الخلاف الرئيسي بين «رسل» والسلوكيين في تفسير الإنسان، هو في اعترافه بضرورة الملاحظة الباطنية للظواهر العقلية التي يستحيل ملاحظتها من الخارج، على أنه بموقفه هذا لا يأخذ بما أخذ به علم النفس التقليدي من قسمة الإنسان إلى جانبين مستقل أحدهما عن الآخر كل الاستقلال في طبيعته: عقل من ناحية، وجسم من ناحية أخرى، بل يرد الجانبين معا إلى «هيولى محايدة» عنها يتفرع الجانبان معا، فلا هو بالمادي الذي يرد كل ظواهر العالم بما في ذلك الظواهر الفكرية إلى مادة، ولا هو بالمثالي الذي يرد ظواهر العالم كلها بما فيها الظواهر المادية إلى عقل، ولا هو بالاثنيني الذي يعترف بجانبي المادة والعقل، ويجعلهما حقيقيتين قائمتين جنبا إلى جنب، لكنه واحدي من طراز فريد، فالعالم كله مؤلف من عنصر محايد لا هو بالعقل ولا هو بالمادة، بل العقل والمادة كلاهما مؤلف منه على اختلاف بينهما في طريقة التأليف، وكان الذي أوحى إليه بهذه الفكرة هو وليم جيمس، فقد نشر وليم جيمس رأيه عن «الشعور» في مقال مشهور جعل عنوانه: «هل «الشعور» موجود؟»
56
قال فيه إن ما كان يطلق عليه اسم «الروح» وتخيله الناس شبحا كائنا بذاته داخل الجسم، إن هو إلا حالة يكون الإنسان فيها «عارفا» لهذا أو لذلك من الأشياء أو الأفكار؛ فكلمة «الشعور» أو «الوعي» إنما هي اسم على غير مسمى، وإن كنا نقصد بالمسمى كائنا قائما بذاته أو مبدأ من المبادئ الأولى، وأولئك الذين لا يزالون يستمسكون بوجوده فإنما هم يستمسكون بهباء أو صدى أو صوت خافت خلفته وراءها «الروح» في هواء الفلسفة بعد أن زالت هي واختفت من عالم الوجود؛ ويمضي جيمس في مقاله هذا فيقول إنه لا يعني بإنكاره الشعور إنكارا «للأفكار»؛ فالأفكار لا شك في وجودها، إنما الذي ينكره هو أن يكون ثمة إلى جانب «الأفكار» شعور قائم بذاته كأنه كائن بين الكائنات؛ كل ما هنالك هو مجموعة أفكار ترتبط بعلاقات فتسميها في ارتباطها هذا معرفة، فإذا استعملنا «الشعور» ليدل على العلاقات القائمة بين مجموعة أفكارنا، لم يكن في ذلك من بأس؛ على ألا نفهم من لفظ «الأفكار» كائنات صنعت من عنصر غير الذي صنعت منه الأشياء التي هي أفكار عنها؛ فالرأي عند جيمس هو أن المادة الخامة - أو الهيولى - التي صنع منها العالم ليست من طرازين: مادة وعقل، بل هي هيولى واحدة ترتب على نحو فنسميها عقلا، وهو يوضح رأيه هذا بتشبيه الألوان وهي في صندوقها معروضة في الدكان، ثم وهي موزعة على لوحة فإذا هي صورة فنية؛ إنها في الحالة الأولى تكون «مادة» معروضة للبيع، وفي الحالة الثانية تكون روحانية في أدائها ما تعبر عنه؛ وهكذا تكون الخبرة، أو قل يكون كل جزء من أجزاء الخبرة، فهو في سياق ما يقوم بدور العارف وهو نفسه في سياق آخر يقوم بدور الشيء المعروف، أو بعبارة أخرى فإن كل جزء من خبرتنا يكون «فكرا» حينا ويكون «شيئا» حينا آخر.
ويقول «رسل» تعليقا على رأي جيمس هذا: «عقيدتي هي أن جيمس قد أصاب في رفضه الشعور باعتباره كائنا قائما بذاته، وأن الواقعيين الأمريكيين قد أصابوا بعض الصواب - وإن لم يكن كل الصواب - في اعتبارهم العقل والمادة كليهما مؤلفين من هيولى محايدة، لا هي بالعقلية ولا هي بالمادية إذا عزلناها وحدها»،
57
ويمضي «رسل» في توضيح وجهة نظره فيقول إن هذه الهيولى المحايدة قد تتخذ وضعا يبيح لنا أن نسميها «عقلا»، وقد تتخذ وضعا آخر يبيح لنا أن نسميها «طبيعة مادية»، وقد تكون في موضع آخر يجوز فيه الوصفان؛ فإحساساتنا من مرئي ومسموع إلخ ... من الصنف الثالث لأنك قد تنظر إليها من زاوية، فإذا هي تابعة لعلم النفس، أو تنظر إليها من زاوية أخرى، فإذا هي تابعة لعلم الطبيعة، وأما الصور الذهنية فتنتمي إلى ما يصح أن نسميه بالعالم العقلي الخالص، بينما الحوادث التي لا تكون جزءا من خبرات الإنسان أبدا (إن وجد مثل هذه الحوادث)، فهي تنتمي إلى ما يكون العالم الطبيعي الخالص، وبناء على هذا التقسيم ترى هنالك ضربين مختلفين من العلاقات السببية، فضرب منهما ينطبق على عالم الطبيعة، وآخر ينطبق على مجال علم النفس، فمثلا قانون الجاذبية قانون للطبيعة، وقانون الترابط قانون للنفس، بينما الإحساسات خاضعة لقوانين الطبيعة والنفس معا، وبالتالي فهي «محايدة» بالمعنى الدقيق.
58 ،
59 (5) عالم من حوادث
60
أول سؤال يلقيه الفيلسوف على نفسه إذا ما فكر في عالم الطبيعة هو هذا: مم تتألف المادة؟ وحين يلقي «رسل» على نفسه هذا السؤال لا يجد مناصا من الإجابة عنه بما يجيب به علم الطبيعة الحديث؛ «إذ ليس في وسع فلسفة أن تتنكر للتغيرات الانقلابية التي طرأت على آرائنا في الطبيعة، وهي تغيرات لم يجد العلماء بدا من الأخذ بها لثبوتها، بل ينبغي لنا أن نلقي بالفلسفات التقليدية جانبا لنبدأ بدءا جديدا لا ينطوي إلا على قليل من التقدير للنسقات الفلسفية السابقة ... وإنه لمن التواضع الزائف أن نبالغ في قيمة ما خلفته القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر من الميتافيزيقا.»
Bog aan la aqoon