل المثال: لا يوجد حوار في المسرحية يقوم به شخصيات ذات أسماء محددة إلا في موضعين اثنين.
46
وكان حوار المسرحية في مجملها يدور بين طالب وطالب، أو بين طالب وعالم، أو بين عالم وملاحظ، أو بين ملاحظ ومفتش، أو بين مفتش وشيخ، أو بين شيخ وناظر، أو بين ناظر ورئيس ... إلخ. ولم نجد اسما لطالب أو لعالم أو لملاحظ أو لمفتش طوال المسرحية؛ وذلك على الرغم من ذكر الصحف لبعض هذه الأسماء، ومنها: عبد الظاهر محمد، أحمد علي المنشاوي، علي أحمد الجرجاوي، أبو زيد، سليمان نوار، محمد قنديل، محمد زهدي الخماس، أحمد نديم، مسعود فراج، حامد مطاوع، عبد السلام المليجي، سليمان فهمي، فهيم قنديل، محمد منصور، حسن موسى، محمد خاطر.
47 (2)
إضفاء اللمسات الإنسانية:
عني المؤلف بإضفاء لمسات إنسانية مؤثرة على الموضوع العام، من خلال تصوير بعض لوحات من مآسي الأفراد؛ فقد حقق المؤلف هذا الأمر عندما قال طالب لآخر واصفا زملاءه المقبوض عليهم بسبب الاعتصاب: «وقد قضينا ليلة الحادثة والأسف ملء قلوبنا على الثلاثة الأبرياء الذي قبض عليهم وزجوا في أعماق السجون ... وكان الغرض بلا شك استعمال كل قسوة زائدة، وتشديدا بتكسير هؤلاء المساكين، وذلك إرهابا لباقي المعتصبين.»
48 (3)
استخدام السخرية للبعد عن المباشرة:
لجأ المؤلف إلى استخدام السخرية الطريفة من أجل التغطية على المعالجة المباشرة؛ فخير مثال على ذلك في المسرحية ما قاله شيخ الأزهر لرئيس الوزراء، عندما انشغل الخديوي بأعماله الخاصة غير مبال باعتصاب الطلبة: «وهل تظنون سعادتكم أن مولانا الخديوي - حفظه الله - يأتي مسرعا على إثر وصول تلغرافكم، ويترك أعماله الزراعية الخصوصية التي لولاها لرأينا سموه قد تفرغ إلى نصرة العلم وتعضيد المشروعات الدينية، بل ورأيناه ندي الكف، مطلق اليسار بالعطا والجود للمشروعات الخيرية.»
49
رابعا: ملمح تواري الرأي الشخصي
ويقصد بملمح تواري الرأي الشخصي أن كاتب المسرح التسجيلي يعي تماما أن رأيه الشخصي لا أهمية له بخصوص المشاكل التي يعالجها؛ حيث إنه ليس من حقه أن ينصب نفسه قاضيا على التاريخ. ومهما كانت درجة وعيه والتزامه بهذه الحقيقة، فإنه في النهاية ورغما عنه لا يستطيع إلا أن يكون إيجابيا في مواجهة الحادثة التاريخية التي يعرضها. وإن كان ذلك لا يبدو لنا مباشرة، وإنما من خلال اختيار الأحداث وطريقة ترتيبها.
50
وهذا الأمر له وجود فعلي في المسرحية؛ حيث إن الدراسة لم تجد قولا مباشرا للمؤلف - على لسان شخصياته - يفيد صراحة أنه مع الحكومة ضد اعتصاب الأزهريين، أو أنه مع الأزهريين ضد الحكومة. وبالرغم من ذلك، فالقارئ يستشعر من اختيار الأحداث التاريخية وترتيبها - وفقا لأحداث الاعتصاب كما جاءت في الصحف المصرية - أن المؤلف كان له موقف إيجابي من هذه القضية، وهو الموقف الذي أعلنه الرأي العام بأحقية طلبة الأزهر في مطالبهم. وهذا الأمر سيتضح أيضا عند الحديث عن الفروق الفنية لأحداث الأزهر بين الواقع والإبداع.
خامسا: ملمح تجلية الموقف السياسي للجماهير
ومن سمات أهداف المسرح التسجيلي أنه يدعو الجماهير إلى التهييج السياسي لإعادة النظر في القضية المختارة من أجل التغيير، ويقف ضد كل الفئات التي يهمها خلق ذلك الجو السياسي المضبب والمظلم والمزيف الذي يقف ضد ميول أغلبية الجماهير، ويعكس رد الفعل تجاه الأوضاع الحاضرة مطالبا بتوضيحها؛ لذلك فإن أغلب موضوعاته لا يمكن أن تقود إلا إلى إدانة موقف معين، باعتبار هذا الموقف جريمة من طرف واحد.
51 (1)
التهييج السياسي:
وهذا الأمر متوفر في النص المسرحي؛ حيث إن المسرحية تدعو الجماهير أو القراء إلى التهيج السياسي. وهذا يتضح من ذلك الحوار الذي جاء قبيل الاعتصاب بين طالب وأستاذه العالم من أجل تغيير الوضع الراهن:
عالم :
وما بال إخوانكم متهيجين، وأراهم ليسوا براضين عما يلقيه عليهم حضرة المدرس؟
طالب :
لعلهم يتفكرون في مطالبهم التي طالما طالبوا بها من زمن بعيد ولم يصغ لقولهم أحد!
عالم :
وأي شيء يطلبون؟ ... وهل هذا الوقت هو معد لتقديم طلبات؟ ... وهل بمثل تلك الغوغاء يؤملون الالتفات إلى مطالبهم؟
طالب :
وبأي كيفية يطلبون مطالبهم الحقة إذا لم يفعلوا ما هم فاعلون الآن من الغوغاء وتهييج الأفكار؟
52
وهكذا يستمر الحوار وتتصاعد وتيرته، فيطلب العالم أحد المفتشين لتهدئة الأمر، فيأتي الحوار:
مفتش :
إن لم تجلسوا مختارين أجلسناكم مجبرين.
طالب :
أتجبروننا بالقوة على الجلوس؟ فإذا كان كذلك فنحن أقوى منكم بالنسبة لعددنا!
مفتش :
في أقل من لمح البصر أحضرنا قوة الحكومة، عندها تعلموا يا ذا الهفوة أن الحق مع القوة.
طالب :
كلا يا حضرة المفتش؛ ليس الحق مع القوة، فإن القوة مع الحق. ومع ذلك، فها أنا أول من ينادي على إخواني بالاعتصاب والإيقاف عن العمل إن لم يجيبوا مطالبنا (يقف على مقعد عال وينادى بصوت جهوري):
يا إخواني الطلبة، ويا من تجمعني وإياكم أكبر كلية دينية، ويضمنا أعظم معهد علمي، أشير عليكم بالاعتصاب والانقطاع عن دروسكم حتى تجاب مطالبنا الحقة، أو خير لنا ترك هذا المعهد غير آسفين، ما دمنا بهذا الشكل السيئ والضنك والبؤس.
طلبة :
نعم، نعم، فهذا خير لنا ... وها نحن يد واحدة معتصمين بحبل الله جميعا؛ فإن القوة في الاتحاد.
53
وهذا الحوار وغيره مما جاء في المسرحية كان القصد منه تهييج القارئ أو المشاهد سياسيا؛ لإعادة النظر في قضية إصلاح الأزهر، وتبني رأي الأزهريين في مطالبهم الحقة، خصوصا وأن المسرحية نشرت أثناء ذروة أزمة الأزهريين. وكان المؤلف يأمل في تمثيلها أيضا ولكن الحكومة منعت تمثيلها، كما بينت الدراسة . وكدليل على أن مطالب الأزهريين حقوق مهضومة قول أحد العلماء في مجلس الوزراء، عندما سمع أصوات الأزهريين خارج قصر عابدين: «اسمعوا ... اسمعوا، ثم انظروا من هذه النوافذ تروا بأعينكم، وتسمعوا بآذانكم صراخ هذا الجمع المحتشد الذي تجمع للمطالبة بحقوقه المهضومة، فها قد حضروا للمطالبة بأنفسهم بحقوقهم من سمو الأمير.»
54 (2)
تجلية ضبابية الموقف:
وأما من حيث إن المسرحية تقف ضد كل الفئات التي يهمها خلق ذلك الجو السياسي المضبب والمظلم والمزيف، الذي يقف ضد ميول أغلبية الجماهير؛ فإن الشاهد على ذلك من المسرحية قول شيخ الأزهر لمجلس الوزراء، أثناء التباحث في أمر الاعتصاب وتنصل الوزراء من الأمر؛ لأنه بيد الخديوي المتغيب عن العاصمة لمباشرة أموره الخاصة: «ما هذا الكلام يا نظار حكومتنا؟ وكيف لا تعلمون وقد ألقيت بيدكم مقاليد الأحكام وزمام الأنام، وعلى الخصوص حفظ أموال بيوت الإسلام؟ وكان أول واجب عليكم أن تنظروا أولا في تحسين شئون خدمة الدين، وحملة كتاب رب العالمين ... أوليس هذا خيرا لكم من تشييد عمارات، وعمار مهجورات، وشراء خرابات، وسفرياتكم إلى المنتزهات، وانتقائكم أحسن مياه الحمامات، وإصدار أوامركم بتوسيع حساب الوليمات، وإسرافكم الزائد على المراقص والباللوات.»
55 (3)
إدانة موقف مخصوص:
لا تقف المسرحية عند حد تجلية ضبابية الموقف فحسب، بل تزيد خاصية أخرى من خصائص المسرح التسجيلي؛ أعني قصد المؤلف الواضح لإدانة موقف محدد باعتباره جريمة من طرف واحد، فهذا الأمر يتضح من سياق أحداثها التي تنتهي إلى إدانة الحكومة بعدم اهتمامها بمطالب الأزهريين، وسعيها إلى إرضاء الخديوي على حساب الأزهر، وإطلاق يده في أموال الأوقاف الأزهرية. هذا فضلا عن إدانة خليل حمادة باشا وأعوانه على جريمتهم لضرب الأزهريين في صحن الجامع، ومخالفتهم للقوانين الأزهرية والإنسانية.
ومما سبق يتضح إن مسرحية «الأزهر وقضية حمادة باشا»، المنشورة عام 1909، تعتبر مسرحية تسجيلية؛ لتطابق تعريف المسرح التسجيلي عليها، ولاشتمالها على كافة عناصر وسمات هذا النوع المسرحي. وبذلك يعتبر حسن مرعي من أوائل من كتبوا المسرحية التسجيلية في مصر، إن لم يكن الأول بالفعل. (ج) الفروق الفنية لأحداث الأزهر بين الواقع والإبداع
للتعرف على الفروق الفنية بين واقع أحداث اعتصاب طلاب الأزهر، كما جاء في الصحف المصرية، وبين فنية هذا الواقع، كما عالجه المؤلف بأدواته المتنوعة في المسرحية؛ لذلك يمكن أن تقسم الدراسة هذا المحور إلى نقطتين؛ الأولى: ذكر ملخص لهذه الأحداث حسب واقعها التاريخي، كما جاءت في الصحف؛ لتكون خلفية لها عند الحديث عن الفرق بين هذا الواقع التاريخي وبين معالجته فنيا، كما جاء في النص المسرحي، والأخرى: ملامح المعالجة الفنية لهذه الأحداث طبقا لتوظيفها فنيا خلال العمل الإبداعي. (1) الأحداث من واقع الصحف
بدأت قصة اعتصاب طلاب الأزهر منذ منتصف عام 1908، عندما رفع الطلاب عريضة إلى الخديوي عباس حلمي الثاني، يطلبون فيها تصحيح بعض المواد الخاصة بالقانون الجديد للأزهر، الذي صدر عام 1907،
56
وبالأخص فيما يتعلق بوظيفتي القضاء والإفتاء اللتين ألغيتا من خريجي الأزهر.
57
وقد عضد بعض الكتاب هذه العريضة بكتابة المقالات التي أبانت عن بعض أضرار القانون الجديد، ومنهم ابن النجوم محمود؛ الذي رأى أن إصلاح الأزهر ليس بزيادة علومه، وإنما بإنفاق أموال أوقافه على شئونه.
58
وفي المقابل، نجد عبد الظاهر محمد؛ طالب العلم بالأزهر، يكتب مقالة يحث فيها طلاب الأزهر على تقبل العلوم الحديثة، ويذكرهم بدور الشيخ محمد عبده في إصلاح الأزهر فيما مضى.
59
اعتصام طلاب الأزهر.
وتتصاعد وتيرة السخط ضد النظام الجديد في الأزهر، فيتظاهر ألف وأربعمائة طالب من الأزهريين في حديقة الجزيرة معربين عن مطالبهم، ومنها: أن المدرسين الذين يدرسون العلوم الحديثة غير أكفاء، وأن النظام الجديد يفرض عليهم أعباء مالية بشراء الكتب والأدوات، وأن النظام الجديد لم يراع في تنفيذه سنن التدريج، وأن الطلبة يظنون أن أوقاف الأزهر إذا أديرت بمعرفة الأزهر لأمكن الحصول على ربح أوفر. وبعد انتهاء الخطب، سار الطلاب في مظاهرة سلمية منتظمة، ووقفوا أمام إدارات الصحف فهتفوا بحياة صحيفتي الجريدة واللواء، وهتفوا بسقوط صحيفة المؤيد.
60
وفي اليوم التالي، قام أحد زعماء الاعتصاب بنشر مطالب الأزهريين في الصحافة، ومنها: أن يكون انتخاب مجلس إدارة الأزهر بمعرفة جميع العلماء بالقرعة السرية، وانتخاب شيخ الجامع يكون بمعرفة مجلس إدارة الأزهر، وأن مجلس إدارة الأزهر هو الذي ينظر في أوقافه، وأن ينتخب لتدريس كل فن من هو كفء له، وأن تصرف جميع الأدوات والكتب لجميع السنين مجانا، وأن تكون الشهادة الابتدائية مسوغة لحاملها حق المأذونية والإمامة والخطابة، ومن ينال الشهادة الثانوية يوظف مدرسا في المدارس الأميرية، أو كاتبا في المحاكم الشرعية، ومن ينال شهادة العالمية له حق التوظيف في المحاكم الشرعية قاضيا أو مفتيا أو محاميا، وأن توجد المشيخة طريقة منضبطة لامتحان شهادة العالمية، وأن تبطل إعطاء شهادة فتح البيوت، وشهادة المحسوبية، وشهادة الأقارب والتلمذة، وأن تكون مرتبات المدرسين على الأقل مثل مدرسي المدارس الابتدائية الأميرية، وألا يكلف الطالب بأكثر من ثلاثة دروس في اليوم الواحد؛ ليمكنه أن يفهمها جيدا. وأخيرا، طالب المعتصبون بتعطل الدروس في الأزهر بالطرق السلمية إلى أن تجاب مطالبهم هذه.
61
فنشرت بعض المقالات الصحفية التي تؤيد هذه المطالب وتشجع الطلبة على الاعتصاب.
62
وأمام هذا قامت الحكومة بإحاطة الأزهر بقوة من البوليس، فنشر الطلاب المعتصبون مقالة في اليوم التالي أبانوا فيها توضيحات كثيرة بخصوص مطالبهم السابقة، ومن ذلك - على سبيل المثال - شرحهم لمطلب أن تكون الشهادة الابتدائية مسوغة لحاملها حق المأذونية والإمامة والخطابة قائلين: «قضت المادة 17 من قانون الأزهر الشريف بأن من أدى الامتحان الأول ونجح فيه ينال الشهادة الأولية؛ وبموجبها يكون أهلا لأن يدرج ضمن طلبة القسم الثاني. ونحن نطلب مع هذا أن يكون حامل هذه الشهادة أهلا لأن يجعل إماما وخطيبا ومأذونا في القرى؛ إذ إن المادة التاسعة من اللائحة الداخلية تقضي بأن يكون حامل هذه الشهادة حاصلا على علوم التجويد والتوحيد والفقه، والأخلاق الدينية، والسيرة النبوية، والحديث، والخط والإملاء، والنحو والصرف، والبيان والإنشاء، وعلم الشعر، والمنطق والحساب، والتاريخ، وتقويم البلدان، مع التمرين على رسم الخرط (الخرائط)، وقواعد الصحة. وإن طالبا يلم بمبادئ هذه العلوم لكفء لأن تسند إليه الإمامة والخطابة والمأذونية في صغيرات القرى.»
63
وهكذا كان منطقهم في شرح كافة طلباتهم، وبدأ زعمائهم في نشر المقالات التي تستدر عطف الرأي العام للوقوف بجانبهم،
64
وبالفعل نجحوا في ذلك؛ ففي اليوم التالي وجدنا تلغرافا منشورا في الصحف أرسله طلبة المدارس غير الأزهرية إلى الخديوي قالوا فيه: «الجناب العالي الخديوي المعظم بعابدين، طلبة المدارس المصرية المخلصون لعرشكم السامي يلتمسون من سموكم أن تنظروا نظرة عطف وحنان إلى إخواننا طلبة الأزهر الشريف، وأن تصدروا أمركم الكريم بإجابة مطالبهم العادلة، وكلنا آمال في مراحمكم الأبوية.»
65
وبدأت أياد خفية تحاول إفساد تضامن الأزهريين؛ حيث ارتدى البعض زي الأزهر وقام بإيذاء علماء بعض المساجد؛ لينسب ذلك إلى الطلاب المعتصبين. وقد نبه على ذلك أحد زعماء الاعتصاب، وهو أحمد علي المنشاوي، كما قام علي أحمد الجرجاوي؛ رئيس جمعية الأزهر، بدعوة المعتصبين إلى اجتماع لبحث الأمر،
66
كما كتب صالح حمدي حماد مقالة كبيرة أبان فيها أحقية المعتصبين في مطالبهم، خصوصا رفع مرتبات المدرسين.
67
وأمام هذا الموقف أصدرت مشيخة الأزهر إعلانا قالت فيه: «نظرا للاعتصاب الذي حصل من الطلبة، صدر النطق السامي بتشكيل لجنة تحت رياسة صاحب الفضيلة وكيل مشيخة الجامع الأزهر، وبعضوية حضرات: الشيخ عبد الغني محمود؛ عضو مجلس الإدارة، والشيخ أحمد نصر؛ وكيل رواق السادة الصعايدة، والشيخ علي الفزاني؛ شيخ رواق المغاربة، وصاحبي السعادة: إبراهيم بك ممتاز؛ مندوب الداخلية، وحسن بك جلال؛ مندوب الحقانية؛ للبحث في أسباب الاعتصاب.»
68
وأمام هذا الإعلان نشر زعماء الاعتصاب مقالة كشفوا فيها عن رأيهم في هذه اللجنة، وطالبوا بزيادة أعضائها قائلين: «تلك اللجنة التي أصبحت الأغلبية فيها لأصحاب العمل من هذه الهيئة التي نشكو من قسوتها. أليس رئيس هذه اللجنة هو وكيل المشيخة؟ أليس أحد أعضائها عضوا في الإدارة؟ أليس أحدهم وكيلا لرواق كذا والآخر شيخا لرواق كذا؟! إنا لا نطلب إسقاط هذه اللجنة، ولكن نطلب أن تنظروا معنا إلى أقوالها وأفعالها بعين الاحتراس والغيرة على المصلحة. قد انتخبت المعية والحكومة وإدارة الأزهر هذه اللجنة، فلم لا ينتخب الطلبة أعضاء يزادون عليها، لتكون موضع ثقتهم جميعا؟ إنا نرى ونرجو أن ينفذ هذا الاقتراح، ونحن ننتخب لذلك ثلاثة من علماء الأزهر: فضيلة الشيخ بخيت، وفضيلة الشيخ عبد الكريم سلمان، وفضيلة الشيخ محمد الطوخي، وثلاثة من رجال الأمة؛ هم: سعادة محمود بك عبد الغفار، وسعادة عبد العزيز بك فهمي المحامي، وسعادة عمر بك لطفي.»
69
وفي اليوم التالي، قام الطلاب بمظاهرة سلمية أخرى، بدأت بإلقاء الخطب في حديقة الجزيرة. وقد عينت الحكومة البكباشي جرفس؛ المفتش ببوليس العاصمة، والصاغ محمود محمد؛ مأمور قسم عابدين، لمراقبة المظاهرة التي سارت في انتظام وهدوء إلى قصر عابدين، وصاحوا: فليحي الخديوي! ولما وصلوا أمام مبنى جريدة الجريدة صاحوا: فلتحي الجريدة! ولما مروا أمام دار المؤيد بشارع محمد علي أخذوا يصيحون: فليسقط المؤيد! وإذا بحجارة تتساقط من أعلى دار المؤيد من قبل عماله، فتناول الطلبة الحجارة المتساقطة ورجموا بها جدران المؤيد. وفي هذه الساعة وصلت إشارة تلفونية إلى محافظة العاصمة من جريدة المؤيد، تفيد أن الأزهريين اجتمعوا أمام المؤيد يريدون الدخول عنوة. وبعد فترة قصيرة، وصلت قوة من عساكر السواري بقيادة اليوزباشي ستش وفرقة أخرى من المشاة، وبدأ العساكر في ضرب الطلاب، فاضطر الطلبة إلى الدفاع عن أنفسهم، وانتهى الأمر بالقبض على ثلاثة من الأزهريين؛ هم: أبو زيد، والشيخ سليمان نوار، والشيخ محمد قنديل، وعلى ثلاثة من عمال المؤيد؛ هم: حسين عبد الله، وحنفي محمد، ومصطفى علام؛ الذين أفرج عنهم بالضمان المالي. أما الطلبة فقضوا ليلتهم في سجن الموسكي، ونقلوا في اليوم التالي إلى المحافظة،
70
ورفعت عليهم القضايا، وترافع عنهم أحمد لطفي السيد، وحكم على اثنين منهم بالسجن خمسة وأربعين يوما، وببراءة الثالث.
71
وأمام هذا التصعيد، اجتمع مجلس الوزراء برئاسة الخديوي واتخذ قرارا أعلنته مشيخة الأزهر بوجوب عودة المدرسين والطلبة إلى دروسهم يوم السبت القادم، ومن يمتنع يقطع عنه راتبه وجرايته، ويشطب اسمه من السجلات؛ سواء كان طالبا أو عالما، مع التنبيه بأن هذا آخر منشور تصدره المشيخة في هذا الشأن.
72
وقابل الطلاب والعلماء هذا القرار بإصرارهم على مواصلة الاعتصاب، وعدم عودتهم إلى دروسهم قبل أن تجاب طلباتهم. وبدأ الأهالي في إرسال خطابات استرحام إلى الخديوي من أجل إزالة القوة العسكرية حول الأزهر. ومثال على ذلك: رسالة أهالي الدرب الأحمر، وقالوا فيها: «مولانا ... نعلم يقينا أن سموكم لأمته كالأب الشفيق لبنيه، شأن الأمراء الذين يحبون الخير لأمتهم، ويرفعون عنهم المضرات، وغير خاف أن معظم الأمة المصرية مسلمون، ويجرح إحساساتهم وعواطفهم المساس بأمر دينهم، والأزهر أكبر جامعة دينية إسلامية في الأرض، فيحزننا كل الحزن أن نرى أهله مهددين بقوة عسكرية وهم أبناؤنا الذين نعدهم لحفظ ديننا من الضياع! فنرفع أكف الضراعة لسموكم في رفع هذا الأمر المزعج وتلافيه على حسب ما نعهده في العواطف الشريفة من الحنان والشفقة. أطال الله بقاء سموكم آمين.»
73
ويستمر الاعتصاب، ويتضامن مع طلاب الأزهر طلاب الجامع الأحمدي في طنطا، ولكن شيخه استطاع إيقاف الأمر سريعا بالقبض على تسعة أشخاص، بدعوى أنهم مدبرو الحركة في الجامع، ثم شطب أسماءهم من صحيفة الجامع الأحمدي، وحكم عليهم بعدم القبول في أي معهد من المعاهد العلمية.
74
ووصل الأمر بالمعتصبين إلى تشكيل لجنة منهم تمثلهم في أمر اعتصابهم أطلقوا عليها «لجنة الاتحاد الأزهري»، فقامت الحكومة بإصدار أمرها بتجنيد كل معتصب من الأزهريين، مخالفة بذلك قانون إعفاء طلبة الأزهر من التجنيد. وهذا الأمر زاد المعتصبين إصرارا على موقفهم بامتناعهم عن الدروس. وتبرع كل من الشيخ محمد عز العرب، والشيخ عبد الوهاب النجار؛ المحاميين الشرعيين، بالدفاع عن مطالب المعتصبين أمام لجنة الحكومة.
75
وتوالت البرقيات على الصحف من الأعيان والأهالي تؤيد موقف الأزهريين في مطالبهم الحقة.
76
فما كان من المجلس الأعلى للأزهر برئاسة الخديوي إلا أن أصدر قرارا بمنع دخول طلاب الأزهر من السنتين الثالثة والرابعة؛ لأنهم رءوسهم الاعتصاب، والسماح فقط بدخول السنتين الأولى والثانية في موعد غايته السبت القادم.
77
فانهالت المقالات الصحفية رافضة هذا القرار، ومؤيدة موقف المعتصبين. ومن هذه المقالات ما كتبه الفلكي؛ صاحب مجلة طوالع الملوك، وما كتبه أحمد لطفي السيد.
78
ويأتي يوم السبت ويتضامن طلاب السنتين الأولى والثانية مع إخوانهم الممنوعين، فلم يدخل منهم الأزهر إلا مجموعة صغيرة قابلت الشيخ حسونة النواوي؛
79
شيخ الأزهر، وطالبته بالوقوف بجانبهم في مطالبهم؛ مما أدى إلى أن يصدر الشيخ إعلانا بعودة جميع الطلبة، ويتعهد لهم بطلب العفو عنهم من الخديوي، وحثه على إجابة طلباتهم بعد عودته من سياحته في الصعيد، فتقدر لجنة الاتحاد الأزهري هذا الموقف من شيخ الأزهر، وتدعو جميع الطلبة بالعودة إلى دروسهم في الأزهر.
80
وفي اليوم التالي، وقبل عودة الطلبة، أصدر شيخ الأزهر قرارا جديدا قال فيه: «حيث إن قرار المنع لا يلغى إلا بقرار مثله، وسمو الجناب العالي الخديوي قد سافر إلى جهة الوجه القبلي، وسافر معه أحد أعضاء المجلس العالي، وصار من المتعذر الآن إصدار قرار عدم المنع حتى يعود الجناب العالي، فالمشيخة ترجو هؤلاء الطلبة أن ينتظروا قليلا، ولا يعودوا إلى دروسهم حتى يصدر قرار عدم المنع الذي سيصدر - إن شاء الله تعالى - عند عودة الجناب العالي، مع العلم بأن المشيخة لا تزال على وعودها لهم بالنظر في مصالحهم، وإجابتهم إلى مطالبهم الحقة.»
81
ويفسر أحمد لطفي السيد هذا الموقف بأن الحكومة لا تريد القضاء على الاعتصاب في حد ذاته؛ بل تريد القضاء على حرية الطلبة وعلى ترابطهم مع الشيخ حسونة النواوي.
82
ويتضح هذا الأمر بعد ذلك؛ حيث علم الشيخ حسونة النواوي بأن الحكومة تريد إذلال الطلبة ولا ترغب في تنفيذ طلباتهم، فما كان منه إلا أن قدم استقالته. وأمام ضغط الرأي العام، قامت الحكومة بتوزيع طلب العفو على كل طالب يريد دخول الأزهر هذا نصه:
نلتمس من فضيلتكم استرحام العفو عنا، والتصريح بعودتنا لتلقي دروسنا كما كنا، وندعو لسمو خديوينا المعظم بطول العمر والبقاء.
83
أحمد لطفي السيد.
وفي اليوم التالي، عينت الحكومة خليل حمادة باشا؛ ناظر الأوقاف العمومية، مشرفا على الأزهر مؤقتا، ودخل الباشا الأزهر يوم 16 فبراير 1909، وأمر بإدخال القوة العسكرية، كما أمر بإغلاق أبواب الأزهر وتحرش هو وأعوانه - أمثال الشيخ عاشور ودولار بك - بالطلاب الذين وقعوا على طلبات العفو والاسترحام، فقاموا بضرب مجموعة منهم بالفلقة وبالخيزران على الأرجل، وبالصفع على الوجوه، وأمر الباشا بتحويل الرواق العباسي إلى سجن أودع فيه مجموعة كبيرة من الطلبة.
84
وجاءت النيابة إلى الأزهر في اليوم التالي وباشرت التحقيق داخله، فكتب أحمد لطفي السيد مقالة أظهر فيها ألوان التعذيب والتنكيل بطلاب الأزهر من قبل حمادة باشا، وطالب فيها بالدستور حماية للقانون وللأزهريين.
85
ووصل الأمر إلى الآستانة، فكتبت جرائدها تصف خليل باشا، المشهور بالاستبداد، بأنه جلاد الخديوي، كما كتب أيضا الزعيم محمد فريد مقالة في هذا الشأن في صحف الآستانة.
86
الزعيم محمد فريد.
ويثور الرأي العام في مصر أكثر من ذي قبل، لنجد الأعيان والباشوات والتجار وضباط الجيش من محافظات مصر يرسلون تلغرافات إلى الخديوي كي يحمي الأزهريين من التعذيب والتنكيل. كما قام عشرون محاميا بالتطوع للدفاع عن الأزهريين المقبوض عليهم في الرواق العباسي، وكتب حسن موسى العقاد مقالة ذكر فيها الأمة بما حل بالمنشاوي باشا قديما، عندما ضرب وأهان رجلا من ذوي السوابق في بيته، فأمرت المحكمة بحبسه، ويعقب على ذلك قائلا: أين حمادة باشا الغريب عنا من المنشاوي باشا الذي منا.
87
وأمام ثورة الرأي العام بهذه الصورة، لم تجد الحكومة مفرا سوى الرضوخ أمام الأمر الواقع، والعفو عن جميع الطلبة، وعودتهم إلى الأزهر، وإلغاء العمل بقانون الأزهر الحالي - سبب الاعتصاب - والعودة إلى قانون الأزهر القديم الصادر عام 1896. وتتوالى الأحداث سريعا بعد ذلك لنجد أمرا جديدا يصدر بحفظ أوراق قضية اعتداء حمادة باشا على الطلبة، واستدعاء الآستانة لحمادة باشا ليتولى نظارة الأوقاف فيها.
88
وهذا هو الجانب التاريخي لقضية الاعتصاب كما عرضته الصحافة. (2) الأحداث طبقا للمعالجة الفنية
عاصر حسن مرعي؛ مؤلف مسرحية «الأزهر وقضية حمادة باشا»، هذه الأحداث، وكتب مسرحيته بعين ترقب الحدث الواقعي وتعايشه على مسرحه الحقيقي؛ حيث إن تاريخ طباعتها مؤرخ بمارس 1909، كما جاء على الغلاف.
89
وبرغم هذه المعايشة إلا أن تعامله مع الأحداث الواقعية لحادثة الاعتصاب كان تعاملا فنيا، عندما نقل هذه الأحداث مسرحيا؛ معتمدا على مجموعة من التيمات الفنية للمسرح التسجيلي، تنوعت بين التصريح والتلميح، والتغيير، والإضافة والحذف، والتلخيص، والتجاهل، والتضمين الحدثي، والإسهاب، كما سنرى.
أولا: التصريح:
وأعني به كشف التلميحات العابرة؛ إذ إن الحدث عندما يأخذ منحى سياسيا يصبح من الصعب على متناوله في حينه أن يتحدث بصورة واضحة عن أمور قد تكون لها عواقبها الوخيمة، حسب تقدير الموقف بالنسبة للسلطة، أو بالنسبة للمساس بمقدسات دينية. وفي الوقت الذي يمكن فيه القول إن مسرحية «الأزهر وقضية حمادة باشا» تعد نسخة فنية تسجيلية من الأحداث التاريخية لاعتصاب طلبة الأزهر، كما جاءت في الصحف التي تحدثت عن هذا الاعتصاب وقت حدوثه؛ حيث إن المؤلف صرح بأهم الأحداث التاريخية، وأثبت ذلك بصورة فنية على امتداد صفحات المسرحية، في الوقت الذي يمكن القول فيه بذلك، وجدت الدراسة أنه صرح بأمور لم تستطع الصحف التصريح بها، واكتفت فقط بالتلميح عنها.
ومن ذلك على سبيل المثال: تلميح الصحف بأن أموال أوقاف الأزهر لا تذهب إليه؛ وفي ذلك يقول ابن النجوم محمود في مقالته: «لو كان ما حبس على الأزهر يصرف على الأزهر لما فرش إلا بأفخر البسط والسجادات، ولأثير بأفخر الثريات، ولأعطي صغار الطلبة ما للعلماء من المرتبات، ولركب العلماء العربات الفاخرات، والدواب الفارهات، ولكانت مكتبته حاوية لمئات آلاف المجلدات، ولكان للأزهر فروع في سائر الجهات.»
90
وعلى الرغم من هذا التلميح في الصحف، إلا أن المؤلف صاغه بصورة صريحة؛ متهما الخديوي نفسه بسرقة أموال أوقاف الأزهر. وقد جاء هذا التصريح على لسان أحد مشايخ الأزهر الثائرين أمام عدم اكتراث الخديوي بالأزهر قائلا: «... أو على الأقل إدارة مصلحة معهدنا هذا، الذي قد تعهد سموه بإصلاحه شخصيا، وأصبح كل فرد من أفراد الأمة يعرف هذه المسئولية؟ أو لعل سموه لا يرغب إلا في حفظ أمواله وما هو مخصص لهذا المعهد في خزينته العامرة؛ للاستعارة منها متى شاء بلا حساب ...»
91
وهذا الاتهام ربما كان الناس يتحدثون به همسا في ذلك الوقت، وكان يسمعه حسن مرعي أو ينقله بحسه الصحفي، فصرح به في جرأة كبيرة كانت السبب في منع الحكومة هذه المسرحية من التمثيل، كما جاء في الدراسة سابقا. ومهما يكن من أمر تمثيل المسرحية من عدمه، إلا أن هذا الاتهام تم تسجيله في المسرحية المنشورة. وهذا يحسب للمؤلف؛ لأنه استطاع أن يسجل أحداثا لم ترد في الصحف. وهذا يعتبر إضافة تاريخية يعلم من خلالها قارئ المسرحية ماذا كان يدور بين الناس من أمور خطيرة لم تستطع الصحف تسجيلها، واستطاع حسن مرعي - على سبيل المثال - تسجيلها وحفظها للتاريخ وللمستقبل.
ومن أمثلة التصريح أيضا: ما كشفه المؤلف عن مظاهرة الطلاب أمام دار المؤيد؛ إذ وصفت الصحف مظاهرة الطلبة أمام مبنى جريدة المؤيد هكذا: ولما مروا أمام دار المؤيد أخذوا يصيحون: فليسقط المؤيد! وإذا بحجارة أخذت تتساقط من أعلى دار المؤيد، فاستشهد الأزهريون بالبكباشي جرفس على هذا العمل، فوقف عندئذ البكباشي ونظر إلى الناس الذين يلقون الحجارة، وقال لهم بالعربية: «ارجعوا ... ارجعوا.» فلم يسمعوا لقوله، بل ظلوا يرجمون الطلبة بالحجارة، فأراد بعض الأزهريين الدخول إلى دار المؤيد للقبض على المعتدين وتسليمهم للبوليس، وتناول بعضهم لحجارة المتساقطة ورجموا بها جدران المؤيد. وفي هذه الساعة وصلت إشارة تلفونية إلى محافظة العاصمة من جريدة المؤيد تفيد أن الأزهريين اجتمعوا أمام المؤيد يريدون الدخول عنوة.
92
الشيخ علي يوسف.
وبالنظر إلى وصف الحدث من خلال الجريدة؛ نلحظ أنه يخلو من ذكر الشيخ علي يوسف؛ صاحب المؤيد، إلا أن حسن مرعي صرح بشخصيته - لأنه كان يكتب المقالات ضد اعتصاب الأزهريين مؤيدا قانون الأزهر الجديد، كما أوضحت الدراسة ذلك سابقا - وجعله هو ومحرر الجريدة سليم شاهين سركيس يشتركان في حوار المسرحية في هذا الموقف:
مفتش البوليس (ملتفتا إلى دار المؤيد) :
ارجعوا يا أفندية ... ومروا عمالكم بعدم رمي الأحجار على الطلبة؛ إذ هذا يعد تعديا فاحشا منكم، ونحن نخاف عليكم وعلى إدارة جريدتكم من أن يمسكم ضر من هؤلاء المعتصبين.
الشيخ (من داخل نافذة) :
من هذا الذي يخاطبكم يا حضرات الأفندية بقوله: أخشى عليكم وعلى إدارة جريدتكم من هؤلاء المعتصبين؟
سركيس :
هذا يا سعادة الباشا جناب وكيل حكمدارية مصر يأمرنا بمنع عمال لنا وقفوا على سطح الدار يقذفون الأحجار على الطلبة المارين.
الشيخ :
ومن هم أولئك الطلبة الذين نخشى منهم علينا وعلى إدارة المؤيد؟ ولم نمنع أطفالا يتسلون برمي الحجارة على الطلبة؟ ولأي شيء يهددنا البوليس بالتخوف من الطلبة (يتزايد رمي الحجارة على الطلبة) .
طالب :
انظروا يا إخواني كيف أن صاحب المؤيد يأمر عماله بأن تقذفنا بالأحجار ونحن سائرون، وقد أمرهم جناب وكيل الحكمدار بمنع ذلك ولم يمتنعوا!
الجميع (يصيحون) :
فليسقط المؤيد، فليسقط المنافق، فلتسقط الخونة (يقترب البعض منهم بالهجوم على إدارة المؤيد ليرجعوا قاذفي الأحجار، فيردهم البوليس ويغلق باب المؤيد ... الجميع يسيرون وينادون: فليسقط المؤيد) .
الشيخ :
اطلب يا خواجة سركيس تلفونيا من المحافظة إرسال قوة لحفظ الإدارة، وزد على ذلك أن حياة الشيخ في خطر، ويجب الإسراع بالقوة بكل سرعة؛ حيث تعدي الطلبة يزداد علينا.
سركيس :
إنني يا سعادة الباشا قد أرسلت في طلب القوة من لحظة، وما أظنها إلا حاضرة الآن.
93
سليم سركيس.
وربما هذا الحوار سمعه حسن مرعي من الشيخ علي يوسف أو من سركيس، أو ربما سمعه من آخرين نقلا عنهما باعتباره صحافيا، وربما أيضا تخيله ونسج أحداثه من خياله المسرحي. ومهما يكن من أمر حقيقة مصدر هذا الحوار، إلا أن هذا الموقف إذا كان متخيلا لا يختلف كثيرا عن حقيقة ما وقع؛ لأن الثابت أن إشارة تلفونية وصلت إلى المحافظة من جريدة المؤيد تطلب قوة عسكرية لحماية مبنى الجريدة من الطلبة المعتصبين.
94
وهذا يعني أن هناك حوارا تم بين أعضاء الجريدة انتهى بطلب القوة العسكرية، وهكذا يتفق الحوار المتخيل في المسرحية مع حقيقة ما ذكرته الصحف بخصوص هذه الواقعة.
ثانيا: التلميح:
وعلى عكس ما سبق، وجدت الدراسة أن الصحف صرحت بأمور لمح بها حسن مرعي في مسرحيته دون التصريح بها، ومن ذلك قضية أحمد باشا المنشاوي، وتشابه موقفه مع موقف خليل باشا حمادة. وقصة المنشاوي تتلخص في قيام لص عام 1902 بسرقة ثورين من مزارع الخديوي ولم تفلح المديرية في القبض عليه، ولكنها حصرت الشبهة في لصين أودعتهما سجن مركز طنطا لتسليمهما النيابة. وبعد يومين، طلب المنشاوي باشا من مأمور المركز تسليم المشتبهين له في منزله بالقرشية حتى يجبرهما على الاعتراف بجريمتهما، وبالفعل قام المأمور بتنفيذ الأمر، وبعد فترة أعيدا إلى السجن. ولما ذهب رئيس النيابة لسؤالهما قررا أنهما عذبا بالضرب في منزل المنشاوي باشا، فأحيلا للكشف الطبي، ووجدت بهما آثار الضرب، فأخذت النيابة في تحقيق الواقعة الجديدة، وذهب النائب العام إلى طنطا والمستر ويلسون؛ مفتش الداخلية. وانتهى الأمر بالقبض على المنشاوي باشا، والقبض على مأمور المركز نفسه؛ لإخراجه مسجونين من السجن بدون إذن من النيابة، وأوقف مدير الغربية لسماحه للمأمور بهذا العمل. وسرعان ما أصبحت القضية قضية رأي عام في مصر انتهت بحبس المنشاوي باشا ثلاثة أشهر. وهذا الحكم ترك صدى في الرأي العام؛ لعلو شأن المحكوم عليه باعتباره من كبار الأعيان في البلاد.
95
وعندما قام حمادة باشا بضرب طلاب الأزهر في المسجد كتبت الصحف عن قصة المنشاوي باشا؛ لتذكر الرأي العام بتشابه الجريمتين، ومثال على ذلك ما كتبه حسن موسى العقاد قائلا عن حمادة باشا: «أنسي هذا الضارب وأعوانه ما حل بالمرحوم منشاوي باشا حين أمر بضرب رجل من ذوي السوابق في بيته من الإهانة والحبس، وما أغنى عنه ماله ولا عظيم رتبته شيئا. فمن هو حمادة الأجنبي عنا بجانب المنشاوي العزيز بيننا».
96
المنشاوي باشا.
وبالرغم من تصريح الصحف باسم المنشاوي باشا وبقضيته، إلا أن حسن مرعي لمح بذلك - في المسرحية - من خلال قول أحد الطلبة إلى حمادة باشا، بعد قيام الباشا بضرب بعض الطلاب قائلا له في جرأة وشجاعة: «... كان يجب عليك الصلاة في المكان الذي تجلد خدام الدين فيه. لقد أجرمت جرما عظيما يعاقبك عليه العدل. إن كنت تقول إنك باشا ولا تحاكم على فعلك هذا، فأقول لك يا سعادة الباشا أنك مخطئ وألف مخطئ؛ فقد سبقك لهذا الفعل كثيرون أعظم منك مقاما ورفعة بين الناس، حكم عليهم القانون. ويعاقبك القانون على جلدك للطلاب خدام الدين.»
97
وربما عدم ذكر حسن مرعي لاسم المنشاوي باشا صراحة، والاكتفاء فقط بالتلميح عنه راجع إلى حسه المسرحي الذي كان أسبق تطبيقا - من تنظير الألمان للمسرح التسجيلي - عندما عني في المقام الأول في مسرحيته بالقضية الاجتماعية والسياسية ، ولم يحفل كثيرا بالفرد من حيث وجوده الذاتي. وهذا مما يعد سمة من سمات المسرح التسجيلي - كما مر شرحه - وبناء على ذلك، لمح المؤلف بالاسم ولم يصرح به؛ لأن اهتمامه اتجه إلى القضية لا إلى الأفراد.
ثالثا: التغيير:
قام حسن مرعي في مسرحيته بتغيير بعض الأمور التي جاءت صريحة في الصحف، ومن ذلك قيام شيخ الأزهر مضطرا باستدعاء القوة العسكرية لحفظ الأمن في الأزهر، وفي ذلك يقول الشيخ لأعوانه: «يعز علي كثيرا طلب قوة لحفظ نظام أشرف معهد، ولكن للضرورة أحكام؛ فاذهب يا حضرة المفتش واطلب عن لساني تلفونيا من المحافظة إرسال قوة عسكرية لحفظ ما طرأ من التهييج في الأزهر.»
98
وهذا الأمر لم تذكره الصحف - فيما يتوافر بين يدي الدراسة من صحف - ولم تقل أية صحيفة بأن شيخ الأزهر هو الذي طلب القوة، بل ذكرت إن الحكمدارية عينت القائمقام أحمد عفت، والصاغ بدر الدين رأفت، وحسين كامل؛ مأمور قسم الدرب الأحمر، ونحو عشرين من فرسان البوليس، ومائتين من الجنود؛ للمحافظة على الأمن والنظام في الأزهر، مع استخدام القوة والقسوة عند الضرورة.
99
وربما اتهام شيخ الأزهر بجلب القوة العسكرية إلى الأزهر كان يدور بين الناس في ذلك الوقت، فنقله المؤلف بوصفه تسجيلا حيا لما كان يدور بين عامة الناس في هذا الأمر، خصوصا وأن القوة العسكرية - مهما كان مصدر الأوامر بتواجدها في الأزهر - لا تستطيع التواجد حول الأزهر أو فيه إلا بموافقة شيخ الأزهر نفسه؛ لأن شيخ الأزهر هو أحد أعضاء المجلس الأعلى للأزهر الذي يرأسه الخديوي نفسه.
رابعا: الإضافة والحذف:
والأمثلة على قيام حسن مرعي بحذف أو إضافة في الأحداث كثيرة. ومنها - على سبيل المثال: عدم ذكره لاسم لجنة أو جماعة أو جمعية «الاتحاد الأزهري»، رغم ذكره في المسرحية لكثير من أقوالها وأفعالها.
100
كذلك ذكره لأسماء لم ترد في الصحف ضمن الأسماء المقترحة من قبل الأزهريين لضمهم إلى لجنة الحكومة لتسوية أمر الاعتصاب.
101
وقد تحدثت الدراسة عن هذه الأسماء سابقا. وأيضا ذكره لهتاف الطلبة في مظاهراتهم بتمجيد وحياة صحيفة اللواء، وبسقوط صحيفة المؤيد، دون ذكره لهتافهم بحياة صحيفة الجريدة.
102
والسر في ذلك ربما يعود إلى أن صحيفة اللواء كانت تقف دائما بجوار أزمة الأزهريين، خصوصا مقالات عبد العزيز جاويش.
103
أما صحيفة المؤيد فكانت على النقيض تماما. وهنا التزم المؤلف بهتاف الطلبة المتناقض بين الصحيفتين؛ ليبين عن تناقضهما أمام القضية. وتجاهله لصحيفة الجريدة كان بسبب محايدتها. وهذا هو السبب في التزام الدراسة بالنقل عنها؛ حتى لا تتأثر بأي طرف من الطرفين المتناقضين.
عبد العزيز جاويش.
ومن هذه الظاهرة أيضا قيام المؤلف بإضافة أمور تاريخية لم تتحدث عنها الصحف أثناء نشوب أزمة 1909، ومن ذلك مسألة قيام الخديوي باستبدال أجزاء من أراضيه بأجزاء أخرى من أراضي الأوقاف. وهذا الموقف عبر عنه المؤلف صراحة على لسان أحد العلماء أثناء مناقشته لشيخ الأزهر في أمر الاعتصاب، وتعجبه من عدم اكتراث الخديوي بالأمر وانشغاله عن أمور الدولة بأموره الشخصية، فعندما قال:
شيخ الأزهر: مولانا - حفظه الله - لا يشغله هذا الأمر، بل تشغله أمور أخرى.
رد عليه العالم: وما هي؟ أمشتغل بالسعي في مطالبة الأوقاف بإبدال بعض أراضيه المجهول مكانها وقيمتها بأراض أخرى في الجزيرة أو في وسط عاصمة البلاد؟!
104
الخديوي عباس باشا حلمي الثاني.
وقصة استبدال الأراضي هذه بدأت عام 1905، عندما فكر الخديوي في استبدال جزء من أطيانه الزراعية مقابل بعض أراضي البناء الموقوفة في مدينة الجيزة، وطلب أن يعطى له ثلاثون ألف جنيه فوق الأراضي الزراعية، على أساس أن الأرض الزراعية تغل ريعا سنويا، وأن أرض المباني لا تغل أي ريع، وعرض الأمر على مجلس الأوقاف فوقف له بالمرصاد الشيخ محمد عبده؛ عضو المجلس - والذي كان دائما يقف أمام محاولات الخديوي لسرقة أموال الأوقاف؛ التي كان ينفقها على أسرته وعلى مزارعه الخاصة - وذكر الحكم الشرعي بأن الوقف يقدر بقيمته وليس بغلته، فألف المجلس لجنة لفحص الموضوع انتهت بأن قررت أنه على الخديوي أن يدفع مبلغ عشرين ألف جنيه فوق الأرض الزراعية؛ لتكون مساوية في القيمة لأرض الوقف. وبسبب هذا الموقف وغيره، بدأ الخديوي يشن الحرب على الشيخ محمد، فأجبره على الاستقالة من مجلس إدارة الأزهر.
105
الشيخ محمد عبده.
وربما كان هذا الموضوع من الموضوعات المثارة بين الناس، والذي من الصعب تسجيله في المقالات الصحفية؛ لأنه طعن مباشر في ذات الخديوي، فأراد حسن مرعي أن يفيد بالحدث التاريخي بصورة فنية، كذلك قام المؤلف بوضع مجموعة كبيرة من خطب الأزهريين في مسرحيته،
106
والتي ألقيت في تجمعهم بحديقة الجزيرة. وهذه الخطب لم تسجلها الصحافة في وقتها، بل أخذت منها بعض المقتطفات التي تمثل مطالب الأزهريين.
107
وهذا الأمر يحسب للمؤلف؛ لأنه سجل في مسرحيته نصوصا من خطب الأزهريين يستفاد منها في الدراسات الأدبية والتاريخية.
خامسا: التلخيص:
قام حسن مرعي بتلخيص بعض الأمور الخاصة بقضية اعتصاب الأزهريين، ومن أهمها مطالبهم الحقة؛ فقد ذكرت الصحف هذه المطالب
108
التي وصلت إلى ثمانية عشر مطلبا، وأسهبت في توضيحها. وقد أوردت الدراسة أهمها فيما سبق. وبالرغم من ذلك لم يذكر منها حسن مرعي إلا ثلاثة مطالب فقط، جاءت على لسان خطيبين معتصبين.
قال الخطيب الأول عن نظام الأزهر المعمول به قبل الاعتصاب: «... إن العلوم وزعت بطريقة غير معقولة، فأنيطت الدروس بالعلوم المهمة لأساتذة غير أكفاء فيها ... وزيد في عددها عن ذي قبل، حتى أصبح الطالب لا يجد لحظة من أوقاته يصرفها في إعداد الدروس لمذاكرته وحده، ليعرض بعد ذلك فكره على أستاذه؛ حتى يتبين أصاب أم أخطأ. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن أكثر طلبة الأزهر بفضل إصراف رجال الحكومة بأموال المسلمين فيما لا يعود على المسلمين ولا على الدين الحنيف بأي فائدة كانت؛ تراهم في فاقة وفقر شديد، بحيث لا يتسنى لهم شراء الكتب التي التزموا بدرسها بمقتضى النظام الجديد.»
109
وقال الخطيب الآخر: «... إن الإنسان منا يا حضرات الأفاضل يقضي زهرة عمره وعنفوان شبابه في طلب العلم، حتى إذا ما انتهى يأخذ من المرتب ما لا يسد به رمق الفؤاد. هذا إذا كان وحده، وما بالك إن كان رب عائلة وصاحب منزل؟! فماذا يفعل؟ ومن أين له أن يصرف على أولاده وعائلته إذا كان هذا مرتبه؟»
110
والدراسة تلاحظ هنا أن حسن مرعي ذكر فقط المطالب التي تتعلق بالأمور الإنسانية، دون الاهتمام بالأمور الإدارية والوظيفية التي ذكرت في بقية المطالب، مثل: أن يكون انتخاب مجلس إدارة الأزهر بمعرفة جميع العلماء بالقرعة السرية، وأن تكون الشهادة الابتدائية مسوغة لحاملها حق المأذونية والإمامة والخطابة، وأن توجد المشيخة طريقة منضبطة لامتحان شهادة العالمية ... إلخ هذه المطالب. وكأن المؤلف أدرك بحسه الفني التطبيقي - قبل التنظير - أن المسرح التسجيلي يهتم بالمضمون الإنساني.
سادسا: التجاهل:
قام حسن مرعي في مسرحيته بتجاهل بعض الأمور المهمة التي حدثت في قضية اعتصاب طلاب الأزهر. ومن هذه الأمور: استقالة شيخ الأزهر الشيخ حسونة النواوي، فقد أفردت الصحف صفحاتها لملابسات هذه الاستقالة، وأوضحت أن الشيخ عقد مجلس الأزهر الأعلى تحت رئاسته أثناء سفر الخديوي في سياحة بالصعيد، وأعلن الشيخ إعادة الطلبة إلى الأزهر؛ حيث إنه سيقنع الخديوي بالعفو عنهم عند عودته. ولما عاد الخديوي، أصر على عدم العفو إلا بعد أن يوقع كل طالب معتصب على طلب عفو واسترحام من الخديوي، يقر فيه بأنه كان معتصبا. وأمام هذا التعنت من قبل الخديوي، قدم الشيخ استقالته، وعبثا حاول الأعيان والعلماء والرأي العام رد الاستقالة بعد ذلك.
111
وهذه الأمور الخاصة باستقالة حسونة النواوي تجاهلها المؤلف في مسرحيته مطلقا. وربما السبب في ذلك راجع إلى أن المؤلف أراد أن يوجه مسرحيته نحو قضية اعتصاب الطلاب دون أن يوجهها إلى أية قضية أخرى، خصوصا وأن الطلاب كانت تجمعهم رابطة روحية كبيرة بهذا الشيخ، وذكر موقف استقالة الشيخ ربما يحيد بقضية الاعتصاب عن غرضها الأساسي، وهو إبرازها بوصفها قضية إنسانية اجتماعية سياسية عامة، لا قضية شخصية تختص بفرد أو بأفراد بأعينهم.
بالرغم من ذلك، فقد قام المؤلف برسم الشخصية الفنية لحسونة النواوي في المسرحية بما يتناسب مع صورتها الواقعية في بعديها الاجتماعي والنفسي، وذلك عندما قال الشيخ للوزراء أثناء تباحثهم في أمر الاعتصاب، وأثناء وجود القوة العسكرية بالأزهر: «وهل تودون سعادتكم إبقاء هذه القوة بمنظرها البشع وشكلها المرعب في ذاك المعهد لحين حضور الجناب العالي؟ أفيما بكرة وعشية تستحيل كعبة الإسلام الثانية طللا مقفرا، ويعود أكبر معهد علمي على المسلمين في شرق الأرض وغربها موصدا هامدا، ويخلى من أساطين الدين وحماة اللسان المبين، وحملة العلم من قديم السنين، ويشرد منه ورثة الأنبياء، فيتبدل الأنس وحشة، وتنسخ آية الخذلان آية الفتح، ويتفرق في يوم أو بعض يوم ما جمع في عشرة قرون؟ أفيما بين غدوة وأصيل يتحول المسجد الأكبر ميدانا تصادم فيه القوات العسكرية دعاة السكينة والسلم، وحملة القرآن والعلم؟ أفيما بين صباح ومساء يمعنون في الأزهريين تنكيلا وتكبيلا، فتتفرق بتفرقهم أجزاء القوة العظمى الدينية التي كانت تعمل للخير العام؟ ... أما في قلوب الناس رحمة للناس؟ اللهم لا سبيل إلى العداء؛ فقد جل الخطب! ... فيا للرحمة بالأزهر والأزهريين!»
112
ومن أمثلة التجاهل أيضا عدم تعريج المؤلف على نهاية أحداث اعتصاب الطلاب، وبالتحديد ما نتج عن قيام خليل حمادة باشا بضرب الطلاب في الأزهر من إثارة للرأي العام، وتحويل الأمر إلى النيابة، التي حققت مع الباشا باعتباره متهما، وإنهاء التحقيق بحفظ أوراقه. وربما يظن القارئ أن المؤلف أنهى كتابته المسرحية قبل هذه الأحداث، بدليل أن آخر مشهد في المسرحية كان ضرب حمادة باشا للطلاب، وإصدار أمره بدخول العسكر إلى الأزهر.
113
هذا بالإضافة إلى أن المسرحية مؤرخة في مارس 1909 كما جاء على غلافها.
114
وعلى ذلك فلا بد أن المؤلف أنهى كتابتها في منتصف أو أواخر فبراير 1909، ورغم وجاهة هذه التبريرات، إلا أن عنوان المسرحية يقول شيئا آخر!
فالعنوان يقول: «الأزهر وقضية حمادة باشا»، وهذا يعني أن المؤلف يعلم تماما بأن هناك قضية مرفوعة على حمادة باشا، أو أن قضيته ما زالت تحقق فيها النيابة حتى وقت نشر المسرحية؛ حيث إن أحداث ضرب الباشا للطلاب وقعت يومي 16 و17 فبراير، وأن النيابة باشرت تحقيقها في القضية ابتداء من يوم 21 فبراير، وأن قرار حفظ أوراق القضية تم يوم 3 مارس.
115
وإذا كان الأمر غير ذلك، فكان من الممكن أن يقول المؤلف في عنوانه مثلا: «الأزهر ومهمة حمادة باشا» ... إلخ العناوين البعيدة عن ذكر كلمة (قضية). وهناك دليل آخر على أن المؤلف لم يرد ذكر تفاصيل القضية؛ وهو تذييله للمسرحية بمجموعة من قصائد الشعراء - أمثال: أحمد نسيم،
116
وإبراهيم الدباغ
117 - التي قيلت في حمادة باشا وضربه لطلاب الأزهر. ومن هذه القصائد قصيدة الشاعر ثابت فرج الجرجاوي
118
الذي أنهاها بقوله:
قف عند حدك يا حمادة وانتظر
عدل الحكيم فإنه إنذار
الآن قد حسم النزاع واقشعت
سحب القرار وزالت الأكدار
سمح المليك بعفوه مع أننا
براء عما تفتري الفجار
119
والمعنى الواضح بأن الشاعر يقر بأن القضية انتهت، وأن تدخل الخديوي بالعفو عن الطلاب وحفظ أوراق القضية ليس معناه أن الرأي العام يوافق على ذلك؛ لأن ما فعله حمادة باشا هو فعل الفجار الذي سيجازى عليه في الآخرة من قبل الحكيم العادل. وإذا صح ظن الدراسة بأن المؤلف تعمد عدم ذكر تفاصيل القضية ونهايتها - تبعا لما أوردته من أدلة - فإن السؤال الذي يطرح نفسه الآن: لماذا تعمد المؤلف عدم ذكر قضية حمادة باشا رغم وضعها في عنوان المسرحية؟
الإجابة من وجهة نظر الدراسة تتمثل في أن حسن مرعي أراد ألا يكون قاضيا لحمادة باشا، ويصدر الحكم عليه بالإدانة، بل أراد أن يحاكمه ويدينه كل قارئ لهذه المسرحية التي نشرت أثناء توهج القضية بين الناس، وأراد أن يحاكمه ويدينه كل متفرج لهذه المسرحية قبل أن تمنعها الحكومة من العرض على المسرح. وهذا الأمر يتوافق تماما بالنسبة لكاتب المسرح التسجيلي، الذي يعي أن رأيه الشخصي لا أهمية له بخصوص القضية التي يعالجها في مسرحيته، فليس من حقه أن ينصب نفسه قاضيا على التاريخ وكأن حسن مرعي طبق هذا المعنى عمليا قبل أن ينظر له الألمان بسنوات كثيرة.
سابعا: التضمين الحدثي والإسهاب:
قام حسن مرعي في مسرحيته بتضمين بعض الأحداث التي حدثت في الماضي، ولا علاقة مباشرة لها مع قضية اعتصاب طلاب الأزهر، ولم يكتف المؤلف بذلك، بل أسهب في هذه الأحداث المتضمنة إسهابا لافتا للنظر، فأخذت مساحة أكبر من حجمها في نص المسرحية . ومن ذلك على سبيل المثال: تضمينه لمسألة القاضي الشرعي؛ فتاريخيا حدثت هذه المسألة في أوائل يناير 1909، وكان محورها يدور حول: هل للحكومة العثمانية حق تعيين القاضي الشرعي؟ أو هذا الحق للحكومة المصرية؟ واتفقت آراء مجلس الوزراء المصري على أن يكون انتخاب القاضي من حق الحكومة المصرية، وأن يكون تعيينه من حق الحكومة العثمانية.
120
وعالج حسن مرعي هذه المسألة في مسرحيته من خلال حوار طويل دار بين شيخ الأزهر وأعوانه، عندما سأله أحد العلماء قائلا: «وأي غرباء تعني يا مولانا؟ وهل صار الأزهر كباقي مصالح الحكومة تلعب به يد الأغراض والغايات والمفاسد؟» فيرد عليه الشيخ قائلا: «وهل تستغرب من ذلك؟ أولم يتداخل ذوو المفاسد من قبل في القضاء الشرعي، وهو لم يقل في احترامه عن معهدنا هذا؟ أما تعلم قبل الآن ما حل بمحاكمنا الشرعية، وما أنزلوه على سماحة قاضي قضاتنا، وما قاموا به في وجهه بحجة الإصلاح المقلوب الذي وضعه أذناب الاحتلال؛ ليقطعوا الصلة التي تربط مصر بالدولة العلية، ولينزعوا القضاء الشرعي المصري من يد الخليفة الممثل في سماحة القاضي؟»
121 ... إلخ الحوار الذي شغل ثلاث صفحات من المسرحية.
وربما تضمين هذا الموضوع والإسهاب فيه من قبل المؤلف في مسرحيته؛ راجع إلى تخوف عامة الناس من استغلال الاحتلال الإنجليزي لهذا الاعتصاب كحجة للتدخل في شئون الأزهر،
122
كما تدخل في مسألة القضاء الشرعي. فمن المعروف أن الاحتلال تدخل في كل أمور الدولة، ولم يبق له إلا أن يتدخل في شئون الخديوي الخاصة، وهي شئون تتعلق بالجامع الأزهر وبالأوقاف وبالقضاء الشرعي.
123
وطالما تدخل الاحتلال في القضاء الشرعي، فمن المؤكد أنه سيسعى للتدخل في الشأنين الباقيين، ومنهما الأزهر. وربما سمع المؤلف أو عاصر هذه المخاوف بنفسه، فأراد إثبات مسألة القضاء الشرعي كتنبيه للقراء أو للمشاهدين إلى هذا التخطيط من قبل الاحتلال.
وأمر آخر ضمنه حسن مرعي في مسرحيته وأسهب فيه: عندما تحدث عن حياة وتصرفات بعض أميرات الأسرة الحاكمة، وبالأخص الأميرة نازلي فاضل، التي ذكرها باسم الأميرة نازلي هانم. واتخذ هذا التضمين شكل حوار بين طالبين أثناء المظاهرة؛ تحدثا فيه عن صاحب المؤيد ودفاعه عن الأميرة نازلي، وبدأ الحوار عندما قال طالب لآخر: «حقيقة ذلك يا أخي، ولقد تعجبت من دفاع هذا الشيخ المنافق هذا الدفاع الفظيع، الذي قام يدافع عن الأميرة نازلي هانم التي أهانت المصريين بقولها لمحرر إحدى الجرائد الإفرنكية؛ بأن المصري لا يساوي ثمن الحبل الذي يشنق به، بعدما أطنبت بالتبجيل والتمجيد في رجال الإنكليز.»
124
ويستمر الحوار بعد ذلك على مدار أربع صفحات حول تصرفات هذه الأميرة وتصرفات أميرة أخرى لم يذكر المؤلف اسمها.
الأميرة نازلي فاضل هانم.
وربما تضمين هذا الموضوع من قبل المؤلف في مسرحيته والإسهاب فيه - رغم عدم علاقته المباشرة بقضية الاعتصاب وعدم وجوده في الصحف في تلك الفترة - راجع إلى شيوعه بين الناس في ذلك الوقت، وربما كان الحديث به سرا على اعتبار أنه مساس بالأسرة الحاكمة، فأراد المؤلف أن يجعل منه تكأة فنية باستخلاص وجه الشبه الرابط بين الأمور، حينما تتردى وتسوء الأحوال، وتفتعل الأحداث للتدخل في شئون البلاد من قبل الغرباء، أو ربما لبيان عدم اكتراث ذوي الأمر بالموضوع. ومن المحتمل أن ذكر هذا الأمر في المسرحية وغيره من الأمور التي تمس الخديوي شخصيا كان من أهم الأسباب التي جعلت الحكومة تمنع تمثيل هذه المسرحية. (د) أسس المسرح التسجيلي بين التنظير والتطبيق
وصلت الدراسة من خلالها خطواتها السابقة إلى قناعة بأن مسرحية «الأزهر وقضية حمادة باشا»، التي نشرت في مصر عام 1909، هي مسرحية تسجيلية؛ ينطبق عليها تعريف المسرح التسجيلي، وتحمل بين طياتها معظم - إن لم يكن كل - سمات المسرح التسجيلي التي جاءت في الدراسات التنظيرية المنشورة - ابتداء من ستينيات القرن الماضي - عن المسرح التسجيلي.
وإذا نظر إلى الدراسات السابقة التي تحدثت تنظيريا عن المسرح التسجيلي - كما جاءت في الدراسة - سيلاحظ أن الألمان قاموا بكتابتها، وترجمها العرب وأفادوا منها في معظم دراساتهم عن المسرح التسجيلي. ومن الجدير بالذكر أن هذه الدراسات - سواء الألمانية أو العربية - أجمعت على أن المسرحيات التسجيلية التي كتبت منذ أول ستينيات القرن الماضي كتبها الألمان، وكانت تدور حول موضوعات منها: جرائم النازية، ومجزرة إندونيسيا، ومشكلة الشرق الأوسط، ومقتل جون كنيدي، والتدخل العسكري ضد أنجولا وموزمبيق، والتفرقة العنصرية في أميركا وجنوب أفريقيا ... إلخ هذه الموضوعات.
125
وإذا طرحت الدراسة سؤالا يقول: لماذا قام الألمان بكتابة مسرحيات تسجيلية تدور حول هذه الموضوعات على وجه الخصوص، ولا تدور حول غيرها؟ فستأتي الإجابة من بيتر فايس - صاحب أول دراسة تنظيرية منشورة عن المسرح التسجيلي - قائلا: إن الكتاب الألمان تعرضوا إلى مثل هذه الموضوعات لأنها موضوعات لا ينظر إليها إلا كجريمة من طرف واحد فقط.
126
وبناء على ذلك تقول الدراسة: ألم يقم حسن مرعي في كتاباته المسرحية باختيار موضوعات لا يمكن النظر إليها إلا على اعتبار أنها جريمة من طرف واحد؟! ألم يكتب «حادثة دنشواي» عام 1906 باعتبارها جريمة من طرف الاحتلال الإنجليزي في شخص اللورد كرومر ضد الشعب المصري؟ ألم يكتب مسرحيته «الأزهر وقضية حمادة باشا» عام 1909 باعتبارها جريمة من السلطة في شخص خليل حمادة باشا ضد طلاب الأزهر؟!
وإذا عادت الدراسة مرة أخرى إلى موضوعات المسرحيات التسجيلية التي كتبها الألمان؛ فسيلاحظ عليها أنها موضوعات بعيدة مكانيا عن مؤلفيها! فأين مكان إندونيسيا والشرق الأوسط وأميركا وأنجولا وموزمبيق وجنوب أفريقيا ... من الكتاب الألمان؟! ويجيب على ذلك بيتر فايس أيضا قائلا: إن مؤلف المسرح التسجيلي لا يوجد في مركز الأحداث، ولكنه يأخذ موقف المراقب والمحلل.
127
وهنا تتساءل الدراسة: أيهما أجدى للمسرح التسجيلي: وجود المؤلف بعيدا عن مركز الأحداث، فيقوم بمراقبتها وتحليلها بناء على ما يصل إليه من صحف وتقارير وسجلات من مركز الأحداث البعيد عنه؟ أم وجوده في مركز الأحداث واطلاعه، في المراقبة والتحليل، على ما لديه من صحف وتقارير وسجلات داخل مركز الأحداث الموجود فيه؟!
والأمر نفسه ينطبق أيضا من حيث الزمان! فالدراسة تتساءل: أين زمان أحداث إندونيسيا والشرق الأوسط وأميركا وأنجولا وموزمبيق وجنوب أفريقيا ... من زمان كتابة الألمان لهذه الأحداث؟! فالمعروف أن الكتاب الألمان هم المؤسسون الفعليون للمسرح التسجيلي، الذي لا يمكن تحديد نظريته العامة إلا باستقراء أعمالهم .
128
حيث بدأ المسرح التسجيلي - كحركة درامية - بظهور مسرحية «النائب» عام 1963، للكاتب الألماني «هو خهوت»؛ الذي عرض فيها شريحة مقتطعة من التاريخ، كما قام بيتر فايس بكتابة مسرحيته «مارا صاد» عام 1964،
129
ومسرحيته «أنشودة أنجولا» عام 1967، وزمن أحداثهما يسبق كتابتهما بسنوات طويلة.
وهنا تتساءل الدراسة: أيهما أجدى للمسرح التسجيلي: وجود المؤلف في زمن آخر غير زمن أحداث مسرحيته ليطلع على صحفها وسجلاتها وتقاريرها؟ أم وجوده في زمن الأحداث ومعايشتها، والاطلاع على صحفها وسجلاتها وتقاريرها؟! فإذا كان الاختيار الأول هو الأجدى بالنسبة للمكان والزمان، فللألمان الريادة في ذلك المضمار. أما إذا كان الاختيار الآخر هو الأجدى، فلحسن مرعي الريادة المصرية والعربية، بل والعالمية في مضمار تأليف المسرحيات التسجيلية؛ حيث إنه عاش وتعايش في مكان وزمان الأحداث.
وإذا كان أحد الدارسين قال عن المسرح التسجيلي: «... ليس هناك من يزعم أن الزمن الذي تعرض فيه مسرحية ما مطابق للزمن الذي حدثت فيه وقائع المسرحية في الواقع.»
130
فإن الدراسة تستطيع أن تزعم بذلك؛ حيث إن حسن مرعي كتب مسرحيتيه التسجيليتين في الزمن نفسه لأحداثهما، بل وأراد عرضهما على المسرح لولا منعهما من قبل الرقابة المسرحية الحكومية.
وفي ختام هذا الأمر، تستطيع الدراسة أن تقول: إن حسن مرعي بكتابته للمسرحية التسجيلية كان أسبق تطبيقيا من الألمان رواد تنظير وتأليف المسرح التسجيلي، بل وكان أقرب من تنظيرهم وتطبيقهم إلى الروح الفنية والمنطقية للمسرح التسجيلي، عندما كتب مسرحيتيه وهو في قلب أحداثهما، وعايش زمن أحداثهما بكل دقائقه وتفاصيله. وعلى ذلك، فيعتبر حسن مرعي رائد التطبيق المسرحي للمسرح التسجيلي في مصر والعالم العربي، بل وفي العالم الغربي، إن صحت خطوات الدراسة في إثبات ذلك.
ثالثا: النتائج
في نهاية هذه الدراسة التي تناولت قضية «بداية المسرح التسجيلي في مصر»: مسرحية «الأزهر وقضية حمادة باشا نموذجا»، توصلت الدراسة إلى النتائج الآتية: (1)
من حيث «بواكير المسرح التسجيلي في مصر»، اتضح أن المسرح التسجيلي في مصر هو المسرح المرفوض رقابيا لأسباب سياسية أو اجتماعية، وأن هذا المسرح ظهر في مصر على يد حسن مرعي عندما كتب مسرحيته الأولى «حادثة دنشواي» عام 1906. (2)
من حيث «سمات المسرح التسجيلي في مسرحية الأزهر وقضية حمادة باشا»، لوحظ أن مسرحية «الأزهر وقضية حمادة باشا»، المنشورة عام 1909، تعتبر مسرحية تسجيلية؛ لتطابقها مع تعريف المسرح التسجيلي، ولتضمنها عناصر وسمات هذا النوع المسرحي، كما جاءت في الدراسات التنظيرية. وبذلك يعتبر حسن مرعي من أوائل من كتبوا المسرحية التسجيلية في مصر، إن لم يكن الأول بالفعل. (3)
من حيث «الفروق الفنية لأحداث الأزهر بين الواقع والإبداع»، وجد أن تعامل حسن مرعي مع النص المسرحي كان تعاملا فنيا في مسرحة الأحداث التاريخية، وذلك من خلال أدواته الفنية التي تنوعت بين التصريح والتلميح، والتغيير والإضافة والحذف، والتلخيص والتجاهل، والتضمين الحدثي والإسهاب؛ وذلك عندما صرح بأن الخديوي يسرق أموال أوقاف الأزهر، ولمح بقضية المنشاوي باشا، وغير في بعض الأحداث؛ كطلب شيخ الأزهر لقوة البوليس، وأضاف مسألة قيام الخديوي بإبدال بعض أراضيه بأراضي الأوقاف، وحذف اسم لجنة الاتحاد الأزهري، ولخص مطالب الأزهريين، وتجاهل ذكر استقالة شيخ الأزهر حسونة النواوي، وضمن مسألة القضاء الشرعي، وأسهب في وصف تصرفات الأميرة نازلي فاضل. (4)
من حيث «أسس المسرح التسجيلي بين التنظير والتطبيق»، انتهت الدراسة إلى أن حسن مرعي بكتابته للمسرحية التسجيلية كان أسبق تطبيقيا من الألمان؛ رواد تنظير وتأليف المسرح التسجيلي العالمي، بل وكان أقرب من تنظيرهم وتطبيقهم إلى الروح الفنية والمنطقية للمسرح التسجيلي، عندما كتب مسرحيتيه «دنشواي» و«الأزهر» وهو في مكان أحداثهما، معايشا لزمانهما، بكل ما في المكان والزمان من دقائق وتفاصيل. وعلى ذلك، يعتبر حسن مرعي رائد التطبيق المسرحي للمسرح التسجيلي في مصر والعالم العربي، بل وفي العالم الغربي؛ سابقا بذلك تنظيرات الألمان، كما مر توضيحه في الدراسة.
رابعا: التوصيات
وبناء على ما تكشف للدراسة من خلال تناول الموضوع، يمكن القول: إن قضية المسرح التسجيلي بحاجة إلى دراسات مساندة تتعقب النصوص المسرحية المجهولة التي عرضت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وأخص تلك المسرحيات التي سجلت الأحداث التاريخية أو الاجتماعية في حينها؛ حتى نتمكن من رسم صورة متكاملة للمسرح التسجيلي في مصر؛ ومثال على ذلك: (1)
هناك نص مفقود لمسرحية «أدهم باشا»، التي عرضت في مصر عام 1897، والعثور على هذا النص والتحقق منه: هل هو نص مترجم عن التركية أو هو نص مؤلف؟ وهل مؤلفه تركي أو مصري؟ وهل هو نص منشور أو مخطوط؟ كل ذلك يمكن دراسة من الوقوف على سمات فنية لمسرحية تنبئ أخبارها القليلة أنها من الجائز أن تكون ضمن جنس المسرح التسجيلي. (2)
إذا كانت الدراسة قد عنيت بمسرحية «الأزهر وقضية حمادة باشا» لحسن مرعي، فإن هناك نصا مسرحيا آخر للمؤلف ذاته مفقود؛ هو مسرحية «صيد الحمام» أو «حادثة دنشواي»، وهو لا يقل أهمية - حسب ظني - عن النص السابق؛ حيث إن هذه المسرحية تعتبر باكورة كتابات حسن مرعي، والعثور على مثل هذا النص يمكن دراسة من فحص واستبيان تطور الحس الفني في الإبداع المسرحي التسجيلي لدى حسن مرعي؛ إذ ربما تكون السمات الفنية متطابقة مع سمات النمط الذي عالجه البحث، أعني مسرحية «الأزهر وقضية حمادة باشا»، وربما تكون مختلفة قليلا. وهذا أمر لا تكشفه إلا دراسة النص، ومن ثم يمكن أن يرسخ لظاهرة المسرح لدى حسن مرعي، ويمكن أن يكتشف أنها خطوة سابقة في استخدام الأدوات. (3)
أن تعنى دراسة برصد وتجميع القصائد الشعرية التي كتبت ونشرت عن أحداث اعتصاب طلاب الأزهر عام 1909، خصوصا وأن المؤلف أورد أربع قصائد منها في تذييل مسرحيته، حتى تتم المقارنة بين تسجيل هذه الحادثة مسرحيا وشعريا. وهذا الأمر ربما يكشف لنا عن نمط جديد في الأدب يقوم على الرصد والتسجيل بغير أدوات المسرحي. فإذا عنيت دراسات بمثل ذلك أمكنت الحقل الأدبي من الإفادة من نتائجها، وأثرت المكتبة العربية في هذا المجال.
د. سيد علي إسماعيل
هوامش
رواية الأزهر وقضية حمادة باشا
الفصل الأول (ترفع الستار عن ساحة معهد كبير تمثل ساحة معهد الأزهر الشريف وبجوانبها وفي وسطها مقاعد مرتفعة وعليها حضرات بعض العلماء المدرسون ومحتاط بكل مقعد بعضا من طلبة ذاك المعهد الشريف.)
عالم :
ما بالكم أيها الطلبة مكثرين من الغوغاء في هذا اليوم خلافا لعادتكم؟
طالب :
إن الغوغاء لآتية من حلقة أخرى، أما نحن فصاغون كل الإصغاء لما تلقيه علينا من الدرس.
عالم :
وما بال إخوانكم متهيجين، وأراهم ليسوا براضين عما يلقيه عليهم حضرة المدرس؟
طالب :
لعلهم يفتكرون في مطالبهم التي طالما طالبوا بها من زمن بعيد ولم يصغ لقولهم أحد.
عالم :
وأي شيء يطلبون ... وهل هذا الوقت هو معد لتقديم طلبات ... وهل بمثل تلك الغوغاء يؤملون الالتفات إلى مطالبهم؟
طالب :
وبأي كيفية يطلبون مطالبهم الحقة إذا لم يفعلوا ما هم فاعلون الآن من الغوغاء وتهييج الافكار؟!
عالم :
إذن أراك راضيا عن أفعالهم، بل وأصبحت أكثر منهم عنادا، وعليه فإن لم تجلس بأدب وانتظام صاغيا لما ألقيه عليك وعلى رفقائك، ناديت على أحد ملاحظي النظام وطلبت عقابك على هذا الفعل!
طالب :
قل يا حضرة العالم ونحن صاغون بكل تأدب.
عالم :
كان عمر بن عبد العزيز إذا أضاء فتيلة يحسب عليها مال المسلمين فدخل عليه داخل ليكلمه في شأن خاص فأطفأها وقال: ما يكون لي أن أستضيء بنور المسلمين إلا في شئون المسلمين.
طالب :
إذن فيسمح لي حضرة العالم أن أسأله سؤالا لم أخرج به عن هذا الموضوع؟
عالم :
قل ما تريد بكل اختصار فأجيبك عليه.
طالب :
إذا كانت ملوك المسلمين وخلفاؤهم وأمراؤهم يحافظون هكذا على أموال المسلمين حتى من إضاءة فتيلة في غير موضعها ... فلماذا أمراؤنا يستبيحون أكثر نعم المسلمين وأموالهم فيما لا فائدة منه على الإسلام ودينهم مطلقا؟
عالم :
هذا البحث ليس من شأننا فسل سؤالا غير هذا أجيبك عليه.
طالب :
عظيم. لم نحن معاشر الطلبة نتكبد هذه المشقات في تغربنا عن أهلنا وابتعادنا عن بلادنا ومكوثنا السنين الطوال بهذا المعهد؟
عالم :
لتشرفكم في خدمة الدين الحنيف.
طالب :
أوليس هذا الدين هو دين الإسلام؟ فإذا كان كذلك، فكيف لا يكون لنا النصيب الأكبر من أموال المسلمين؟
عالم :
هو كما تقول، فخيرات المسلمين أكثرها تنفق عليكم وعلى هذا المعهد وما يتبعه من معاهد الدين. وما من أحد إلا ويعرف ذلك .
طالب :
ولماذا أكثرنا جائعون بائسون إذن؟
عالم :
إنكم الآن تتعلمون، ومتى تعلمتم تصيرون علماء مثلنا فلا تحتاجون بعد.
طالب :
ولنفرض يا حضرة الأستاذ أن العناية ساعدتنا وصرنا من أمثالك، فأين هي النتيجة الحسناء ونحن نراك أفقر منا؟!
عالم :
أنا لست بفقير كما تزعم، ومع كل فقد غناني الله بإيمان وحق مبين.
طالب :
وعلى هذا أيمكن لسيدي أن يخبرني عن مرتبه الذي يتقاضاه قياما لما يقوم به من الأعمال الجليلة؟
عالم :
لندع مقدار المرتب الذي لا يذكر ونبشركم بأنه وإن كان مرتبنا قليل جدا فإن لنا مكافآت متوالية نأخذها عند نجاحنا في كل امتحان.
طالب :
وما هي مدة كل امتحان؟ وما هو مقدار المكافأة؟
عالم :
أما المدة فهي قصيرة جدا وهي سنتان أو ثلاثة بالأكثر، ومقدار المكافأة فعظيم جدا وهو جنيه واحد إنكليزي يخصم منه ستون غرش ثمن استمارات ورسوم للامتحان، والباقي وهو الأربعون قرش إلا قرشي ونصف لنا خاصة، بارك الله لنا فيها، وقد نصت اللايحة أن هذه المكافأة لم تعط إلا تشجيعا للاجتهاد على العمل والإقدام في خدمة الدين الإسلامي.
الطلبة :
ها ها ها ... حقا! إن هذا شيء مضحك، والمضحك أكثر هي مقدار تلك المكافأة الجسيمة الهائلة.
عالم :
أراكم قد خرجتم عن دائرة الاحترام بضحككم هذا.
الطلبة :
نعم، فلقد خرج شيوخنا ورؤساؤنا عن دايرة الحق والعدل والإنصاف من قبلنا، فضرونا وضروا أنفسهم، بل ضروا الإسلام ودينه الحنيف بتصرفهم هذا.
عالم :
انظروا تروا ملاحظي الجامع قد وقفوا وهم على وشك القبض عليكم من فعلكم هذا.
الطلبة :
وها نحن تاركين لكم معهدكم هذا معتصبين عن سماع ما تلقونه علينا، بل ذاهبون إلى حيث نجد ضمانا لمستقبلنا الضائع إلى أن ينتبهوا شيوخنا ويصغوا إلى مطالبنا ويهديهم الله إلى إنصافنا، وما هذا على الله بعزيز.
ملاحظ :
اجلسوا أيها الطلبة في مجالسكم بكل انتظام واسمعوا دروسكم بكل آداب واحترام وإلا ...
الطلبة :
دعنا وشأننا وافعل ما تشاء، فلا نجلس ولا نسمع شيئا حتى تجاب مطالبنا.
مفتش :
إن لم تجلسوا مختارين أجلسناكم مجبورين.
طلبة :
أتجبروننا بالقوة على الجلوس؟ فإذا كان كذلك فنحن أقوى منكم بالنسبة لعددنا.
مفتش :
في أقل من لمح البصر أحضرنا قوة الحكومة. عندها تعلموا يا ذا الهفوة أن الحق مع القوة.
طالب :
كلا يا حضرة المفتش، ليس الحق مع القوة؛ فإن القوة مع الحق، ومع ذلك فها أنا أول من ينادي على إخواني بالاعتصاب والإيقاف عن العمل إن لم يجيبوا مطالبنا (يقف على مقعد عال وينادى بصوت جهوري):
يا إخواني الطلبة، ويا من تجمعني وإياكم أكبر كلية دينية ويضمنا أعظم معهد علمي، أشير عليكم بالاعتصاب والانقطاع عن دروسكم حتى تجاب مطالبنا الحقة، أو خير لنا ترك هذا المعهد غير آسفين ما دمنا بهذا الشكل السيئ والضنك والبؤس.
طلبة :
نعم نعم، فهذا خير لنا ... وها نحن يد واحدة معتصمين بحبل الله جميعا؛ فإن القوة في الاتحاد. (ينزل الستار.)
الفصل الأول
المنظر الثاني (ترفع الستار عن شكل قاعة مزخرفة وبجانبها مكاتب عليها بعض مشايخ وفي صدرها مكتب حضرة شيخهم وهو يمثل فضيلة شيخ الجامع الأزهر يخاطب المشايخ.)
الشيخ :
ما هذه الغوغاء يا حضرات الأفاضل؟
عالم :
إنها لآتية من جهة حلقات التدريس، وما أظنها إلا تهييجا من الطلبة الذين يرغبون المطالبة بحقوقهم المهضومة في نظرهم.
الشيخ :
لقد تقدم إلي شكاوى كثيرة بهذا الخصوص وفاتحت بها أولي الأمر ولم أجد التفاتا.
عالم :
التفات من ترجون فضيلتكم؟! ومن هو المسئول غيركم في هذا الأمر الخاص بوظيفتكم؟! أولم تكن وظيفتكم أقدر من ذلك؟
الشيخ :
هو كما تقول، ولكن الأمر بخلاف ما تزعم؛ ففي الأمور أمور لا يمكن التصريح بها، وغاية ما أقوله هو أنه لا يوجد شؤم على بلد أكثر من تداخل الغريب فيها.
عالم :
وأي غرباء تعني يا مولانا؟ وهل صار الأزهر كباقي مصالح الحكومة تلعب به يد الأغراض والغايات والمفاسد؟
الشيخ :
وهل تستغرب من ذلك؟! أولم تتداخل ذوو المفاسد من قبل في القضاء الشرعي، وهو لم يقل في احترامه عن معهدنا هذا؟ أما تعلم قبل الآن ما حل بمحاكمنا الشرعية، وما أنزلوه على سماحة قاضي قضاتنا ، وما قاموا به في وجهه بحجة الإصلاح المقلوب الذي وضعه أذناب الاحتلال ليقطعوا الصلة التي تربط مصر بالدولة العلية، ولينزعوا القضاء الشرعي المصري من يد الخليفة الممثل في ذات سماحة القاضي؟ وهل تذكر أيضا التهديدات التي هدد بها أولو الأمر في مصر سماحته وهو ضاحك منهم ساخر بهم لا يرهبه في الحق مرهب ولا يلويه عن وجه ربه وعد أو وعيد؟ ولم يقتصر الإنجليز على محاربة سماحته في مصر بل بعثوا إلى رجالهم في الآستانة ليسعوا ضده لدى أصحاب السلطة فيها لينقلوه من مصر.
عالم :
نعم، نعم، قد بلغنا كل هذا، ولكن جلالة الخليفة أبى كل الإباء أن ينال الأعداء من سماحته مأربا ورد كيد الساعين في نحورهم.
آخر :
والظاهر أن أولئك الأصدقاء أرادوا أن ينتهزوا فرصة الانقلابات التي حدثت أخيرا في مشيخة الإسلام الكبرى والوزارة العثمانية ليقدموا للإنجليز الخدمة التي يرجونهم فيها، فقدموا إلى جلالة السلطان اسم سماحته ضمن قائمة العلماء الذين عرضت أسماؤهم عليه ليختاره من بينهم شيخا للإسلام.
الشيخ :
نعم، ولما علم جلالة السلطان ونظر بنظره الثاقب اسم سماحته علت وجهه ابتسامة ذات معاني سياسية لا يدريها إلا من خبروا دهاء جلالته، فكان جلالته يصرح للذين يعملون لإبعاد قاضي القضاة عن مصر: «إني عالم يما يخفون، فلا أمكننكم من ضالتكم المنشودة، وإن كنت أقدر إخلاص نائبي قدره وأجل تقواه وأحب له الرقي والفلاح، فإذا غضضت الطرف عن اسمه ولم أنتخبه لمشيخة الإسلام فإنما أفعل ذلك لأني لا أجد أكفأ منه في حراسة حقوقي الشرعية في وادي النيل.»
عالم :
نعم، نعم، هذه الابتسامة السلطانية! وليعلموا أعداء سماحة القاضي أن الطود لا تزعزعه عاصفات الرياح، فليقلعوا عن غيهم وليتركوا قاضي الإسلام بعيدا عن مهب السياسة، فإن ثواب الآخرة الخالد خير من متاع دنيوي مشوب بالمكر والخيانة والخداع. هو كما تقول أيها الفاضل، فلقد تركوا القاضي وشأنه ولكنهم تحولوا نحو معهدنا الشريف، وما تسمعه الآن من الغوغاء والاضطراب من دسائسهم.
عالم :
كنا نظن أن معاهد العلم أعز من أن تنالها يد الظلم وأرفع من أن يهان رجالها وطالب العلم فيها، ولكن قد رأينا ما أدهشنا وأدهش كل مسلم عند سماعه بما هو مخل بهذا المعهد.
آخر :
قلت يا فضيلة الشيخ إنك كثيرا ما عرضت أمرنا على أولي الأمر، أو بالحرى على جانب خديوينا المعظم، فما كانت النتيجة؟
الشيخ :
إن مولانا المعظم ليس خاليا لنا ولا لمصلحة معهدنا ولا لمصلحة الأزهريين التي أصبحت من خصائصه وشأنه الخاص.
عالم :
وما الذي يشغله عن مصالحنا؟ فلعلها أمور سياسية لمصلحة بلاده العامة، ولقد تكون خير لنا؟
الشيخ :
لا، مولانا حفظه الله لا يشغله هذا الأمر، بل تشغله أمور أخرى.
عالم :
وما هي؟ أمشتغل بالسعي في مطالبة الأوقاف بإبدال بعض أراضيه المجهول مكانها وقيمتها بأراضي أخرى في الجزيرة أو في وسط عاصمة البلاد؟
الشيخ :
وغير ذلك، فإن ما يشغله عن مصلحة الأزهر وغيره من مصالح الأمة اشتغال سموه بالتجارة وزراعاته الخصوصية.
عالم :
إن مقام سمو الأمير في مصر فوق كل مقام، فهو ملك معنى وأمير سياسة، أو تابع للدولة العلية صورة ومستقل مطلقا حقيقيا، واشتغال سموه بالتجارة والزراعة وما يدخل في بابهما يوجب على المخلصين لجنابه العالي تنبيهه إلى العدول عنها، وذاك أليق بالأمراء والملوك، فهكذا المتبع عند أمراء وملوك الغرب - بل العالم - جمعاء.
آخر :
ولكن أيها الفاضل! هنا ظروف غير موجودة في أوروبا، فمنها أسباب هنا تبيح لسموه الاشتغال بأكثر مما هو مشتغل به الآن، وتمييزه عن سواه من الملوك بحق الاتجار والاشتغال بالزراعة وغيرها.
آخر :
اعترفنا بمملكة سمو الأمير وأنه ملك بمعنى الكلمة مثل ملوك أوروبا، فلماذا يباح لسموه العمل بالتجارة والزراعة والتنزه وترك مصالح الأمة تندب سوء حظها، ولا يباح لسواه؟! وما هي أسباب الإباحة التي يتمتع بها سموه ولا يحوزها غيره؟
آخر :
أما أسباب الإباحة فمنحصرة في الامتيازات أولا، والاحتلال ثانيا. ومتى ألغيت الامتيازات وزال الاحتلال ألغي هذا الفرق بين سموه وباقي الملوك.
آخر :
ما هذا الكلام؟ وما هذا الدفاع الممقوت؟ وأي علاقة بين الامتيازات والاحتلال وإدارة شئون الأمة؟! أو على الأقل إدارة مصلحة معهدنا هذا الذي قد تعهد سموه بإصلاحه شخصيا وأصبح كل فرد من أفراد الأمة يعرف هذه المسئولية؟ أو لعل سموه لا يرغب إلا في حفظ أمواله وما هو مخصص لهذا المعهد في خزينته العامرة للاستعارة منها متى شاء بلا حساب مبقى هذا ليوم الحساب؟ فإذا كان الأمر كذلك فسلام على الدين الحنيف ومعاهده، وسلام على علماء وطلاب كأمثالنا يسلبون حقوقهم وهم صاغرون.
حاجب (يدخل الحاجب منحنيا أمام الشيخ ويقول) :
بالباب يا مولاي رئيس مفتشي الجامع يريد مقابلة فضيلتكم.
الشيخ :
دعه يدخل.
الشيخ :
ما وراءك يا حضرة المفتش؟ وماذا حصل بين الطلبة حتى أوجبوا كل هذا الغوغاء؟
المفتش :
اعتصبت عموم الطلبة يا مولانا وتظاهروا أمام المدرسون، ولولا ما أتيناه من الحكمة لعظم الأمر وكان خطيرا. وهم الآن على وشك الشجار مع حضرات المدرسون، وقد أتيت لأخبر فضيلتكم عما نفعله مع المعتصبين بعدما تركت باقي مفتشي وملاحظي الإدارة محافظين عليهم.
الشيخ :
ما رأيكم يا حضرات العلماء في هذا الأمر؟ وما هي الخطة الواجب اتخاذها لتسكين خاطر المعتصبين الآن؟
عالم :
الرأي عندي يا ذا الفضيلة والمروة أن تأمر لتسكينهم بإحضار القوة.
آخر :
وهل يصح أو يجوز شرعا إحضار قوة عسكرية في هذا المعهد المشهور بقوته العلمية وهي فوق كل قوة؟
عالم :
كل شيء يجوز إجراؤه عند الضرورة، فإن لم يسرع فضيلة شيخنا لصدور أمره بطلب قوة عسكرية لحفظ نظام المعتصبين لا تحمد عاقبة أفعالهم.
الشيخ :
يعز علي كثيرا طلب قوة لحفظ نظام أشرف معهد، ولكن للضرورة أحكام! فاذهب يا حضرة المفتش واطلب عن لساني تلفونيا من المحافظة إرسال قوة عسكرية لحفظ ما طرأ من التهييج في الأزهر، وها أنا ذاهب حالا لمقابلة الجناب العالي لأخذ رأيه في هذا الأمر الخاص بشئون سموه العالي. (تنزل الستار لختام الفصل الأول.)
الفصل الثاني
المنظر الأول (ترفع الستار عن شكل ديوان فخيم يشبه ديوان عابدين وبه كراسي مزخرفة للجلوس، وعليها بعض من حضرات النظار وبعض العلماء ومعهم حضرة فضيلة شيخ الجامع.)
ناظر :
أما الجناب العالي فهو متغيب الآن لتفقد مزارعه، وقد أرسل لسموه تلغرافا يلتمس فيه حضوره للنظر في أمر فضيلتكم.
الشيخ :
وهل تظنون سعادتكم أن مولانا الخديوي حفظه الله يأتي مسرعا على أثر وصول تلغرافكم، ويترك أعماله الزراعية الخصوصية التي لولاها لرأينا سموه قد تفرغ إلى نصرة العلم وتعضيد المشروعات الدينية، بل ورأيناه ندي الكف مطلق اليسار بالعطا والجود للمشروعات الخيرية.
رئيس النظار :
ليطمئن خاطر فضيلتكم من جهة سرعة حضور سمو الخديوي؛ فإن التلغراف أرسل باسمي لاستدعاء سموه، وأنا أعرف قيمة مطالبي من الجناب الخديوي؛ نظرا لاحترامي الشخصي عند سموه.
الشيخ :
وما الذي يجب فعله الآن لتسكين خاطر المعتصبين لحين حضور جنابه.
ناظر :
أخبرتنا يا فضيلة الشيخ بأنك طلبت قوة عسكرية لحفظ النظام، وقد حضرت تلك القوة، وهي محافظة الآن، فلتبق كذلك لحين حضور سموه.
الشيخ :
وهل تودون سعادتكم إبقاء هذه القوة بمنظرها البشع وشكلها المرعب في ذاك المعهد لحين حضور الجناب العالي؟ أفيما بكرة وعشية تستحيل كعبة الإسلام الثانية طللا مقفرا ويعود أكبر معهد علمي على المسلمين في شرق الأرض وغربها موصدا هامدا، ويخلى من أساطين الدين وحماة اللسان المبين وحملة العلم من قديم السنين، ويشرد منه ورثة الأنبياء، فيتبدل الأنس وحشة وتنسخ آية الخذلان آية الفتح، ويتفرق في يوم أو بعض يوم ما جمع في عشرة قرون؟! أفيما بين غدوة وأصيل يتحول المسجد الأكبر ميدانا تصادم فيه القوات العسكرية دعاة السكينة والسلم وحملة القرآن والعلم؟ أفيما بين صباح ومساء يمعنون في الأزهريين تنكيلا وتكبيلا، فتتفرق بتفرقهم أجزاء القوة العظمى الدينية التي كانت تعمل للخير العام، أما في قلوب الناس رحمة للناس؟ اللهم لا سبيل إلى العداء، فقد جل الخطب! فيا للرحمة بالأزهر والأزهريين!
ناظر :
وماذا نفعله يا فضيلة الشيخ وليس بيدنا شيء نعمله؛ فإن إدارة الأزهر وشئونه منحصرة في خصائص سمو الأمير.
الشيخ :
ما هذا الكلام يا نظار حكومتنا؟ وكيف لا تعملون وقد ألقيت بيدكم مقاليد الأحكام وزمام الأنام، وعلى الخصوص حفظ أموال بيوت الإسلام؟ وكان أول واجب عليكم أن تنظروا أولا في تحسين شئون خدمة الدين وحملة كتاب رب العالمين، أوليس هذا خير لكم من تشييد عمارات، وعمار مهجورات، وشراء خرابات، وسفرياتكم إلى المنتزهات، وانتقائكم أحسن مياه الحمامات، وإصدار أوامركم بتوسيع حساب الوليمات، وإسرافكم الزائد على المراقص والباللوات و... و...
ناظر :
كفى يا فضيلة الأستاذ، فهذه سنتنا وسنة آبائنا وأجدادنا، قد تعلموها من باقي الحكومات المتمدنة.
عالم :
أولم يكن لربكم دين ولنبيكم سنة شريفة تتبعونها وتحافظوا عليها؟ وكيف بعملكم هذا وهو مخالف لسنة الدين تودون المحافظة عليه مفتخرين بمدنيتكم تاركين وراء ظهوركم حفظ سنة دينكم ونبيكم الكريم. (غوغاء من الخارج.)
آخر :
اسمعوا، اسمعوا، ثم انظروا من هذه النوافذ تروا بأعينكم وتسمعوا بآذانكم صراخ هذا الجمع المحتشد الذي تجمع للمطالبة بحقوقه المهضومة، فها قد حضروا للمطالبة بأنفسهم بحقوقهم من سمو الأمير. (غوغاء من الخارج)
فليعش الخديوي، فليحي العدل، فليحي الإنصاف، فليحي الدين والإسلام.
ناظر (ينظر من نافذة القصر) :
يا لهذا الجمع العظيم من القوة! تعال وانظر يا عطوفة الرئيس هذا الجمع الهائل والقوة العظيمة!
الرئيس (ينظر من النافذة) :
إنها لقوة هائلة جدا، واستمرارها بهذا الشكل خطر علينا وعلى البلاد، فأحسن شيء نراه الآن هو أن نبشرهم بما يطمأن به تسكينا لخاطرهم، ألا ترون هذا موافقا يا حضرات النظار؟
النظار :
نعم هذا الرأي وما فيه من الصواب! فليأمر عطوفتكم بإحضار رئيس التشريفات ويرسله رسولا مبشرا لرؤساء مجمعهم.
الرئيس :
نعم، وسأفعل ما أمرتم به (ينادي أحد رجال التشريفات)
اذهب وبلغ تحية الجناب العالي لرؤساء الجمع المتظاهر في هذه الساحة، وقل لهم إن مولاكم يبشركم بسعيه في تدبير حسن مستقبلكم والنظر في مطالبكم في وقت قريب.
تشريفاتي :
سأبلغهم ما أمرتم به عطوفتكم ويتم ما يجول بخاطركم.
الرئيس :
إذن؛ عجل في هذا الشأن بدون توان؛ لئلا تسوء العقبى وينقلب المصير (يلتفت لفضيلة الشيخ)
ألم يسرك ما أمرت به يا فضيلة الأستاذ؟ وهذا ما يمكن فعله لنا مؤقتا!
غوغاء من الخارج :
ليحي العدل، ليحي الخديوي، ليحي دين الإسلام.
المنظر الثالث (ترفع الستار عن منظر ساحة جنينة وفي وسطها محل مرتفع للخطابة وعليه خطيبا وحولها جمعا كبيرا بشكل وزي طلبة الأزهر الشريف ويبتدئ الخطيب بقوله):
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على نبيه الكريم، (أما بعد) ... علم الناس تلك الروح العالية التي انبعثت في نفوس طلبة الأزهر الشريف في هذه الأيام، عندما أدركوا الأخطار المحدقة بهم والمهددة لمستقبلهم، فإنهم بعد أن استبشروا خيرا بالنظام الحديث الذي اقتضت مراحم الجناب العالي منحه إياهم، تأملوا قليلا في تطبيق بروجرامه، فأيقنوا أنهم لا يمكنهم إدراك الغاية التي رمى إليها غرض الجناب العالي من وضع هذا النظام، فوجدوا أن العلوم وزعت بطريقة غير معقولة؛ فأنيطت الدروس بالعلوم المهمة لأساتذة غير أكفاء فيها، وزيد في عددها عن ذي قبل حتى أصبح الطالب لا يجد لحظة من أوقاته يصرفها في إعداد الدروس لمذاكرته وحده ليعرض بعد ذلك فكره على أستاذه حتى يتبين أصاب أم أخطأ. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن أكثر طلبة الأزهر - بفضل إصراف رجال الحكومة بأموال المسلمين فيما لا يعود على المسلمين ولا على الدين الحنيف بأي فائدة كانت - تراهم في فاقة وفقر شديد بحيث لا يتسنى لهم شراء الكتب التي التزموا بدرسها بمقتضى النظام الجديد، فجزموا بأنهم ولا ريب مضيعين حياتهم صارفون نفيس عمرهم بغير جدوى، فظهروا بذلك المظهر الذي برهن للعالم أجمع على أن الضغط يحدث الانفجار، وأن النائم مهما طال نومه لا بد وأن تنبهه الأيام إلى واجبه، فقاموا وأجمعوا أمرهم فيما بينهم وتعاهدوا وعقدوا الخناصر على اعتزال الدروس أو إجابة مطالبهم و... وقد رأى الناس ما يريدون من المطالب التي نرى - كما يراه كل عاقل - أن الطلبة محقون فيها؛ لأن العاقل لا يليق به أن يضيع حياته سدى، وهم لا يريدون من الحكومة الآن إلا أحد أمرين: إما الإجابة إلى ما طلبوا، وإما القول بصراحة أن مهمتهم الدينية ليست في نظر الحكومة ذات قيمة تستدعي إسعاف القائمين بها لمطالبهم الضرورية. ونحن الآن لا راحم لنا ولا مساعد، فأملنا من رجال الأقلام وأرباب الصحف ونواب الأمة أعضاء الجمعية العمومية ومجلس الشورى أن يطرحوا مسألتنا الحاضرة على بساط البحث والمناقشة وينبهوا الحكومة إلى أنه من الضروري المحتم عليها إجابة مطالبنا وإلا ساءت الحال وتفاقم الخطب، فإن الأمة المصرية بل وسائر الأمم الإسلامية من أسهل الأشياء عليها تضحية حياتها في الانتصار لدينها والقائمين به؛ لأن الأمة مهما كانت - كما يصفها أعداؤها - جاهلة فإنها لا تنسى تلك الخدمات الجليلة التي قام بها ويقوم بها الأزهر الشريف والأزهريون قرونا عديدة.
ولا نرتاب في أنه لولا وجود الأزهر والأزهريين حراسا على الشريعة المطهرة والملة السمحاء لانمحى أثرها بالكلية. ألهم الله الأمير ورجال حكومته الصالحين لتلافي هذا الأمر قبل اشتداد أزمته واستحكام حلقاته، إنه ولي التوفيق. (ينزل ويصعد خطيب آخر.)
إخواني الفضلاء وزملائي الأجلاء!
ايم الله؛ للحق أحق أن يتبع، ولصدق حقيق بأن يستمع؛ إنه يا قوم ليسرني كما يسر كل محب للدين، محب للإسلام، محب للإنسانية بمعنى الكلم، محب للطريق المستقيم أن يراكم متآخين متحدين قلبا وقالبا، يراكم ملتئمين ناهضين، يراكم كأنكم بنيانا يشد بعضه بعضا.
إخواني!
اعتقدوا تماما أن كل ذي إنصاف وعدل لمسرور من هذه النهضة العلمية الشريفة التي قمتم بها خير قيام لإصلاح ما أفسدته يد الآثمين في هذا المعهد الديني العظيم والمسجد الإسلامي الكبير.
إخواني!
إن طلبة علم ديني كمثلنا؛ أي رجال الدين، وهم الذين يجب على الحكومة أن تحترمهم بوجه خصوصي، رجال مثلنا يرضون بالذل والاستماتة والصمت عن حقوقهم التي اغتصبتها يد الطامعين ومحبي المال وجامعيه لهم جانيين على أنفسهم أشنع جناية لا يتصورها العقل، مضيعين حقوقهم الشرعية.
إخواني!
إن كل إنسان من أمم العالم أجمع لا يكون مقيدا عن النطق بما تشعر به نفسه من الظلم الخارج عن حده، والمعاملة السيئة التي يعامل بها إلا إذا كان جمادا لا يحس بألم الضرب على الأرجل ولا يشعر باللطم على الوجه الذي كم سجد لله مرارا عديدة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
إخواني!
كيف يسوغ لنا أن نجمد هذا الجمود المميت ونجبن هذا الجبن الفاحش الذي ألصقنا عارا تأبى النفوس الشريفة أن تنصب به؟ فيا للأسف، ويا لضيعة الأمل! جرت العادة أيها السادة في كل أمة متمدنة راقية العلم أو آخذة في أسبابه أن تنظر لرجال الدين؛ أئمة الأمم وقادتها نظرة عالية ملؤها الاحترام والإجلال، فما بال أمتنا المصرية لا تنظر إلى رجال الأزهر هذا النظر السامي؟! أليس الأزهر هذا المعهد الديني الجليل يخرج الفطاحل من رجال الدين؟! أليس الأزهر هو الكلية الإسلامية الدينية في العالم؟! أليس هو كعبة آمال المسلمين قاطبة في العلم، أو هو لم يماثل غيره من الكليات الأخرى نظاما وترتيبا وعددا وعددا؟
إخواني!
جرت العادة بحكم الطبيعة أنه إذا أرادت أي إدارة أن تسن قانونا ليكون محورا تدور عليه هذه الإدارة؛ أن تلاحظ مصلحة المسنون لهم هذا القانون ليكونوا جميعا راضين عنها، راضخين لأوامرها، مطيعين لإشارتها. فكيف ساغ لإدارة الأزهر - والحالة هذه - أن تسن قانونا يقضي على آمالنا ومستقبلنا كما يقضي على حياتنا؟ هذا سؤال تركت جوابه لأهل الإنصاف والعدل يجاوبون عليه كما تقضي عليهم شيمهم الكريمة.
إن الإنسان منا - يا حضرات الأفاضل - يقضي زهرة عمره وعنفوان شبابه في طلب العلم حتى إذا ما انتهى يأخذ من المرتب ما لا يسد به رمق الفؤاد، هذا إذا كان وحده، وما بالك إن كان رب عائلة وصاحب منزل! فماذا يفعل ومن أين له أن يصرف على أولاده وعائلته إذا كان هذا مرتبه وتلك حالته من التعس والشقاء؟ أيرتكب جريمة السرقة أم النهب أو ماذا يفعل وكيف يعيش؟ فيا للفضيحة! ويا للعار!
إخواني!
لقد مضى ما مضى من زمن التعس والشقاء والسخرية برجال الدين، فالآن وقد شعرتم بآلامكم وطالبتم بحقوقكم وسمع الكل بقضيتكم فاتحدوا وصابروا على المطالبة بحقوقكم، فقد آن الأوان ومضى الذل والهوان. أجل؛ وايم الله، لقد آن لكم فيما أنتم قادمون عليه، واحذروا من في الظاهر يتظاهر بالميل لكم، وفي الباطن يدس لكم الدسائس؛ ليفشل مسعاكم. ولكن لا أخشى أن أقول إنه خاب مسعاهم وساء حالهم، فنحن رجال لا تؤثر فينا الدسائس ولا نغتر بمساعد لأول وهلة.
إن طلباتكم معقولة فلا تنخدعوا بالعقول والتمويه والإطلاء.
إخواني!
اسمعوا مني الكلمة الأخيرة، وهي أنه إذا أرسلت لكم الإدارة للتفاوض مع لجنة مخصوصة فلا تفعلوا هذه اللجنة بالمرة، كما لا تفعلوا رئاسة لجنة الإصلاح الأزهري؛ إلا إذا كانت مسندة إلى صاحب الفضيلة قاضي مصر، وأعضائه: الشيخ بخيت، وحسن مدكور باشا، وإبراهيم رفعت باشا، ومجدي بك المستشار بالاستئناف، وإبراهيم ممتاز باشا، وحسن جلال بك؛ على شرط أن تنشر المناقشات على صفحات الجرائد يوميا، فإذا نفذت اللجنة طلباتنا كان بها وإلا فنحن باقون على ما نحن عليه من المظاهرات.
أيها السادة الأفاضل!
هذه هي المرة الثانية التي أفتخر بأني وقفت هذا الموقف في هذا المكان خطيبا فيكم مخلصا لكم متألما مما أنتم منه تتألمون؛ لأنني أزهري قديم كما أنتم أزهريون.
منذ ثماني سنوات وأنا أكتب منبها ولاة الأمور إلى وجوب إصلاح إدارة الأزهر حتى يسود النظام الصحيح، وطالما أرشدت بكتاباتي إلى تلاشي الخلل الذي كان يتخلل إدارة الأزهر؛ محذرا أولي الحل والعقد من استفحال خلل الإدارة خشية غضب رجال العلم واعتصابهم.
وها هو قد وقع ما خشيته وحذرت ولاة الأمور منه مما أبهر العقول.
أيها الأفاضل؛ إنكم باستعمالكم الحكمة في مظاهرتكم السلمية، وباتخاذكم طريق السكينة في سيركم منذ اعتصبتم عن الحضور في حلقات الدروس قد برهنتم بأنكم رجال عقلاء تطالبون بحقوق شرعية؛ يجب أن تنالوها وتحصلوا عيها.
طرحتم قضيتكم أمام محكمة الرأي العام للحكم فيها فاشرأبت الأعناق إليكم.
وارتفعت أصوات الأمة كلها معكم، وحزتم استحسان العموم الذي هو صدور محكمة الرأي العام لصالحكم بأنكم قوم عقلاء، عن حقوقكم تبحثون، وللوصول إليها عاملون.
إن قضيتكم هذه أيها الأفاضل!
أصبحت الشغل الشاغل للأعيان والذوات وولاة الأمور وجميع المسلمين، حيث إنها في الحقيقة قضية دينية؛ لأن مسلمي القطر المصري يعلمون أن الأزهر الشريف هو المعهد الديني الكبير الذي يحفظ الدين، وبارتفاع شأنه وشأن رجاله يرتفع شأن الشريعة المحمدية الطاهرة.
الدين أصبح في بلاده غريبا؛ وسبب ذلك تفريط أهله السالفين ، وعدم قيامهم في وجه الذين مسوا حقوقه. فرط أهل الدين فيه فاستهان به وبهم أعداؤه كما لا يخفى.
والدين أضحى غريبا في مواطنه
وما الإساءة إلا من أهاليه
قد فرطوا واستهانوا في شعائره
فجاء يضربهم ذلا أعاديه
فأنعم بهمتكم الشماء وأرواحكم الطاهرة وأنفسكم العالية؛ التي قامت تدافع عن الدين وتطالب بحقوقه. حيا الله نهضتكم الشريفة التي تكلل إن شاء الله بالنجاح والفلاح.
الجميع (يهللون بعد تصفيق حاد قائلين): فلتحي الطلبة، وليحي الأزهر، وليحي الإسلام. (ثم يصعد خطيب وينادي على إخوانه الطلبة مشيرا برجوعهم بكل انتظام وسكينة إلى حيث جاءوا. وتنزل الستار ختاما للفصل الثاني.)
الفصل الثالث
المنظر الأول (ترفع الستار عن شارع عمومي متسع وعموم الطلبة المتظاهرين مارين بكل سكينة وانتظام هاتفين: فلتحي الطلبة، فليحي الأزهر، وليحي الإسلام.)
عامل المؤيد (يخاطب زميلا له) :
وأي شيء يستفيده الطلبة من اعتصابهم هذا؟ وإني أراهم قد اغتصبوا حق الحكومة أيضا غير سامحين لأحد من رجالها أن يشير عليهم بسيرهم بهدوء وسكينة؟
زميله :
قد اعتاد البوليس بعدم التفاته لأي شيء مخالف إذا لم ينبهه عليه منبه.
عامل :
وهل يمكنك أن تنبه بعض رجال البوليس السائرين معهم إلى ما يفعلونه، وتفهمهم بأن ما يأتيه الطلبة في المناداة في الشوارع العمومية بطلبهم إحياء الإسلام والدين، والأزهر والطلبة، والخديوي واللواء أمر مخالف ويعاقب عليه قانونا.
زميله :
وإذا انتبهت لي الطلبة واعتدوا علي، فماذا أفعل؟
عامل :
الأوفق أن نحرض عليهم بعض العمال ليقذفوهم بالأحجار من سطح الدار، وعندها بلا شك يحولون وجهتهم نحو إدارة المؤيد. ولربما تعدى علينا بعضهم بما بموجب إدخال البوليس في الأمر، وهنا ننتهي بما يرغبه سعادة مديرنا وما أشار علينا به.
إذن فهيا لنأمر بعض العمال بإجراء هذا العمل، ونحن نتدارى لنرى ما سيكون، واطلب أنت حالا تلفونيا من المحافظة إرسال قوة تحفظ التعدي المنتظر حصوله من الطلبة على دار المؤبد، وقل أن حياة الباشا المدير في خطر.
الطلبة (ينادون) :
فلتحي الطلبة، فليحيى الأزهر، فليحي الإسلام، فليحي اللواء (وهنا يتساقط عليهم الأحجار من أعلى دار المؤيد) .
أحد الطلبة :
انظروا يا إخواني إلى تلك الحجارة التي يرجمنا بها عمال المؤيد.
طالب (رافعا وجهه إلى سطح الدار) :
ارجعوا يا لئام عن هذه الأعمال الخسيسة، لعنة الله عليكم وعلى شيخكم اللئيم.
طالب (ملتفتا إلى رئيس القوة العسكرية التي معهم) :
ألم تر هذه الحجارة يا جناب المفتش؟ فلم أنت صامت لا تمنع أولئك اللئام عمال المؤيد الذين يرجموننا من أعلى دارهم على مشهد منك ومن الجميع؟! وما أظنهم إلا مأمورين بذلك من شيخهم المنافق.
مفتش البوليس (ملتفتا إلى دار المؤيد) :
ارجعوا يا أفندية ومروا عمالكم بعدم رمي الأحجار على الطلبة؛ إذ هذا يعد تعديا فاحشا منكم، ونحن نخاف عليكم وعلى إدارة جريدتكم من أن يمسكم ضر من هؤلاء المعتصبين.
الشيخ (من داخل نافذة) :
من هذا الذي يخاطبكم يا حضرات الأفندية بقوله أخشى عليكم وعلى إدارة جريدتكم من هؤلاء المعتصبين؟
سركيس :
هذا يا سعادة الباشا جناب وكيل حكمدارية مصر، يأمرنا بمنع عمال لنا وقفوا على سطح الدار يقذفون الأحجار على الطلبة المارين.
الشيخ :
ومن هم أولئك الطلبة الذين نخشى منهم علينا وعلى إدارة المؤيد؟ ولم نمنع أطفالا يتسلون برمي الحجارة على الطلبة؟ ولأي شيء يهددنا البوليس بالتخوف من الطلبة؟ (يتزايد رمي الأحجار على الطلبة.)
طالب :
انظروا يا إخواني كيف أن صاحب المؤيد يأمر عماله بأن تقذفنا بالأحجار ونحن سائرون، وقد أمرهم جناب وكيل الحكمدار بمنع ذلك ولم يمتنعوا.
الجميع (يصيحون) :
فليسقط المؤيد، فليسقط المنافق، فلتسقط الخونة. (يقترب البعض منهم بالهجوم على إدارة المؤيد ليرجعوا قاذفي الأحجار فيردهم البوليس ويغلق باب المؤيد.)
الجميع يسيرون وينادون: فليسقط المؤيد.
الشيخ :
اطلب يا خواجة سركيس تلفونيا من المحافظة إرسال قوة لحفظ الإدارة، وزد على ذلك أن حياة الشيخ في خطر، ويجب الإسراع بالقوة بكل سرعة، حيث تعدى الطلبة يزداد علينا.
سركيس :
إنني يا سعادة الباشا قد أرسلت في طلب القوة من لحظة وما أظنها إلا حاضرة الآن.
طالب (يخاطب زميله) :
ألم تسمع يا أخي كلمات المؤيد لمحرره.
طالب :
لندع يا أخي صاحب المؤيد وشأنه بعدما تحقق لنا أن هذا الرجل هو الذي قد أثار غبار مسألتنا الأزهرية بدسائسه وسوء قصده بما ألقاه من المنشورات المفسدة على مسامع سمو خديوينا المعظم.
طالب :
حقيقة ذلك يا أخي. ولقد تعجبت من دفاع هذا الشيخ المنافق هذا الدفاع الفظيع الذي قام يدافع به عن الأميرة نازلي هانم؛ التي أهانت المصريين بقولها لمحرر إحدى الجرائد الإفرنكية بأن المصري لا يساوي ثمن الحبل الذي يشنق به، بعدما أطنبت بالتبجيل والتمجيد في رجال الإنكليز.
طالب :
ومتى كان هذا الحديث؟ وفي أي مكان حدثت تلك الأميرة المحرر؟
طالب :
كان في سراياها وفي أفخر غرفة مزخرفة بأفخر الأثاث والرياش. وقد أتت الأميرة على ذلك المحرر وهي لابسة حلة من أرق وأنعم الحرائر مظهر الدار البيضاء، ومحلاة بأفخر وأثمن الحلي والحلل.
طالب :
أولم تعلم تلك الأميرة أن سراياها الفخيمة وأودها المزخرفة بأفخر الأثاث والرياش، وملابسها الحريرية وحلاها الثمين، بل وطعامها وما تنفقه على نفسها وعلى ما يتبعها من الغرباء أهل تونس، كل ذلك من مال المصريين وما يجمعونه باجتهادهم وعرق جبينهم.
طالب :
صدقت. والأدهى من ذلك ما أتته أميرة أخرى، تخرق الحجاب وتدوس الكرامة الإسلامية في حفلات الأجانب، وقد وضعت بعض الأميرات كرامة الأمة الدينية والآداب الإسلامية في مواطئ النعال، فازدرين بكل شيء، وعملن كل ما لا يعمل ارتكانا على جاه عائلتهن ووفرة رزقهن، ولكونهن يعتبرن من الخواص، والخواص قدوة للعوام؛ فلذلك سرت عدوى فعلهن إلى طبقات الأمة فأصابت أخلاق السيدات إصابات هيهات الشفاء منها في وقت قريب.
طالب :
وماذا فعلت يا أخي تلك الأميرة الثانية من مكارم الأخلاق وحسن الآداب؟
طالب :
إنه لما أقام جناب قائد جيش الاحتلال وليمته في المرة الأولى لسمو دوق أوف كنوت أراد أن يهيئ لسمو الضيف الكريم كل صنوف الإكرام، فطلب من قرين إحدى الأميرات أن يعيره الأوتومبيل خاصته ليكون ركوبه لسمو الدوق، فلبى الطلب، فرأى جناب قائد جيش الاحتلال من اللياقة أن يدعو صاحب الأوتومبيل إلى هذه الوليمة، فلما جاءت تذكرة الدعوة إلى سعادة الباشا أحد أصهار العائلة الخديوية أخذ يلح ويرجو في دعوة الأميرة قرينته معه إلى هذه الوليمة، فاقتضى كرم الأخلاق الإنكليزية إجابة الباشا بقطع النظر عما في ذلك من مخالفة العادات والأخلاق الإسلامية.
طالب :
فلما كانت ليلة الوليمة حضرت دولة البرنسيسة وقرينها، ولم يكن فيها أحد سواهم من المصريين لأن كل المدعوين من ضباط جيش الاحتلال وكبار الإنكليز، ولما حان وقت الطعام كانت الأميرة المصرية، المسلمة، الأديبة الفاضلة لابسة ثياب الولائم الكبرى التي تظهر الذراعين عاريين إلى قرب المنكبين وتظهر الصدر (وقسما) أيضا من الظهر، وعليها من النفائس الحلى والحلل ما شاء التبرج واختار الغنى ووفرة الأموال.
طالب :
كنت أفتكر في أموالنا كيف تضيع وتصرف، وقد عرفت الآن من هم حائزو بل مغتصبو تلك الأموال فتمم حديثك.
طالب :
وعندما دخلوا للمائدة أخذت بذراع السير ألدن غورست الذي جاء إلى مصر ليعلم المصريين كيف يحكمون أنفسهم بأنفسهم (ومن هذا يراهم غير قادرين على حفظ ...) وكانت الأميرة في زينة لم تكن بغيرها من الحاضرات الإنكليزيات لأنهم درسوا علم الاقتصاد والآداب واللياقة، ولهم دراسة خاصة بالأخلاق، وخصوصا هذه الطبقة الراقية.
طالب :
لماذا نحن نشكو من تهتك الأميرات في أروبا ذلك التهتك الذي اجتذب إليه كثيرات المصريات ذوات الغنى واليسار؟ وكم تكون شكوانا إذن لحصول مثل ذلك في بلادنا وعلى مرامنا وفي حفلات الأجانب وصادرا من أمرائنا؟ ولماذا نكثر من اللوم على أصاغرنا والناس على دين ملوكهم سائرون؟
ألا من شفقة على الآداب العمومية؟ ألا من غيرة على الكرامة الدينية؟ ألا من رادع للأمة مزدجر؟
طالب :
ويقال إنه لما بلغ خبر هذه المسألة إلى علم الجناب العالي، وعرف حقيقة الأمر من جناب السير غورست؛ الذي اعتذر بإلحاح القرين الشهم بعث سموه إلى تلك الأميرة لائما، فأخذت سعادة الشهم الغيرة باللائم، فغضب وقال: إننا أحرار في شئوننا، فلينظر غيرنا في شئونه. وبعد أيام بعث سعادته مطالبا بحساب الأوقاف الخاصة بجدة قرينته، وانتهى الأمر على ذلك.
طالب :
أولم يعترض سمو خديوينا على ما فعلته نازلي هانم.
طالب :
لا؛ ولكنه كلف دولة الأمير حسين باشا لعتابها فعاتبها عتابا شديدا، وقد اعتذرت لدولته بأنها حفظها الله كانت أكثرت من شرب الشامبانيا، فلم تراع الاحتياطات في كلامها، وسهى عنها وقت مقابلتها بمحرر البورجريه أنها تكلم صحافيا يقيد في ذاكرته كل كلمة يسمعها وكل حركة تبديها.
وهذا هو عذر الأميرة المصرية المسلمة التي كل ما تنفقه هو من مال المسلمين وأوقافهم الخيرية.
طالب :
كل هذا حقيقي. وقد وجدت المؤيد يدافع مرارا عن هذه الأعمال القبيحة، حيث رأيته يكذب اللواء فيما نشره من أن دولة الأمير حسين باشا تكلم مع الجناب العالي بخصوص الحديث الذي روته جريدة البورجريه عن البرنسيس نازلي هانم، وهو الحديث الذي اتهمت المصريين فيه بنكران الجميل، وقد ظن أن هذا دفاع عن الجناب العالي والحقيقة غير ذلك.
طالب :
وما يرجوه صاحب المؤيد من وراء كل هذه الأعمال؟
طالب :
إنه لا يطيق أن يرى الأمة ملتفة حول أميرها لما في ذلك من القضاء على آماله ومنافعه ودسائسه، وهو يريد أن يكون سموه في برج مشيد حتى لا يقع مرة أخرى فيما وقع فيه في قصر القبة، ولولا بعضهم لقضي عليه القضاء الأخير.
طالب :
صه يا أخي عن هذا، وانظر إلى الجنود الذين هجموا بإخواننا. (تهليل وتصفيق من العموم، وهجوم بعض من العسكر على الطلبة بشدة وحمق، وتشجيع الطلبة في مواقفهم، تعدي البوليس عليهم بالأذى، استعداد الطلبة لمقابلة العسكر بالمثل، هجوم الطلبة على العساكر، تقهقر العساكر بانتظام وتفريق شملهم، إلحاق العسكر بقوة أخرى، هجوم القوتين بشراسة على الطلبة، استعمال العسكر العصي والكرابيج في الطلبة، مقابلتهم بضرب المداسات الثقيلة بكثرة النعال، إصابة بعض رجال البوليس، تقهقرهم مرارا، انهزامهم شر هزيمة، صدور أوامر الضباط «شتش ومدبولي» بسل السلاح، هجوم الطرفين، تهليل شديد وتصفيق الأهالي معجبين بشهامة الطلبة، تهليل وتصفيق من الأجانب المتفرجين، القبض على ثلاثة من الطلبة.) (نزول الستارة.)
المنظر الثاني (ترفع الستار عن ساحة شارع وبجواره شكل معهد الجامع الأزهر، وجملة طلبة يتمشون ذهابا وإيابا وعلى أبواب المعهد بعض من الجند، كل جماعة منهم يرأسهم ضابط، تعينوا لمنع من ليس بيده تذكرة الدخول إلى الجامع من الطلبة.)
طالب (يخاطب زميلا له) :
وماذا تم بعد مظاهرة ليلة أمس بشارع محمد علي بعد ما تركناكم في جنينة الجيزة؟
طالب :
بعد انتهاء الخطب شرعنا في الرجوع إلى هنا وبعد مرورنا على إدارة اللواء وتحيتها، وبعد أن جئنا أيضا سراي عابدين أردنا المجيء إلى هنا من شارع الغورية، إلا أن بعضا منا ألووا وجوههم - وربما كان ذلك بدسيسة - إلى شارع محمد علي، وعند مرورنا من أمام إدارة المؤيد صعد بعض عمالها ورجمونا بالأحجار من سطح الدار، فنادينا بإسقاط المؤيد مرارا، وعندها حضرت فرق خيالة البوليس وهاجمونا بشراسة، وتعدوا علينا بالضرب بالعصي والكرابيج، ولما حرج علينا الموقف قابلناهم بالصرم، وقد أخذنا وأخذوا في هجوم وتقهقر إلى أن هزمناهم، فاستلوا سيوفهم وانتهت المعركة بإلقاء القبض على ثلاثة منا وذهبوا بهم إلى قسم الموسكي، وهناك عمل المحضر اللازم ضدهم كمتهمين لتعديهم على البوليس أثناء تأدية وظيفته وتعديه علينا لإهانتنا.
طالب :
وماذا جرى بالثلاثة الذين قبض عليهم؟، أولم يقبضوا أيضا على أحد من عمال المؤيد؟
طالب :
كان قبض أيضا على ثلاثة من عمال المؤيد، وقد أطلق البوليس سراحهم بعد لحظة؛ محتجا بأنه لم يأت أحد من الأزهريين فيشتكي مما أصابه منهم، فإذا قدمت شكاو أعيد التحقيق معهم، والتهمة ثابتة عليهم وعلى شيخهم بشهادة جناب مفتش البوليس ورجاله، وبالأحجار المضبوطة التي يزن وزن بعضها ثمانية أرطال وفيها ما يزن الثلاثة والأربعة أرطال، وكلها مكتوب عليها «وارد فابريقة أحجار لوندرة لإدارة المؤيد».
طالب :
وقد قضينا ليلة الحادثة والأسف ملء قلوبنا على الثلاثة الأبرياء الذين قبض عليهم وزجوا في أعماق السجون، ولم نفارق قسم الموسكي في تلك الليلة مطلقا، وكنا نذهب جماعة جماعة إلى جناب مأمور ذاك القسم ملتمسين منه الإفراج عن إخواننا حتى ولو بالضمان النقدي، ومع بساطة التهمة المنسوبة إليهم لم يجب المأمور ما طلبناه، بل وجدناه مشددا في الأمر كثيرا، وله عذر في ذلك؛ لأن تليفون القسم أزعجه كثيرا مناديا على حضرته شخصيا للتكلم مع رؤساء الحكومة، وربما كان حديثهم دائرا بخصوص تلك الحادثة وما يتبعه القسم في خطته مع الثلاثة المقبوض عليهم، وكان الغرض بلا شك استعمال كل قسوة زائدة وتشديدا بتكسير هؤلاء المساكين، وذلك إرهابا لباقي المعتصبين.
طالب :
والآن ماذا نصنع وما الذي عزمتم عليه؟
طالب :
قد اجتمعنا صباح اليوم في أحد المساجد وأبدينا أسفنا على تلك الحادثة التي شوهت مظاهرتنا السلمية، وقد اقترح أحدنا بالكف عن المظاهرات خارج الأزهر تكون بمعزل عن مثل تلك الدساسة التي دبرت ضدنا من المؤيد وانقضت إلى تلك النتيجة السيئة، فقوبل هذا الاقتراح بالاستحسان وعزمنا على أن نظل في مسجدنا الشريف إلى أن تجاب مطالبنا.
طالب :
أولم تعلموا ماذا قرر أمس ليلا مجلس النظار؟ وكيف يمكنكم الدخول إلى هذا المعهد بعدما تقرر حرمانكم من ذلك؟
الطالب :
إننا لم يبلغنا شيء عن اجتماع هذا المجلس، ولم نعرف شيئا عن ما قرره! فأخبرنا عن ما تعلمه في هذا الأمر.
طالب :
قد اجتمع أمس ليلا في سراي القبة مجلس النظار تحت رئاسة الجناب العالي، وبعد الأخذ والرد في المناقشة قرر أولا العفو عن طلبة السنتين الأولى والثانية، نظرا لبساطتهم وحسن نيتهم، وأن يرجعوا إلى دروسهم، وشطب أسماء السنتين الأخريين الثالثة والرابعة؛ أصحاب الرأي في هذا التهييج وهذه المظاهرات والاعتصابات، وأن تشطب صفتهم أيضا من سلك الأزهرية لتسير عليهم لائحة القرعة العسكرية، وقد انتدب المجلس لتنفيذ هذه الأوامر سعادة خليل باشا حمادة مدير الأوقاف. وكل ما تراه من تلك القوة العسكرية المقيمة على أبواب الجامع هي قد تعينت لهذا الأمر.
طالب :
إنها والله لخطة سخيفة اتبعتها الحكومة لإرهابنا، وما هي إلا تعديا على الحرية! إذ كيف يقرر مثل ذلك القرار ليقوموا به في وجه الأزهريين الذين قاموا يطالبون بحقوق مهضومة لهم، مستغيثين من ظلم اللايحة التي سنتها لهم بشأن الأزهر، فأصبحوا عليها بإضرابها عن الدروس إضرابا سلميا عاقلا. ولكن الحكومة التي رسخت في نفسها عقيدة أن الساكن في الأزهر يخلع إرادته ورأيه كما يخلع لقلبه قبل دخوله فيه ، لم يرضها منهم إضرابهم أو اعتصابهم، ولم تقابلهم بالإقناع والمعروف والتعقل، بل هددتهم بسلب امتيازاتهم إن لم يرجعوا عن مطالبهم، وهؤلاء قد تشيعوا بالحرية وخالفوا الذين يخلفون إرادتهم ورأيهم متى أرادت الحكومة.
طالب :
لقد أخطأت الحكومة كثيرا فيما اتخذته وتتخذه معنا، ونحن لا يمكننا التخلي عن مطالبنا وحريتنا وإرادتنا مدة من الزمن، ولم نخش تهديدات الحكومة لنا. وإننا على الاعتصاب حتى ولو آل الأمر إلى أن يزجونا جميعا في أعماق السجون.
طالب :
اسمع قد افتكرت فكرة في سبيل دخولنا داخل الجامع وهي أن تجيئوا بقطع من أوراق تشابه تذاكر الدخول المخصصة لإخواننا طلبة السنتين الأولى والثانية، وننقش عليها بعض علامات تشابه التذاكر الحقيقية فنستطيع بذلك الدخول إلى ساحة الجامع ومقابلة إخواننا لنتباحث معهم فيما يجب فعله.
طالب :
وكيف يصرح لنا المفتش بالدخول وليس بيدنا تذاكر حقيقية؟
طالب :
إنك لأبله! وهل أنت متأكد بذكاء المفتشين لمعرفة التذاكر الحقيقية من غيرها؟! أولم ندخل أنا وأنت مرارا في حفلات رسمية بملاحق أفراح قديمة كانت معنا، وكان المنوط باستلام التذاكر منا يقابلنا بكل احترام غير ملتفت إلا للون تلك الورقة وحجمها الموافق لحجم ولون تذاكرهم الرسمية؟ أولم ندخل أنا وأنت مرارا في قاعات السينماتوغراف بتذاكر الترامواي؟
طالب :
قد فهمت مقصودك. والذي يؤكد لي نجاح ما تقصده هو علمي الأكيد بجهل كل منوط بأخذ تذاكر اليوم من إخواننا الطلبة، فهيا بنا. (تنزل الستار لختام الفصل الثالث.)
الفصل الرابع (ترفع الستار عن ساحة الجامع الأزهر وبها المدرسون وأمامهم حلقات الطلبة وعموم المفتشين والملاحظين وقوفا يتحرشون بالطلبة وبأيديهم قضب الخيزران، وفي إحدى زوايا الجامع كل من سعادة حمادة باشا ودولار بك والشيخ عاشور وبعضا من حجاب ديوان الأوقاف ومعهم آلة التعذيب (فلقة).)
حمادة باشا (يخاطب دولار بك) :
قلت لك إنه لا يمكن إلا اتباع الشدة مع هؤلاء المتمردين.
دولار بك :
عظيم. ولكن هل يعلم سيدي أن هذا مخالف للقانون ومعاقب عليه؟
الباشا :
ما لنا وللقانون؟! فقد أمرنا بذلك صاحبه، ولا بد من جعل هؤلاء المعتصبين أطوع من الغنم.
مفتش :
كنت دائما أقترح باتباع تلك الخطة المفيدة لإطفاء شعور هؤلاء المتمردين، وكان فضيلة شيخنا يرفضها قائلا لي بنص الحديث النبوي، حيث قال صلى الله عليه وسلم: «حاربت بالسيف وباللين، فوجدت اللين أحد من السيف»، وينتهي الأمر بيننا بسحب اقتراحاتي، حتى وقعنا فيما نحن فيه الآن، وهذا كله نتيجة اتباع خطة اللين والتهاون معهم.
طالب (يخاطب طالبا) :
انظر يا أخي ترى إخواننا الذين كانوا خارجا وليس بيدهم تذاكر للدخول قد حضروا وهاهم متوجهون لمقابلة الباشا.
طالب :
وما عساهم يطلبون من الباشا؟ ولما لم نلحق بهم لنشدد عزمهم في موقفهم ومطالبهم أمام الباشا.
طالب :
والأوفق أن تعطي إشارة لباقي إخواننا الطلبة للانضمام معنا.
طالب :
لا مانع في ذلك. فأشر بيدك على إخواننا بالقيام واذهب لجهة الباشا فيتبعونك جميعهم. (فيرفع يداه على إحدى الحلقات مشيرا على إخوانه بالقيام فيقومون جميعا حلقة وراء أخرى ويتوجهون إلى جهة الباشا بشكل منتظم بكل هدوء وسكينة.)
الباشا :
ما بالكم قد حضرتم جميعا وتركتم المدرسين.
الطلبة :
جئنا نلتمس من سعادتكم إنصافنا وإرجاع إخواننا الذين خارج المسجد الممنوعين عن الدخول.
مفتش (ملتفتا إلى الطلبة بغضب) :
إنه لا يمكن إجابة ما تلتمسون مطلقا؛ إذ هذا يعد مخالفة للقرار الصادر من مجلس الأزهر الأعلى.
الباشا :
ومع ذلك مالكم وإخوانكم ما دمتم أنتم متنعمون بنعمة العفو عنكم، فتوجهوا لدروسكم حالا ولا تسألوا إلا عن شئونكم.
طالب :
لا تأتي لنا الراحة ولا التنعم إلا بضم بعضنا على البعض، وإجابة مطالبنا واتباع الخطة المعتدلة بإنصافنا، وبغير هذا لا يمكن لنا الاستمرار على ما ترغبون. فخير لكم أن تتدبروا في أمرنا وأن تتركوا ما عزمتم عليه مما هو ظاهرا على وجوهكم.
الباشا :
وما الذي تعرفه في أمرنا حتى تبادرنا بمثل هذا الكلام.
حمادة باشا :
أنظرت يا دولار بك ما فعله هؤلاء المعتصبين؟ والله إنهم أرعبوا الحكومة والشعب أيضا. أرعبوا الشعب بثورتهم. حديث عموم مجالس القاهرة وغيرها، بل القطر المصري كله مداره عن الأزهر والأزهريون، ومناداة الطلبة في الشوارع بسقوط المؤيد وإحياء اللواء . أرعبوا الحكومة، فقامت وقعدت وعقد مجلس النظار وعقد مجلس مشيخة الأزهر وانتدبت لحل هذا الخلاف. ثورة كهذه الثورة ترعب الحكومة والشعب! هذا أيضا دليل آخر على سخافة عقول أهل مصر.
صديق بك :
وما معنى سخافة العقل في الثورة؟
حمادة باشا :
تريد أن تفهم المعنى! فاسمع وادن مني قليلا. اسمع يا دولار بك، أترى كل هؤلاء الطلبة الذين أمامك، ترى أن عددهم وافر جدا، بل هذا جيش برمته.
صديق بك :
ما شاء الله، كثير!
حمادة باشا :
إن هذا الجيش العظيم الذي تراه أمامك الذي قام بهذه الثورة وأقلق الحكومة والأهالي كان الأمر مدبرا عندي بشيء بسيط للغاية ولكني لم أسأل عنه.
دولار بك :
تفيدنا على حل هذه المشكلة، وما هي؟
حمادة باشا :
إنها تتضمن كلمة واحدة، فأسكن هذه الثورة كلها وإن كانت مصر جميعها ضدي.
صديق بك :
إن هذا لمستحيل يا سعادة الباشا، وأظنك مازحا بهذا القول!
حمادة باشا :
بل أسهل من السهل! ضربة عصا واحدة على ظهر أي طالب تسكن هذه الثورة؛ أي عصاة بيدك. اجعل هؤلاء المعتصبين الذين ينادون ويعتصبون يصيرون أذلاء ولا يتحركون. هذا كل الأمر وهذا هو الرأي الصحيح.
الشيخ عاشور :
إني أرى يا سعادة الباشا أن الطلبة ازدادوا هرجا ومرجا داخل الأزهر وعددهم ازداد ثورة هذا الصباح، وسمعت بعض المفتشين يقول أن كثيرين من الطلبة المرفوتين وصلوا الأزهر بتذاكر مرور غير حقيقية، وأخذوا يحرضون الباقين على التمرد والعصيان.
دولار بك :
أرى رأيك يا حضرة الأستاذ وإنني قد لاحظت ذلك بنفسي.
صديق بك :
انظر يا دولار بك إلى هذين الطالبين الذين يتكلمان.
الشيخ عاشور :
وهذان الطالبان أيضا من ضمن المرفوتين الذي دخلا الجامع بتذاكر تقليد.
طالب :
هل دخل إخواننا مثلنا؟
طالب :
نعم دخلوا كلهم بدون أدنى معارضة.
طالب :
أرى أن الوقت قد حان لتنفيذ ما قررناه أمس.
طالب :
اسكت قليلا؛ فإني أرى أنظار الشيخ عاشور ومن معه متجهة إلينا. (هنا يخرج أغلب الطلبة من صحن الجامع.)
طالب :
أرى عموم الطلبة ذهبوا بعيدا عن هذا المكان.
طالب :
أرى أن نتبعهم لنرى ما يفعلون هناك. (يتمشيان.)
مفتش (داخلا وقابضا بيده على أحد الطلبة) :
إن هذا الطالب كان يصفق ويصيح في إحدى الأروقة، وهو طالب مرفوت.
حمادة باشا :
خذه إلى الرواق العباسي مع من يعمل عملا كهذا لحين النظر في أمرهم.
مفتش :
أمرك يا سعادة الباشا.
طالب :
إنني يا سعادة الباشا.
حمادة :
كفاك ثرثرة اذهب به يا حضرة المفتش (يذهب به).
طالب :
أرى أن الرواق العباسي سيصبح سجنا للطلبة؛ فإن به كثيرين.
طالب :
اصبر لنرى النهاية، فإني أرى أحد المفتشين أيضا قابضا على أحد الطلاب إلى الباشا.
مفتش :
يا سعادة الباشا هذا الطالب لم يكتفي أنه دخل بغير تذكرة وأنه مرفوت من الجامع حتى أخذ يحرض الطلبة بصوت عال جدا، وقد هيج قسما كبيرا من رواق الشوام.
حمادة :
كيف تجاسرت على الدخول يا هذا وليس معك تذكرة مرور؟ ولماذا أنت تحرض الطلبة؟
الطالب :
إنني يا سعادة الباشا لم أرى مانعا يمنعني من الدخول إلى معهدنا هذا الذي فيه ربيت وبه تعلمت، فهو بمثابة بيتا لي، فكيف أمنع من الدخول إلى هنا؟ ومن الذي يمنعني؟ إنني يا سعادة الباشا أزهري، فلا يستطيع أحد منعي عن الدخول إلى بيتي.
حمادة باشا :
إن الذي أعلمه هو أنك خالفت الأوامر ودخلت إلى صحن الجامع وأحدثت شغبا بين الطلبة ودخلت بدون تذكرة مرور. يجب سجنك مع رفقائك إلى حين النظر في شأنكم.
الطالب :
هل صار الجامع جمركا لأحد الموانئ لا يجوز للإنسان الدخول فيه بدون تصريح أو تذكرة مرور؟ فاسمح لي أن أسألك سؤالا واحدا؛ وهو: كيف جاز لسعادتكم الدخول إلى هنا؟ جوابك أنك منتدب من المجلس لهذه الغاية، جوابي عليك يا سعادة الباشا، أنك غير أهل لذلك، وأن وجودك هنا هو الذي سيجعل ثورة الطلبة تزداد؛ ذلك لأنك انتدبت لهذه المعهد وأنت لا تعرف من أمره شيئا، وأنه ليس لك حق بالدخول إلى هنا؛ لأنك لا يمكنك تسكين الأفئدة بأفعالك هذه، لأنك لا تعرف قوانين الأزهر ولا قوانين الدين.
حمادة باشا :
أنظرتم الآن؟ إنه لا يوجد إلا الطريقة التي قلت لكم عنها (ملتفتا لأحد المفتشين):
اطرح هذا الطالب أرضا (لمفتش آخر):
وأنت فأمسك لي قدميه (بعد أن يضربوه):
سأعلمك الآن كيف أني عالم بقانون الأزهر (بعد أن يضربه):
هذا هو القانون أيها البليد. (الطالب يستغيث)
أرأيت كيف أني عالم بكل صفحة من صفحات قانون أزهرك.
الطالب :
إلي! إلي! (هنا يجتمع الطلبة بانزعاج حول الطالب) .
طالب :
والله ما رأيت عملا كهذا العمل الوحشي التي تشمئز منه الإنسانية! ويحكم يا طلبة العلم، يا خدام الدين، يا من عليكم مستقبل وفلاح الإسلام، أنتم يا من ترتجيكم الأمة، يا من تدعوكم لشبيبتها التي ترفع شرف مصر والإسلام، أيحصل هذا الأمر أمامكم وأنتم ساكتون؟ فأين العدل وأين الإسلام؟ (مخاطب الباشا):
يا سعادة الباشا إني أخاطبك بصفتي أزهريا؛ أي خادما للدين؛ أي دارسا لقانون الأزهر، أقول لك: إن هذا الفعل ممقوت من العدل والدين والإنسانية. هذا فعل الوحوش الضارية. فأنت إذن وحشا ضاري، ولست آدميا، أتيت بأمن، انتدبتك مجالس حكومتنا للنظر في أمرنا تفعل هذا الفعل؟ تجعل بيت الله حجة كل مسلم في أقطاره المسكونة مجلدة ومشقة؟ إن بيت الله كان يجب عليك الصلاة في المكان الذي تجلد خدام الدين فيه. لقد أجرمت جرما عظيما يعاقبك عليه العدل. إن كنت تقول إنك باشا ولا تحاكم على فعلك هذا، فأقول لك يا سعادة الباشا إنك مخطئ وألف مخطئ، فقد سبقك لهذا الفعل كثيرون أعظم منك مقاما ورفعة بين الناس حكم عليهم القانون، ويعاقبك القانون على جلدك للطلاب خدام الدين، ويعاقبك ربي عز وجل لجعلك بيته المقدس مجلدة لمن يخدموه.
حمادة باشا :
صه أيها البليد! ما أشد وقاحتك! اطرحوه أرضا (يطرحوه المفتشون، ثم يضربه ضربا مبرحا)
اسجنوا هذا الغادر وحده لأني أريد معاقبته مرة أخرى.
الطالب :
ستلقى جزاءك من ربي، آه يا رجلي! (يسمع صوت طالب من داخل الأودة يصيح بصوت مسموع؛ أي بصوت تحريض.)
طالب :
أيها الطلبة، قوموا واعتصبوا؛ لقد آن الأوان أن نتمم أمرنا ونرفع أنفسنا. أمسكوا الصرم إن لم يكن معكم عصاة (يخف الصوت قليلا).
مفتش :
يا سعادة الباشا قد هاج الأزهر كله وقام الطلبة بثورة عظيمة، ولقد اعتدوا على المفتشين وضربوهم.
مفتش آخر :
إن الهياج شديد يا سعادة الباشا والخطر محدق بنا.
حمادة باشا :
اذهب يا دولار بك إلى عفت بك وأخبره بإدخال فرقة من عساكره إلى هنا (يمر طالب أمام الباشا وهو يجري) .
الباشا :
أمسكوا هذا الطالب الذي يجري (يمسكوه) ، مدوه لضربه. (يمدوه)، (يضربه ضربا شديدا والفتى يصيح من شدة التألم).
طالب :
أسفي عليك يا ابن خالتي إنك ستقتل، إلينا! إلينا!
الباشا :
وهذا أيضا (يمسكوه ويضرب الاثنين).
دولار (داخلا) :
إني قد ذهبت إلى عفت بك وقلت له عن لسان سعادتكم بإدخال فرقة من عساكره إلى صحن الجامع فقال لي إن هذا الفعل مخالف للقانون.
حمادة باشا :
أف له! اذهب حالا واستدعي تلفونيا عن لساني قرعة من قبل نظارة الداخلية رأسا؛ إن الطلبة قد ازدادت ثورتهم.
مفتش :
يا سعادة الباشا قد كسر الطلبة كراسي الجامع والأعمدة، وهاج الجامع كله.
حمادة باشا :
اضربوا اثنين أيضا وأمسكوا كل من تقدرون على مسكه واطرحوه في الرواق العباسي.
مفتش :
لم يبقى مكان في الرواق؛ فقد امتلأ كله.
حمادة :
إذن اضربوهم بالعصا.
مفتش :
إننا نهان يا سعادة الباشا إذا أقدمنا على هذا الفعل.
حمادة :
أف لكم من جبناء ... ها قد حضر دولار بك.
دولار (ملهوفا) :
قد صرحت نظارة الداخلية بإدخال عساكر عفت بك إلى صحن الجامع.
حمادة باشا :
مرهم أن يقبضوا على كل طالب مهيج وأن يضربوا كل عاص. (هنا تدخل شلة من العساكر ويحصل هياجا من العسكر والطلبة وتنزل الستار.) (تمت)
انتهت الرواية عن حادثة الأزهر، وقد عمدت لتأليفها على طريقة الروائيين العصريين. واعتاد المؤلفون أن يطالبوا الشعراء بالتقريظ، فعدلت عن ذلك إلى إثبات قصائد السادة الشعراء بمناسبة الحادثة الأزهرية.
نظم حضرة الشاعر الشهير الكبير أحمد أفندي نسيم عقد هذا الشعر فأبدع. وقد أفرغه هذه المرة في قالب من التنكيت والتبكيت لما أنه أجذب للنفس، وأدعى إلى التفاتها. وجه ذلك الشاعر خطابه إلى حمادة وولاة الأمور في شأن الأزهر، فقال - وما أشد تأثير ما قال:
عرفناك والشعب الكريم شهيد
فجهدك فيما تبتغي وتريد «حمادة» لا تترك بقوسك منزعا
تشق قلوب دونه وكبود
بكفك كم شجت رءوس رفيعة
وكم لطمت باسم الأمير خدود
وكم لويت تحت الأكف أخادع
وكم صهرت تحت العصي جلود
أأنت الذي للترك قدم نفسه
ليحيا به عهد هناك جديد
لقد عرفتك الترك أنك واغل
على القوم لا ترعى لديه عهود
رأوا أن وادي النيل أولى بفرده
فعدت إلى مصر وأنت طريد •••
تجرأت حتى دست غير معاشر
حواليك منهم أشبل وأسود
لهم مهجة لا تنثني عن مرادهم
وقلب على خوض الحتوف جليد
وكيف استوت رجلاك في صحن مسجد
يطيب به للمتقين سجود
مكانك يا من جاز حد قصاصه
ولله في زجر الجفاة حدود
أضرب وجلد وانتقام وشدة
ولكم ووخز مؤلم ووعيد
مرادك لو تدري، ومثلك عارف
ضلال، ورب العالمين، بعيد •••
أرى القوم أولى أن يسوس أمورهم
أخو همة ذاكي الفؤاد رشيد
لقد ساءهم أن لا تؤدى أمانة
وقد ضرهم أن لا تبر وعود
وفي كل يوم للسياسة حالة
تجدد ماضي بؤسهم وتعيد
إذا ذكرت للقلب كاد لذكرها
يطير أسى أو يعتريه جمود
حمادة هل أيقنت أنك سيد
وتلك الجماهير (العصاة) عبيد
حمادة هل مالت بعقلك نشوة
حسبت لها أن الهبوط صمود
لقد جئت إدا يا حمادة فاتئد
فإن عقاب الظالمين شديد
فلا كافر جاء الذي أنت جئته
ولا جاحد فضل الإله كنود
ولا ملك فظ الفؤاد غليظه
ولا ظالم جافي الطباع مريد
شببت لنا نارا فصرت وقودها
ونالك سخط ما عليه مزيد
تقضت لياليك المضيئة وانقضت
وجاءتك أيام كوجهك سود •••
هدمتم، ورب البيت، أكبر معهد
بنته غطاريف خلائف صيد
خذوه لجيش الإحتلال فإنه
بناء لجيش الإحتلال مشيد
فكم فيه للفوتبول ملهى وملعب
وكم فيه بهو للخمور مديد
وإن شئتم فابنوه خانا تؤمه
رحيبا لسياح الشتاء وفود
وإن شئتم فابنوا عليه عمارة
تحل نصارى دورها ويهود
وإن شئتم فابنوه للقوم مرقصا
تبيت رجال في ذراه وغيد
وإن شئتم فابنوه للخيل مربطا
تحل شكول عنده وقيود
وإن شئتم فابنوه سجنا ممنعا
يزور به «عبد العزيز» «فريد»
وإن شئتم فاستبدلوا أرض صحنه
بمزرعة فيها السوام ترود
وخير لكم أن تحرقوه بجاحم
له من عظام الثائرين وقود
وأحرى بكم أن تنسفونا بصرصر
كذلك عاد أهلكت وثمود •••
هو الملك العباس من عم فيضه
وهزت له في المشرقين بنود
فيا وزراء النيل هل فيكم فتى
كريم له رأي لديه سديد
يبين له أن المملك إن قسى
يبت وهو خصم للعباد لدود
إليكم قريضي لست أدري أبطرس
أحق به أم حشمة وسعيد
فأدوا إلى القوم المظاليم حقهم
وردوا جيوش المفسدين وذودوا
ولحضرة الأديب الفاضل والشاعر المطبوع الشيخ إبراهيم الدباغ من خطبة ألقاها في جمعية المدرسة التحضيرية الكبرى ما قال:
يا من يلوم رجال العلم إذ نهضوا
خفض عليك ففعل القوم يمتدح
ودع فريقا بهذي الدار قد ألفوا
حالا بها يتساوى الطعن والمدح
لو اطلعت على قلبي ولوعته
حسبت أن زنادا فيه ينقدح
الأزهريون في حال تذكرنا
عهدا عليه النهى والدين مصطلح
عهدا يذكرنا عصرا يسود به
هذا الوجود فلا لعب ولا مرح
عهدا مضى ورجال الدين في دعة
والحق مستتر والبطل منفضح
أيجنحون إلى شر بهم وهمو
حين النضال لغير الحق ما جنحوا
أيمنعونهم الحق الذي اكتسبوا
ويسلبونهم الثوب الذي اتشحوا
منوا عليهم وجاءوا بالنظام لهم
يا ليت قومي ما منوا ولا منحوا
فإن همو اتحدوا شادوا بقوتهم
صرحا على بابه العلياء تنطرح
وإن همو ابتدعوا عن زيغ ذي حيل
مفرق فاخبروهم أنهم نجحوا
وطالما وكستهم مصر وافتخرت
بذكرهم وهو عند الفقر مضطرح
أيحسب العمل المردي لهم منحا
من حاكميهم فبئست هذه المنح
كادوا لهم واستحلوا ما تحرمه
شريعة الله بالباب الذي فتحوا
أشرعة بعد شرع الله تحكمنا
وأي صدر لغير الشرع ينشرح
الدين أعدل حكما من نظامكم
فعاملوهم بحكم الدين وانتصحوا
ولا تزيغوا بهم عنه وإن خضعوا
من عنده النخل لا يعطى له البلح
خدعتموهم وخادعتم بهم وغفوا
عما صنعتم ومثلتم بهم فصحوا
وكم ضربتم بسهم من معارفهم
فما تنكرهم حي ولا وقح
لو لم يساء لهم عمدا لما وثبوا
إلى النضال ولا فاضت لهم قدح
حمادة باشا والشعر، لأحد الشعراء الذي لم يصرح باسمه:
النيل أولى أن يكون النيلا
لا أن يكون كما نراه ذليلا
جعلوا بيوت الله فيه مجالدا
فدعا السياط رنينها عزريلا
نظر الدموع تسيل في جنباته
فارتاع خيفة أن يصير قتيلا
ترك الجسوم خضيبة بدمائها
وغدا يقص على الملائك قيلا
فتطلعت نحو الثرى وتطلبت
من ربها أن لا يقيل خليلا
من لم يقل أهل الكتاب فلم يكن
مقيما في العالمين مقيلا
نزعت إلى عهد المظالم نفسه
والناس تنزع فتية وكهولا
هون عليك فإن مصر سوى التي
أبصرتها في عهد إسماعيلا
عباس غير جدوده لا يتقي
في الحكم إلا الجلد والتكبيلا
إن النفوس إذا تمادت في الهوى
ثم اهتدت رأت الهوى تضليلا
لو كنت تهوى العدل لم تذر الألى
بعثوا إليك على السلوك رسولا
تالله لم ترأف بمصر وإنما
هي حاجة جعلتك تهوى النيلا
قد عودتك على النعيم خلالها
يأبى المنعم أن يعيش ذليلا
أغضبت ربك والنبي وصحبه
والحاملي التوراة والإنجيلا
أهل الكتاب على هدى من ربهم
لكنهم جعلوا الصلاة شكولا
اليوم تلهب بالسياط جلودهم
وغدا نراك عليهم مسئولا
فيما يكون العذر يوم ترى فتى
يشكو وآخر شاهدا مذهولا
الله يعلم أن عهدك لم يطل
عهد المظالم لم يكن ليطولا
انظر إلى الدور التي أغلقتها
واسمع شكاة قطينها وعويلا
مال الإله وقومه ودياره
فهل اصطفاك له الإله وكيلا
أم شمت خاوية الخزائن عنده
خفت فكادت أن تطير قليلا
فجعلت تجمع في الركاز مشتتا
وتميت من ظمأ الطوى معزولا
المرء إن ضعفت يداه عن الأذى
أخذ الإله له بكف طولى •••
عباس هل جازت سماعك أحرف
يحملن من معنى الأنين حمولا
انظر إلى البلد الذي كفلت به
أبواك هل يرجو سواك كفيلا
انظر إلى البيت الذي كنا به
متفضلين على الورى تفضيلا
فهنالك الأسفار تندب قارئا
والعلم يبكي عالما وجهولا
والماء كاد يجف لما لم يجد
متوضئا أو غاسلا معزولا
وحماك يا ابن محمد لم تبق أح
داث الزمان سوى الكتاب جليلا
وقف عليك دماؤنا ولو انها
سالت بأيدي الظالمين سيولا
إن هان دين محمد فرءوسنا
تطأ الثرى أو ترفع التنزيلا
ولحضرة الأديب الشيخ ثابت فرج الجرجاوي قصيدة منها ما يأتي:
زعم الوشاة بأننا أشرار
كذب الوشاة فإننا أحرار
نبغي الحقوق وليس ثمة قائل
طلب الحقوق مثبة وشنار
مال الحكومة لا تعير مقالة
إذن السماع أقصدها الإصرار
حشدت عساكرها تريد تحرشا
منا ونحن أفاضل أبرار
ندري السياسة والكياسة والوفا
وجميعنا لأميرنا أنصار
الله يعلم والنبي وصحبه
والناس والأهلون والنظار
إنا عبيد مخلصون لعرشكم
وولاؤنا لمقالنا أسفار
أرضيت أن الدين تضرب أهله
وتسوسه الدخلاء والفجار
فالوالد المسكين ينظر لابنه
ينعى ودمع عيونه مدرار
بالله قل لي لو جرى في نجلكم
ما قد صنعت بنا وصنعك عار
خرجت عليك من المواطن ضجة
ذابت لهول نزولها الأحجار
مهلا حمادة إن مصر أسيفة
لوجود مثلك حاكم أمار
جاوزت حد الذوق في تعذيبنا
رقت لحالة بؤسنا الكفار
هذي الفظائع لو تمثل صورة
لتخوفت من شكلها الأقدار
ذكرتنا الظلم القديم وما جرى
في «دنشواي» وبئس ذا التذكار
قف عند حدك يا حمادة وانتظر
عدل الحكيم فإنه إنذار
الآن قد حسم النزاع وأقشعت
سحب القرار وزالت الأكدار
سمح المليك بعفوه مع أننا
برآء عما تفتري الفجار
Bog aan la aqoon