63
وخيل إليه - لدى خروجه من الكلية بالملابس الرسمية - أنه حقق حلما بديعا بتصديه للعالم بالبدلة الملونة ... كان ينطلق كالعامود في استقامته، كالطاووس في خيلائه، ملقيا على صورته التي تعكسها مرايا الحوانيت والمقاهي نظرات ارتياح تشمل الشريط الأحمر، والطربوش الطويل، والحذاء اللامع، ملوحا بعصاه القصيرة ذات الرأس الفضي، قابضا على قفازه كأنه يتحدى العالم، ولما تراءت لعينيه عطفة نصر الله جاش صدره بمشاعر متنازعة من العطف والنفور، ثم مضى إليها مطمئنا إلى أن أحدا لن يراه ممن يود ألا يروه - لم يطلع أحدا من أقرانه على عنوانه - راجيا أن يراه جميع الذين يود أن يروه، وأحدقت به الأعين، ولوحت له الأيدي من رقاع الأحذية إلى الحداد، ومن بائع السجاير إلى جابر سلمان البقال. وتطلع رأسه إلى شرفة فريد أفندي، فوجدها مغلقة فسر لما تهيأ له من مفاجأة سعيدة غير مسبوقة بتنبيه، ثم قطع فناء البيت إلى الشقة، وطرق الباب وانتظر مبتسما، وجاءه صوت نفيسة وهي تزعق «من؟» وفتح الباب، فما أن رأته حتى هتفت كالمجنونة: حسنين!
وشدت على يده في انفعال وجعلت تهزها بقوة وفرح، وجاءت الأم مهرولة على صوت ابنتها، فاستسلم لذراعيها النحيلتين وهي تضمه إلى صدرها، وقبل جبينها في سرور شابه شيء من القلق على سترته التي طوقتها ذراعاها، ثم سار بينهما إلى حجرته القديمة التي بدت لعينيه غريبة، لكنها على غرابتها استثارت حنانه وذكرياته، ووقفوا ثلاثتهم والمرأتان ترنوان إليه بإعجاب وحب، ثم دعت له الأم وأفصحت عن سرورها بعبارات مقتضبة، ثم لاذت بالصمت، أما نفسية فلم يسكن لسانها لحظة «لشد ما أوحشتنا» .. «البيت من غيركم كالقبر» .. «اضطرني غيابك إلى أن أرد بنفسي على رسائل حسين بخط أقبح من وجهي» .. «لم يتمكن حسين من القيام بإجازته هذا العام لمرض زميله، وقد كدنا نجن من الحزن» .. «هل حقا كنتما تتراسلان؟ .. لقد أخبرني بهذا منذ عشرة أيام» .. «ماذا تعلمت؟ هل تستطيع الآن أن تطلق بندقية؟» وكان يجيب على أسئلتها في دعابة، ثم خلع طربوشه ووضع عصاه وقفازه على المكتب، ولبث واقفا وهو ينظر إلى سترته ليرى ما فعل العناق بها، وجلست أمه على الفراش وهي تقول: اجلس يا بني.
فتردد لحظة ثم قال: أخاف أن يتكسر البنطلون!
فتسألت المرأة بدهشة: هل تظل واقفا طالما أنت لابس البدلة؟!
وابتسم في ارتباك ثم جلس على الكرسي في حذر، ومد ساقيه وهو يفحص بنطلونه باهتمام، وقال: إن كسرة واحدة بالبنطلون خليقة بأن توقع علي عقابا صارما لا يقل عن حبس شهر بالكلية.
ونظر في وجه أمه ليرى أثر هذه الكذبة في نفسها، فقرأ في صفحته الانزعاج فاستطرد قائلا بصوت ينم عن التضجر: حياتنا شاقة، لا يمكن أن يتصورها إنسان؛ فنهارنا كله وشطر من الليل نقضيهما في الخلاء بين المدافع والقنابل والرصاص، وقد تودي هفوة بسيطة بحياة فرد!
فاتسعت عينا نفيسة في فزع، وتساءلت الأم في اضطراب: كيف يلقون بأبناء الناس إلى الهلاك؟!
وهتفت نفسية في انفعال: لماذا اخترت هذه المدرسة؟
فهز رأسه بثقة وقال: لا تخافي علي! إني ألعب بالنار بمهارة استحقت إعجاب الضباط جميعا!
Bog aan la aqoon