المسألة إذن فيها علقة أخذها الدكتور عويس، وفكرة ضربه علقة ليست غريبة، كثيرا ما خطرت لزملائه في الجامعة أو لبعض تلاميذه أو لي حتى شخصيا، ترى من سبقنا جميعا ونفذها.
أستاذ، أي نعم أستاذ، رئيس قسم «الأنثروبولوجي»، على عيننا ورأسنا ، التفكير في الضرب سببه الإحساس المبالغ فيه بهذا كله، والمبالغ فيه كلمة متواضعة لا مبالغة فيها، البارانويا أو جنون العظمة ربما أصلح، الإحساس بأنه مبعوث العناية الإلهية ليس لإصلاح الكون الفاسد وإنما ليعين وبواسطة حق سماوي مطلق ومن جهة كونية عليا مصلحا للكون الفاسد، الحرية تؤمن بها صحيح ولكن ويلك إن استعملتها في مناقشة رأي له، الحرية هي حريته أن يقول الرأي وحريتك أن تقتنع به فإذا لم تفعل، إذا كان لك رأي آخر فأنت من الأوباش الذين يسميهم ال «سنوبز». - تصور عشرة أشهر وأنا أكافح من أجل اللائحة. - إذن هي السبب في الخناقة؟
ببراءة سألت وأنا أشير لعينه اليسرى البارزة كعين ضفدعة وحيدة العين.
أحسن لتساؤلي بنوع من التقزز، وفي عز الحر، وعلى رصيف مزدحم بالمارة يتخبطون بنا مضى يحكي لي في تدفق قصة كفاحه من أجل وضع لائحة تنظم سلوك الطلبة وهيئة التدريس في كليته، ربما تمهيدا لتطبيقها في الجامعة كلها، ثم بواسطة هيئة الأمم في العالم أجمع، ولساعة ونصف ظللت أستمع، لكي أنتهز فرصة يلتقط فيها نفسه، أو يحاول تذكر اسم، وأسرع بتوجيه سؤال صغير أستفهم به عن كنه «العلقة» التي نالها الدكتور عويس، وعن هذا المجهول الذي استطاع أن يقتحم الهالة العلمية التي يحيط بها نفسه، وحصانة الأنبياء التي يبدو بها وسط الناس، ويصل إلى عين ذاته المصونة تلك، ويبهدلها على هذا النحو.
وقصة اللائحة مسلية تماما، أنبتت في ذهني أكثر من فكرة مسرحية، فقد جسدها لي بنفس الأهمية والدقة التي جسد بها شكسبير مسرحيته المشهورة يوليوس قيصر، والمؤامرة التي حيكت ضده، وكل التيارات الخفية والظاهرة، وحتى بروتس كان هناك ولا تنس خطبة مارك أنطوني، وسذاجة الجماهير، والخنجر، والخنجر هنا كان آدميا، بل شخص العميد بذاته.
ولكن العلقة ظلت (ربما على رأيه لتفاهتي) هي محور اهتمامي، ومن الأسئلة المختلسة، والإجابات السريعة المشمئزة التي يلقيها لي كالفتات حتى أستطيع أن أواصل الاستماع لقصة اللائحة، من هذا كله أدركت ما حدث، ويا له من حدث.
الدكتور عويس لا يملك عربة، ومع أنه مساعد أستاذ ورئيس قسم إلا أن ماهيته لا تكفي كي يستعمل التاكسي في مشواره الطويل بين بيته وبين الجامعة، وفي أتوبيس 999 وقعت الواقعة.
من أسبوع مضى، كانت الكتلة البشرية المعتادة يمتلئ بها الأوتوبيس، وكان الدكتور عويس، ومحفظة أوراقه الرهيبة رافعا بها يده كالراية السوداء فقد كانت تحوي أهم الأشياء في حياته، محاضر وتقارير ومذكرات ومسودات موضوع اللائحة، كان بلا هيلمان، بلا قدسية، بلا نفخة صدر، قد تضاءل حتى احتل مكانا لا يكفي «للبشة» قصب تحوي عشرة عيدان وسط هذا الحشد من أجساد فقد كل منهما كيانه الخاص، وتداخلت انبعاجات أحدها في التواءات الآخر لتصنع خليطا من الأجساد البشرية المدكوكة بإحكام، كما يدك الشاري الطماع «الكيلة» بالقمح ليجعلها تحوي، جورا، وحراما، فوق طاقتها بكثير.
يبدو أن السؤال التالي السريع استفزه، فعقد ملامحه، لأول مرة، ونسي اللائحة لبرهة وانفجر مجيبا: اسمع، على لساني قل، ولك حق أن تقول، وانشرها في الصحف التي لك بها صلة، قل لركاب أوتوبيس 999 الذي غادر ميدان التحرير الساعة التاسعة يوم تسعة في الشهر الحالي إنهم أبدا لن يفلتوا من العقاب، عقاب التاريخ أقصد وضمير البشرية العام، فالفرد حين يرتكب جريمة مسألة تدخل في نطاق العقل، أما الجماعة، حين تجرم، هكذا، وبالتلقائية وبدون اتفاق سابق، وبالإجماع الذي لا يشذ عنه أحد عن عمد وبلا تردد وفي وضح النهار تجرم، حين تفعل هذا فنحن أمام أنثروبولوجية لم تعرفها البشرية من قبل، ظاهرة قد أعهد ببحثها إلى أحد تلاميذ الدكتوراه عندي، ولكن قل لهم (وهنا، ولصوته المرتفع كان قد تجمع حولنا بعض المارة فبدا كما لو كان يخاطبهم، ومبهورين مشدوهين غير فاهمين وقفوا يستمعون) قل لهم أيضا، وعلى لساني إنهم لن يفلتوا من العقاب، ليس عقاب القانون ولا الدولة، ولكن عقاب الأنا الكبرى.
واستجابة للكزاتي، وغمزاتي، فطن إلى المجتمعين، فالتفت إلى الناحية الأخرى، ونطق كلمة واحدة «سنوبز»، والتفاتته جعلت كرة «البلا» الأزرق تواجهني، وجعلته يبدو كما لو كان يحدق في بها، وشعرت، وكأنما بإلهام، أن هذه ليست ربما المرة الأولى التي أشعر أنه ينظر إلى أو إلى الآخرين، أو أحيانا لبعض الحوادث، من خلال هذه العين الوارمة الزرقاء البارزة إلى أمام، أدركت وكأنه كثيرا ما كان يستعملها ليعطي أو ليستقبل وجهة نظر، كل ما في الأمر أنها كانت وارمة إلى الداخل، ولم تفعل «البونية» التي تلقاها أكثر من أنها «نطرتها» وجعلتها بادية للعيان. - «سنوبز»، ولكن هذا كله ليس مهما، هذه حكاية هايفة جدا، المشكلة أن المشروع الأول للائحة كنت قد قدمته بديمقراطية شديدة.
Bog aan la aqoon