ونظر إليه ليرى وقع تصريحه من نفسه ثم بادر قائلا: لن يضيرنا الانتظار شيئا، ألا تثق في؟!
ومط الرجل بوزه وهو يهز رأسه ثم قال بهدوء مخيف: أربعة أعوام! يا ترى من يعيش! .. أتريدني على أن أقول لأمها إني رفضت ابن عمها الذي يرغب في الزواج منها الآن؛ كي تنتظر أربعة أعوام؟! يبدو لي يا حسين أفندي أنك لم تكن جادا فيما أظهرت من رغبة!
وانتفض حسين في ألم بالغ وهتف: سامحك الله يا حسان أفندي! إني رجل مخلص ولا زلت عند رغبتي الصادقة، ولا أرى سببا وجيها يحول بيني وبينها.
فقال الرجل بفتور: لست أبا ولا أما، فلا عجب ألا ترى وجاهة السبب، والآن فلندع النقاش جانبا، وأجبني باختصار ألا تستطيع الإقدام على الزواج في هذا العام؟
وساد الصمت وطال، دون أن ينبس حسين بكلمة. لم يجد شيئا يقوله، وتفكر طويلا في حيرة، ثم أطبق شفتيه في يأس وقهر. وابتسم حسان أفندي ابتسامة باهتة، وأطبق شفتيه بدوره وقد نم وجهه البيضاوي الصغير على الجمود والكدر، وطال الصمت والجمود وفاحت رائحة الخصام كالغبار في يوم خماسيني فلم تعد تحتملها الأعصاب، ومع ذلك لم يحتمل حسين أن تجيء القطيعة من ناحيته، فتساءل بصوت حزين كأنه كان يتنبأ الجواب سلفا: ألا يمكن الانتظار؟
فقال الرجل بنرفزة: كلا.
ومكث حسين قليلا في خجل وألم، ثم نهض مستأذنا في الانصراف فأذن له، وغادر الشقة لا يكاد يرى ما أمامه من شدة الحزن واليأس، غادرها وهو يعلم أنه لن يعود إليها مرة أخرى، وذهب إلى حجرته فأوقد المصباح الغازي وارتمى على الفراش، وألقى على ما حوله نظرة سخط وعداوة؛ عداوة لكل شيء، كان في تلك اللحظة عدوا لنفسه وللبشر جميعا؛ «أضعيف أنا أم قوي؟ وما صنعت بنفسي أهو إقدام أم فرار؟! كل شيء بغيض مقيت، هذه الحجرة التي أودعها وحجرة الفندق التي تنتظرني بالوحشة نفسها، وحسان أفندي، وطنطا، وحسنين، وأمي، وأنا. ربما تصور الرجل أنه يستطيع أن يضايقني في عملي بالمدرسة! .. تبا له، سيجدني أصلب مما يتصور، ولكن ما قيمة هذا كله! الموت أرحم من الأمل، لست أعجب لهذا؛ فالموت من صنع الله والأمل وليد حماقتنا، الأولى خيبة والثانية خيبة! فهل قضي علي أن أمنى بالخيبة مرة بعد أخرى؟ لماذا لا يتوظف بالبكالوريا؟! لماذا لا يحب لنفسه ما أحب لي؟!» وتناهى به الضيق فلم يعد يحتمل وحدته، فقام إلى المشجب وارتدى بدلته وغادر البيت، وجعل يخبط على وجهه من شارع إلى شارع في ليل بارد حتى أعياه المشي فمضى إلى مقهى، وأنعشه المشي والبرد من حيث لا يدري، فاتخذ مجلسه، وهو أهدأ نفسا، وراح يتسلى بمنظر الجلوس، ويستمع إلى ما يتطاير من سمرهم فلم يخل من كلمة أو لفتة تدعو إلى الابتسام، وخبت فورة الغضب الجنونية وانحسرت موجتها الصارخة عن حزن عميق لكنه هادئ وصامت، ولا يخلو في الوقت نفسه من ندم؛ أكان يؤثر حقا أن يوافق الرجل على رأيه؟ هل يسره أن يترك أسرته تحت رحمة الأقدار؟ يا له من أحمق! من حقه أن يحزن، ولكن ليس من حقه أن يغضب هذا الغضب الجنوني، وليس من الحكمة أن يستسلم للحزن، أجل، إنه يعلم أنه سيحزن طويلا ما دام الشعور لا يخضع للعقل، ولكنه يؤمن أيضا بأن لكل شيء نهاية، حتى هذا الحزن الخانق لا بد أن يدركه العزاء، وانتظر هذا العزاء كما ينتظر فريسة الكابوس صحوة النجاة، إنه آت لا ريب فيه كما علمته المحن، وهناك لن يجد ما يندم عليه، وسيجد ما يفخر به ويطمئن ضميره، إن شعوره بالواجب يفوق مشاعره الأخرى، ولشد ما أخطأ الرجل حين اتهمه بالخوف، وبحسبه أن أمه تفهمه وأنها تعده الأمل والعزاء، وافتر ثغره عن ابتسامة لهذا الأمل المنتظر وهو يعاني مرارة الحزن الراهن.
57
وحوالي منتصف الصيف استقبلت الأسرة - بعطفة نصر الله - يوما سعيدا حين نجح حسنين في امتحان البكالوريا، وجلسوا ثلاثتهم جلسة هناء وصفاء، فمرت ساعة لا يشوبها كدر، وتملت الغبطة قلوب نهكها التعب. وجاء فريد أفندي محمد وأسرته للتهنئة، فشعر حسنين حيال خطيبته بشعور سعيد بخيلاء ساذجة، كأن البكالوريا قد أضفت عليه رجولة جديدة، خليقة باحترامها وعطفها. كان كعادته مرحا لطيفا فتحدث طويلا منتشيا بالفوز، والضحكات تنطلق من فيه تباعا، وكان منظر بهية مما يستثير سعادته وألمه معا؛ كان يسعده أن تلتقي عيناهما خفية فيقرأ في نظرتها الصافية المحبة العميقة المهذبة، ولكنه لم يكن يحظى بالصفاء تحت نظرتها إلا قليلا، ثم يندلع في قلبه لسان لهب، ثم يذكر حرمانه الطويل فيثور حنقه، ويرمق العامين المنطويين بحسرة وأسف، استرق إليها النظر خلال الحديث فانصهر بصره على وجهها البدري وجسمها البض، وتخيلها - كما كان يطيب له أن يتخيلها كثيرا - متجردة إلا من شعرها المنسدل فبلغ ريقه درجة الغليان، وجعل يتساءل صامتا ألا يمكن أن تغير من سياستها بعد حصوله على البكالوريا؟ أليس من العدل أن تهبه قبلة على سبيل التهنئة؟! وظل وعيه متنقلا بينها وبين أخيلته وبين الحاضرين، وكان السرور شاملا بيد أنه لم يخل من عذاب لا يكاد يرحمه في محضرها.
ثم خلت الأسرة إلى نفسها مرة أخرى، فداخلها إحساس جديد - غير السرور الصافي - بالمسئولية؛ لأنهم تعلموا أن الظفر بالبكالوريا سعادة يعقبها تفكير ومتاعب، وكان إتمام تعليمه العالي أمرا مفروغا منه فيما بينهم، ولكن الرأي لم يستقر على اختيار بعينه، وقد قالت نفيسة: عليك الآن أن تختار المهنة التي تريدها.
Bog aan la aqoon