Bilowgii iyo Dhammaadkii

Najiib Maxfuus d. 1427 AH
183

Bilowgii iyo Dhammaadkii

بداية ونهاية

Noocyada

91

انطلقت السيارة بسرعة إلى شارع فاروق في طريقها إلى العتبة ثم إلى إمبابة.

كانا يجلسان كغريبين، أما هو فقد ألقى ببصره إلى الطريق خلال النافذة، موليا إياها نصف ظهره، وأما هي فقد خفضت رأسها وغابت في ذهول عميق. لم يكن في رأسها شيء، أو شيء ذو بال، كأنه السكون الذي يعقب عاصفة هوجاء، أو جمود الموت بعد نزع أليم. وقد بلغ بها الهياج ذروة الجنون قبل أن تسقط مغمى عليها، وبعودتها إلى الوعي تكالبت عليها الأفكار المفزعة، واستعرضت عيناها شريط حياتها في رعب جهنمي حتى أثقلت الهموم رأسها فانحنى على صدرها كما ينحني رأس من سدت في وجهه منافذ الحياة تحت جدار منهار، وبعد ما كان من الانهيار الكامل وظهور حسنين، وما كان بينهما في الطريق، شعرت بأن كل شيء قد انتهى، وأخلى الهول مكانه من رأسها، تاركا وراءه فراغا صامتا، فلم يعد به شيء، أو شيء ذو بال إلا أن تكون ذكرى بعيدة من ذكريات الصبا، أو منظر مما ينعكس على عينيها من أرض السيارة. بيد أنها كانت تكابد تجربة جديدة لا عهد لها بها من قبل؛ إذ هانت عليها الحياة حقا، بالفعل لا بالقول، هانت الهوان الذي يجعل من الموت نجاة، أجل! طالما تذمرت فيما مضى من حياتها وسخطت، حتى تمنت الموت أحيانا، ولكنها لم تسع إليه مع ذلك لأنه كان ثمة أمل في الحياة يدب متواريا في أعماقها. الآن تقطعت بها عن الدنيا الأسباب، واقتلعت الجذور التي تشدها للبقاء، ووجدت مع هذا اليأس العميق راحة زحزحت عن كاهلها الأعباء، فلم تعد تفكر في شيء ذي بال ، ورمقت الموت الذي تنهب الأرض إليه باستسلام كأنه التخدير. وقد دارت السيارة حول منعطف وهي منطلقة في سرعتها، فارتجت الفتاة في مجلسها وتنبهت إلى ما حولها فيما يشبه الفزع، ومع أنها ظلت منكسة الرأس إلا أنها أحست بوجوده إلى جانبها، وتراءى شبحه الجاثم عن يمينها للحظها في غموض فتقبض قلبها ألما وخزيا؛ «ترى فيم يفكر؟ ألا يجد غير البغض والغضب؟ متى يمسي كل شيء وقد انقضى؟ هذه هي النهاية الوحيدة، ترى هل تحدس أمي الحقيقة؟ لا داعي للتفكير، إني ميتة!»

ولبث حسنين مضطربا متوتر الأعصاب يتجاذبه الغضب واليأس والرهبة! «كيف تنتهي هذه المحنة؟ وكيف أخرج منها؟ .. أيمكن حقا أن يسدل عليها الستار دون أن تفوح منها رائحة حرية بأن تجعل من هذا العناء كله عبثا لا طائل تحته؟ إني أختنق. إن الماضي لا ينمحي، ولكنه يسابق مستقبلي، لماذا لا نعيش بلا مبالاة؟ قضي الأمر، ولا داعي للتفكير في هذا، لا داعي للتفكير مطلقا، ما أشد عذابي! كيف أتغلب على هذه التعاسة كلها؟! مهلا، إني أسوقها إلى الموت، وهي تعلم أنها تساق إلى الموت، ترى هل تواتيها القدرة؟ لا شك أنها تفكر الآن تفكيرا متواصلا، ولكن فيم تفكر؟ لا ينبغي أن أفكر فيها. الموت خير نهاية لها، لا يمكن أن تلتقي عينانا؛ فهو فوق ما أحتمل وفوق ما تحتمل هي، الأمر يتعلق بأختك، آه! قاتل الله هذا الضابط؛ يؤسفني أن أخبرك أنها ضبطت في بيت بالسكاكيني! من يتصور هذا! وليس الموت بنهاية، ولكنه بداية لتعاسة أخرى تنتظرني في البيت. حتى متى أواصل هذا التفكير؟ أية مدخنة هذه؟ لعله مصنع، نحن نقترب من جسر أبي العلاء، هذه المدخنة تنفث دخانا أسود كثيفا، لو تحترق أفكاري وتذوب في أنفاسي لزفرت أقذر منه. لا أريد أن يمسك سوء بسببي، صدقت، يجب أن تهلكي وحدك! متى يطوى الطريق؟!»

وعبرت السيارة جسر أبي العلاء فاندفعت إلى داخلها موجات غامرة من هواء بارد رطب مشبع بأريج النيل، فاستقبله الشاب بترحاب من يصلى نارا حامية، على حين سرت في أطرافها رعدة بثت في حناياها خوفا غامضا، ودام لحظات ثم ارتدت بعده لحالها الأولى من الاستسلام والجمود واليأس. وضاعفت السيارة من سرعتها حتى شارفت جسر إمبابة فخفت قوة اندفاعها رويدا، ثم التفت السائق نحو حسنين متسائلا، فقال له هذا بصوت منخفض: «قف.» ودفع له حسابه وغادر السيارة، فغادرتها أيضا من الباب الآخر، وما لبث التاكسي أن عاد من حيث أتى، فوجدا نفسيهما وحيدين على كثب من مدخل الجسر. وكانت المصابيح المقامة على جانبي الجسر تشع نورا قويا أحال ظلمته نورا، بينما أطبق الظلام على ضفاف النيل بطول امتداده شمالا وجنوبا - رغم المصابيح المتباعدة الخافتة - فبدت الأشجار المتراصة على جانبيه كأشباح عمالقة، وكان المكان مقفرا إلا من مار مسرع هنا أو هناك، وقد تناوحت الغصون بأنين ريح باردة كلما كف هبوبها تعالى هسيس النبات كالهمس. لازما موقفهما في جمود كالذهول، ثم استرق إليها نظرة فرآها مقوسة الظهر قليلا منكسة الرأس، غير أن منظرها لم يلق من صدره إلا قلبا متحجرا ونفسا خنق الهم فيه كل رحمة. وثار حنقه على جموده فجأة فقال بغلظة: أأنت مستعدة؟

فغمغمت بصوت غريب لا عهد له به: نعم.

ونفذ الجواب على بساطته إلى أعماقه فلم يعد يطيق موقفه، وتزحزح عنه في خطو ثقيل، وقبل أن يبتعد عنها ذراعين سمعها تقول بتوسل: لا تذكر إساءتي!

فند عنه صوت غليظ وهو يوسع خطاه كالهارب قائلا: فليرحمنا الله جميعا.

تركها وحدها حيال الجسر، وهدف إلى الطوار الممتد إلى يمين الجسر على شاطئ النيل، ثم جد في المسير، حدثته نفسه بالهرب ولكن قوة غشوما جعلت تجذبه إلى الوراء، وخارت مقاومته عند شجرة صفصاف ضخمة الجذع على بعد ثلاثين مترا من مبدأ الطوار فتوارى وراءها في إعياء وأرسل الطرف نحو الجسر، ولاح له الجسر كتلة صماء متوهجة بأنوار المصابيح تمسك من طرفيها بالشاطئين في عناد وتصميم كأنه وحش يغرز أنيابه في فريسته، وعند رأس الجسر، وعلى الجانب المواجه له، رآها تتحرك في خطو ثقيل خافضة الرأس، يعلوها جمود غريب كأنها تمشي في سبات، رآها في وضوح تام تحت الأضواء المشرقة فثبتت عيناه على جانب وجهها المنعكس وهي تقطع الأرض قدما قدما، حتى بلغت المنتصف فتوقفت عن السير، ورفعت رأسها، وأجالته فيما حولها، ثم استدارت نحو السور وألقت ببصرها إلى الماء المصطخب الجاري، وجعل يكتم أنفاسه، ويزدرد في تشنج ريقه الجاف وهو يترقب، ولكن ظهر في تلك اللحظة عند الطرف الآخر من الجسر رجلان ومضيا يقطعان الجسر في سرعة وهما يتحدثان، ثم لاح الترام القادم من إمبابة وهو ينعطف نحو الجسر ممزقا الصمت بعجيجه، فاسترد الشاب أنفاسه، ولكن إلى حين قليل، وسرعان ما ركبه القلق والضيق، وكان قلبه يخفق بعنف حتى خيل إليه من شدة وقع النبض في أذنيه أن العالم الخارجي يسمع دقات قلبه. ثم مرت به لحظات فتوهم أنه يشهد منظرا غريبا عنه لا شأن له به، ولكنها كانت لحظات ثم انقضت وغلبته الرهبة على ما في نفسه جميعا، فلم يعد يستشعر حقدا ولا غضبا، ثم اعتركت الأفكار في رأسه في ثوران فشعر في حيرته بأنه يروم حل مسألة معقدة غامضة، ولكن لا قدرة له على حلها، أو ليس لديه فسحة من الوقت للتفكير فيها؛ فهو منها في حيرة أي حيرة! وفي أثناء ذلك كان الرجلان قد عبرا الجسر، وسبقهما الترام إلى الطريق، وما زالت الفتاة تحملق في الماء، ونظر هنا وهناك فلم ير أثرا لإنسان، وتجمعت نفسه في لحظة ترقب مليئة بالفزع والرعب. رآها تعطف رأسها يمينا وشمالا. وبغتة، وفي حركة سريعة يائسة تسورت السور، وزلزل قلبه وهو يتابع حركتها وجحظت عيناه، لا يمكن .. ليس هذا .. أما هي فألقت بنفسها، أو تركت نفسها تهوي، وقد انطلقت من حنجرتها صرخة طويلة كالعواء تمثل لعيني المبتلى بسماعها وجه الموت، فجاوبها بصرخة فزع ولكنها ضاعت في صرختها. شعر وهي ترمي بنفسها أن بوسعه أن يجد للمسألة المعقدة التي تحيره حلا، ولم يكن الحل فيما فعلت بنفسها، كان يمكن أن تكون نهاية أخرى، وكأنما حاول أن يستدرك الخطأ بصرخته، ولكنها ضاعت، ثم صك مسمعيه اصطدامها بالماء فندت عنه صرخة أخرى.

92

Bog aan la aqoon