ووقع قوله من نفسها موقع السوط، فانعقد لسانها، وأفعم فؤادها خيبة ومرارة وخجلا، ونظرت نحوه في ذهول، ولكنه لم يلتفت إليها، ودفع السيارة صامتا ساخطا إلى شبرا؛ عسى أن تكون رغبته في المزيد عذرا، ولكن أما كان يجمل به أن يترفق بها، أو في الأقل أن يمسح خشونته بكلمة رقيقة؟ وواصل انطلاقه صامتا، ثم عرج إلى شارع جانبي لينزلها في أمن من الأعين، وأوقف السيارة إلى جانب الطوار. وتساءلت وهي تغادر موضعها عما تفعل إذا سمى لها موعدا آخر، أتقبل رغم إهانته، أم ترفض على رغمها؟ وجابهتها حيرة لم تستعد لها، بيد أنه مد لها يده بنصف ريال وهو يقول: هذا يكفي لمرة واحدة.
ولما رأى جمودها ترك القطعة الفضية عند قدميها، وانطلق بالسيارة مخلفا وراءه ذيلا من دخان خانق، وقرقرة مزمجرة. وركبها جنون غضب أعمى، فتسمرت في موقفها وجسمها ينتفض. واتصل انتفاضها وهي تعض على نواجذها، ثم مضت تزفر في عجلة كأنما تنفس عن صدرها أن ينفجر، لم يتكلف موعدا آخر، مرة عابرة! كأنني ... رباه! مرة عابرة، ثم يرمي لي بنصف ريال! وخطر لها خاطر فباخ غضبها وخمد، وحل محله خجل وخيبة، أجل، ألا يجوز أنها لم ترق له ولم تعجبه؟! هذا محتمل، هذا مرجح، هذا مؤكد. وأمضها شعور أليم بالحزن والقهر، ثم تنبهت لموقفها من الطوار فهمت بمغادرته، ولكنها ذكرت القطعة الملقاة عند قدميها فنظرت إليها بغرابة دون أن تدري ما هي فاعلة، ثم ذكرت لتوها القطعة ذات الخمسة قروش التي اقترضها سلمان منها يوما على محطة الترام، ثم يوم قادها إلى مسكنه، والظلام الدامس وشجارها معه في الطريق، وتغزل أبيها بخفة دمها، ثم عاد انتباهها إلى القطعة الفضية تحت عينيها، فرنت إليها طويلا دون أن تتحول عنها، أي شيء ثمة يدعوها إلى تركها؟!
42
وفي ذات ليلة زار حسن الأسرة زيارة غير متوقعة بعد انقطاع غير قصير، وكانت الأسرة مجتمعة بحجرة الإخوة التي تتخذ منها مجلسا مختارا في شهور الصيف. جاء هذه المرة وبيده قفة فوضعها وراء الباب، وأقبل عليهم مسلما ضاحكا فاستقبلوه بترحاب كالعادة، أعلنه الإخوة في غير تحفظ، أما الأم فرمقت القفة بنظرة متسائلة وغمغمت ساخرة «إيش جاب الغراب لأمه؟» فقال ضاحكا وهو يتخذ مجلسه بينهم: لا تتعجلي، الصبر طيب.
بيد أنهم لم يلقوا بالا لقفته، ولم يكن من عادتهم أن ينتظروا خيرا منه، قالت له نفيسة: لا نراك إلا كالزائر! - أخوك سائح في أرض الله الواسعة، يلتقط رزقه في جهد ومشقة، ولكن لا تعجبي إذا لم تريني إلا زائرا؛ فقد وجدت لنفسي مسكنا !
وتطلعت إليه الأبصار في اهتمام وسألته أمه: هل هداك الله أخيرا ووجدت عملا؟ - تخت علي صبري ولا شيء غيره، ولكن الله فتح عليه وعلينا.
فقالت الأم بامتعاض: لا يدخل عقلي بحال أن هذا عمل بالمعنى الصحيح.
فقال حسن مستنكرا: لم لا يا أماه؟! إني في التخت أغني، بينما في المهن الأخرى أتشاجر كما تعلمين.
وسأله حسين: وهل وجدت لنفسك مسكنا حقا؟ .. أين؟
فسكت مليا ثم سأله: ولماذا تريد أن تعرف؟ - كي نزورك بدورنا! - كلا، ليس مسكني معدا للزيارة، وليس هو خاصا بي إذ يقطنه أفراد التخت جميعا، دعونا من هذا وخبروني متى أكلتم اللحم آخر مرة؟
Bog aan la aqoon