فقال سلامة بعدم اكتراث: لا علينا ولا لنا.
وتمتمت آمنة وهي تتابع لعب العيال العرايا حول برميل مليء بالماء: ربنا كبير.
ولأول مرة انطلقت زمارة إنذار بغارة حقيقية. استيقظ دحروج وأسرته، كما استيقظ سلامة في مرقده باللوري. وأعلنت آمنة عن خوفها على العيال، وقالت: إن المخبأ بعيد، فقال دحروج: ابقي في الحجرة؛ فلن يضربوا الخلاء أو القرافة.
ورفع سلامة رأسه نحو البدر الذي يحدق فيهم بهدوئه الأبدي، ثم قال: لا أرى إلا أنوارا مجنونة.
ومن نافذة اللوري مد بصره إلى الحجرة المغلقة. قائمة لصق السور على يسار المدخل بسقف مائل نحو الباب وجدار لا لون له، مطلية بضوء القمر، طاوية جوانحها على قلوب مفعمة بالقلق، ككوخ مهجور، فتخيل أنه جن الليل والخلاء. والغارة تنقض فتهدم كل قائم في المدينة، وتطيح بالقانون والمفتي والقاضي والسجان وحبل المشنقة. ويتفجر باطن الأرض، وتجتاح كل شيء حتى الشهامة تختنق أنفاسها. وينهض من بين الأنقاض رجل عار وامرأة ممزقة الثياب وقد قتل الرقباء.
وتلاحقت الغارات ليلة بعد أخرى. غارات صامتة كالخلاء أو تتخللها مدافع مضادة. واعتاد دحروج في أثناء الغارة أن يذهب إلى سلامة في اللوري؛ ليشاهد السماء ويتحادثا: ليست الغارات كما سمعنا. - الطليان ليسوا كالألمان.
وضحك دحروج، وقبض على لحية سلامة قائلا: أنت مغالط عزرائيل في عمرك. - نعم، كان ينبغي أن أكون في القبر منذ عام ونصف عام على الأقل. - ولذلك فأنت لا تخاف الموت؟ - بل أخافه منذ أن شممت رائحته، وهم يحملونه إلى المفتي. - تصور كيف كان يكون شكلك الآن؟ - أحمد الله الذي أمهلني، حتى أرى الأنوار الكاشفة والمدافع المضادة.
ودب نشاط جديد في الخرابة، ثم تضخم بحال لم يحلم بها دحروج من قبل. ومضى يغيب عن المكان ساعات كل يوم، ثم استغرقت الأعمال الخارجية نهاره كله. وعمل سلامة في الخرابة بكل همة كحارس وكخزان. وفي أوقات الفراغ يجلس على إطار من المطاط مسند الظهر إلى رفرف اللوري الخلفي، يدخن سيجارة أو يمشط لحيته، وعيناه الحادتان تذعنان في مطاوعة متزايدة لرغباته الجامحة. وقال: إنها تتجاهل عينيه، ولكنها شديدة الإحساس بهما طوال الوقت، وإن نظرته الثاقبة تسيطر على حركاتها وسكناتها كأنما تلعب بهما بخيط خفي. ونظر إلى السماء يتابع حدأة تجول جولة الوداع عند الأصيل، ثم نظر أمامه فرآها واقفة على مبعدة أمتار منه تجاه الصنبور الذي تدفق منه الماء إلى صفيحة، وقال: كان يوما شديد الحرارة.
هزت رأسها بالإيجاب، ونظرت إلى عينيه المحدقتين، ثم غضت بصرها وهي تداري ابتسامة. اكتسحت الابتسامة وازع الشهامة في صدره فاجتاحه إعصار. وتنهد بصوت مسموع، فزجرت المرأة محمود الذي جذب أخته من ضفيرتها عند الباب. وسألته: أعد لك الشاي؟
فقال بنبرة تمردت على سيطرته: من المنتظر أن يسافر قريبا إلى الشرقية.
Bog aan la aqoon