5
ولم نقل شيئا عن تيارات أخرى أخذت تحفر حفرا عميقا تحت الأسس التي يقوم عليها بناء المذهب المثالي، كالتحليلات الرياضية والمنطقية التي قام بها رسل في كتابه «أصول الرياضة»،
6
الذي أصدره سنة 1903م، وفي كتابه الذي اشترك معه فيه «هوايتهد» وهو «أسس الرياضة»،
7
الذي فرغ رسل من قسطه فيه سنة 1910م، وهي تحليلات كانت بعيدة المدى، عميقة الأثر، ولم تكن سريعة النتائج في هدم الفلسفة المثالية، وكذلك لم نقل شيئا عن الاتجاه البراجماتي في أمريكا، على أيدي «بيرس» و«وليم جيمس» كيف كان كالمعاول الهادمة للمثالية السائدة في العقدين الأولين من القرن العشرين.
هذه الثورة على الفلسفة المثالية قد جاءت إلى هؤلاء الثائرين على درجات؛ فليس منهم واحد لم يبدأ حياته الفلسفية مغمورا بالمثالية الكانتية أو الهيجلية، ثم أخذت تعمل في نفسه العوامل الدافعة إلى رفضها، فثار عليها جميعا أو على بعضها، حتى إذا ما جاء عام 1920م كان الاتجاه الغالب بشكل قاطع جازم نحو واقعية جديدة، هي التي تتمثل في برتراند رسل إلى حد كبير، ولما كان عدد كبير من أنصارها من أساتذة كيمبردج، سميت المدرسة أحيانا «بمدرسة كيمبردج» ليتم التقابل بينها وبين «مدرسة أكسفورد» في الفلسفة؛ إذ كانت أكسفورد - كما أسلفنا لك القول - مركزا للفلسفة المثالية، فقامت تناهضها كيمبردج مركزا للفلسفة الواقعية التحليلية، ولقد أسلفنا لك في الفصل الأول ما رواه «رسل» عن نفسه في خطوات تطوره الفكري؛ فمن ذلك قوله: «لقد حدثت لي خلال عام 1898م عدة أحداث جعلتني أنفض عن «كانت» وعن «هيجل» في آن معا ... ولولا «تأثير جورج مور» في تشكيل وجهة نظري لفعلت هذه العوامل فعلها بخطوات أبطأ؛ فقد اجتاز «مور» في حياته الفلسفية نفس المرحلة الهيجلية التي اجتزتها، ولكنها كانت عنده أقصر زمنا منها عندي، فكان هو الإمام الرائد في الثورة، وتبعته في ثورته وفي نفسي شعور بالتحرر؛ لقد قال «برادلي» عن كل شيء يؤمن به «الذوق الفطري» عند الناس إنه ليس سوى «ظواهر»، فجئنا نحن وعكسنا الوضع من طرف إلى طرف؛ إذ قلنا إن كل ما يفترض «الذوق الفطري» عندنا بأنه حق فهو حق، ما دام ذلك «الذوق الفطري» في إدراكه للشيء لم يتأثر بفلسفة أو لاهوت، وهكذا طفقنا - وفي أنفسنا شعور الهارب من السجن - نؤمن بصدق «الذوق الفطري» فيما يدركه، فاستبحنا لأنفسنا أن نصف الحشيش بأنه أخضر، وأن نقول عن الشمس والنجوم إنها موجودة، حتى لو لم يكن هناك العقل الذي يعي وجودها.»
وكتب للواقعية الجديدة أن تسود في إنجلترا سيادة مطلقة مدى عشرة أعوام - من 1920م إلى 1930م - وبعدئذ جاورتها حركة أخرى تولدت عنها، هي حركة «الوضعية المنطقية».
ونستطيع أن نجمل المعالم البارزة في اتجاهات الفلسفة الواقعية الجديدة في ثلاث نقط أو أربع؛ فهي أولا حركة تنصرف باهتمامها الأكبر إلى نظرية المعرفة بدل الميتافيزيقا، إلى الإنسان كيف يعرف ما يعرفه، فلئن كان الفلاسفة الميتافيزيقيون السابقون لهم يعنون بإقامة بناءات فلسفية متسقة يحاول البناء الواحد منها أن يشمل الكون كله بمن فيه وما فيه، كأنه حقيقة واحدة بغير تجزئة ولا فواصل؛ فقد جاء هؤلاء الواقعيون الجدد يفتتون المشكلات الفلسفية ليعالجوها واحدة بعد واحدة، دون أن يعنوا في كثير أو قليل بأن تكون هذه المشكلات أو لا تكون أجزاء من مسألة واحدة كبرى، ومن هذه المشكلات الجزئية، بل في مقدمتها وعلى رأسها، مشكلة المعرفة الإنسانية كيف تكون.
وأهم ما تتصف به نظرية المعرفة عندهم هو بعدها عن الذاتية بقدر المستطاع؛ فأنا حين أعرف شيئا عن العالم الخارجي، فإنما أكشف عن شيء موجود فعلا خارج ذاتي، كان موجودا قبل معرفتي إياه، وسيظل موجودا بعدها، ولم تغير معرفتي تلك من حقيقة الشيء المعروف؛ لأنه كائن مستقل عن العقل الذي يعرفه، وإن غيرت معرفتي لذلك الشيء شيئا، فإنما غيرت من نفسي أنا، لا من ذلك الشيء الخارجي الذي عرفته، وقد غيرت من نفسي حين نقلتها من حالة جهل إلى حالة علم، المعرفة كشف عما هناك، وليست هي بعملية من الخلق المنطقي الذي يتم تركيبه داخل عقلي بغض النظر عما هو كائن خارج العقل؛ كما يذهب المثاليون.
Bog aan la aqoon