40
استعاد حسن توازنه بفضل قوته وحيويته واعتياده العراك يوما بعد يوم، وكان الليل قد جاوز منتصفه بساعة أو أكثر، وأخذت قهوة «علي صبري» تلفظ آخر المترنحين من روادها. وأطفئت الأنوار الخارجية في الدرب فساده شبه ظلام، ومضت البيوت تغلق أبوابها مفتتحة سهراتها الداخلية التي لا تنتهي عادة قبل الفجر، على حين مر شرطيان يهزان الأرض بوقع أقدامهما الثقيلة، وكان حسن يجلس على كثب من علي صبري في نهاية القهوة يعلقان على إيراد الليلة حين قصدهما غلام يعمل نادلا ببيت زينب الخنفاء، فحياهما ثم مال على أذن حسن وهمس باسما: بعضهم يريدك.
وسمع علي صبري ما همس به الغلام فلاح الاهتمام في وجهه وتمتم: امرأة؟!
فقال حسن بعدم اكتراث: أظن هذا. - ألا تفضل مثلي الحب الطياري؟
فابتسم حسن ابتسامة ذات معنى وقال: لكنه حب لا نفع فيه، انتظر وسنرى.
وودع الأستاذ وقام، ثم تبع الغلام إلى البيت الذي يواجه القهوة، وطرق الغلام الباب ففتح عن شق في حذر، فمرق منه الغلام وتبعه حسن، ثم أغلق الباب، ووجد حسن نفسه في مدخل البيت وقد انتثرت على الكنبات بأركانه فتيات، انتحت كل برجل تشاربه وتداعبه، وعلى كرسي في الصدر جلس رجل ضرير ينفخ في الناي، على حين اتخذت المعلمة زينب الخنفاء مجلسها على أريكة عالية ملتفعة بملاءتها السوداء، وعلى وجهها برقع ذو عروس ذهبية كبيرة تخفي به أنفها المتآكل، وألقى حسن على الحاضرين نظرة متفحصة فلم ير فتاة خالية، ولكن الغلام مال إلى الستار المسدل على مدخل السلم وأزاحه ودخل، فتبعه، وارتقيا الأدراج معا في سكون حتى تساءل حسن: من هي؟ - الست سناء.
وذكرها لتوه، امرأة عرفت بسمرتها العميقة، وشعرها الجعد، وجسمها المكتنز، واشتهرت بشفتين غليظتين، وعينين دعجاوين، وكانت تجلس سحابة النهار على كرسي عند مدخل البيت، واضعة ساقها على ركبتها كاشفة عن فخذها حتى السروال الحريري الأبيض، وانتهيا إلى الدور الثاني، وسارا في دهليز طويل يفضي إلى صالة صغيرة تحدق بها أبواب ثلاثة، ومضى الغلام إلى الباب الأوسط وطرقه ثلاثا، فجاء صوت له رنين النحاس يهتف: ادخل.
ودفع الغلام الباب قليلا وتنحى جانبا، فتقدم حسن إلى الداخل، وقبل أن يرد الباب وراءه شعر بيد الغلام تربت ظهره، فالتفت صوبه، فضحك الغلام وقال وهو يبتعد: اقرأ لنا الفاتحة.
وأغلق الباب فوجد نفسه في ظلام دامس. وحدثته نفسه أن يتحسس وضع الزر الكهربائي ليضيء الحجرة، ولكن سرعان ما عدل عن خاطره، ووقف مستندا إلى الباب منتظرا أن تألف عيناه الظلام، وساد صمت شامل حينا، ثم مضت أذناه تلقطان حس أنفاس تتردد، فأصغى إليها مبتسما، وتوقع قولا أو فعلا ولكن لم يحدث شيء، واتجه على مهل إلى يساره متسمتا الأنفاس المترددة، حتى مست ركبته شيئا صلبا، جسه بيده، فأدرك أنه حافة فراش خشبي، ووقف ينظر إلى أسفل بعينين براقتين حتى شفت الظلمة الشاملة عن كتلة مظلمة ممتدة لا تبين لها معالم، وهوى بإبهامه رويدا رويدا حتى انغرست أنملته في لحم طري ثم انبعثت تحت أصبعه رجفة، وندت عن الظلمة ضحكة مكتومة ... •••
ثم أضاء النور وأخذ يرتدي ثيابه، وأخرج من جيبه نصف ريال ووضعه على الفراش والمرأة تراقبه بعينين ضاحكتين، ثم وثبت إلى أرض الحجرة وسارت بجسمها العاري إلى صوان ففتحته، وعادت بورقة من ذات الخمسين قرشا، وحطتها فوق نصف الريال دون أن تنبس بكلمة، فتساءل ضاحكا: أهو الباقي؟
Bog aan la aqoon