والبوليس يتلقى الأمر من «المتسلم» المكلف توزيع العدالة. وإذا جاز لي أن أتلاعب في الكلام قلت: إنها الوظيفة الوحيدة التي يحسنون القيام بها على حقها، لأننا نجد أنفسنا دائما معرضين لضربات العصي المتعددة ...
وفي السراي سجنان، يطلق على أحدها اسم «الزندان» وهو عبارة عن محل رطب تعشش فيه البراغيث. إن خشية تطبيق هذه العقوبات القاسية - بل الظالمة في أكثر الأحيان - تقلل كثيرا من الجرائم وتحمل على التحفظ الشديد.
ويظهر أن البوليس لم يغير أساليب المحافظة على الأمن؛ فهو لا يزال يحافظ على عقيدته القديمة وأسلوبه البالي. وهاكم على الأقل دليلا يثبت أن الطريقة المتبعة في القرن السابع عشر لا تزال تطبق اليوم:
إنهم يركبون المحكوم عليه حمارا ويديرون وجهه صوب ذنب هذا الحيوان، وبعد أن يسودوا وجهه ويضعوا على رأسه جلد خروف مليء بأوساخه، يقودونه في المدينة على هذه الصورة، طائفين به في شوارعها بين الهتافات الصارخة والبلبلة العظيمة.
5
وكما هي الحالة في جميع أنحاء الشرق، ترى أسواق مدينة بيروت تزخر بالكلاب. إن المشاجرات التي تقع في الأحياء لا يحس بعقباها إلا المارة المحايدون الذين يخرجون من مأزق هذا النزاع المحلي ملطخين أو ممزقي الثياب. وما أسعد المتقاتلين المدفوعين بحماستهم الشديدة إذا لم يسمحوا لأنفسهم أن يعض بعضهم بعضا!
كان أمراء الجبل يترددون - بوجه خاص - إلى مدن الشاطئ في أثناء الاحتلال المصري؛ لأن إبراهيم باشا كان قد وكل إليهم مهمة القيام بحمايتها؛ وعليه فإنه لم يكن يرى سوى مسيحيين مسلحين. وهذا ما كان يؤلم أهالي المدينة أعداء أبناء لبنان؛ فقد كانوا يتمنون لو يوليهم الباشا عناية السهر على مدينتهم.
وفي ذات يوم كان أحد هؤلاء الأمراء مارا بالأسواق ممتطيا جواده، فإذا به يصادف على الجانبين - وفي كل لحظة - كلابا ممددة على البلاط، ولما أعيته الحيلة في اجتنابها قال في ساعة فقد فيها صبره: ما أكثر الكلاب في هذه المدينة! فأجابه حانوتي جرحته هذه الملاحظة؛ إذ ظن أنه يعنيه: لقد نطقتم بالحق يا صاحب السعادة، ولكن تأملوا قليلا تعلموا أن أكثرها غريب ...
إن المدارس العامة قليلة جدا، ولا يعلم فيها إلا القراءة والكتابة بدون اتباع قاعدة، والأولاد الذين يراد أن يتلقوا دروسهم يتعلمون قراءة القرآن. ولما كان هذا التعليم يتعب الأطفال الذين قلما يقدرون جمال الأسلوب، فإنهم يعدونهم بأجمل الأماني التي تحقق - بدون مطل أو خلف - يوم يصرح المعلم بأن تلميذه ختم الكتاب الكريم؛ عند ذاك يعطي الأب الشيخ بخشيشا ويدعوه إلى حفلة الغد.
إن جميع الأقارب والأصدقاء يدعون إليها أيضا، كما أن جماهير من الفضوليين لا تتأخر عن الانضمام إليهم. والصبي الذي يلبس بفخامة ثيابا كلها جديدة ويحلى بمجوهرات أمه، يركب حصانا مجللا بالكوبان، ويتبعه رفقاؤه وعلى رأسهم الشيخ يتمتم مقاطعه الأثيرة إليه. أما المصحف الشريف فيوضع على طبق، وحواليه الجميع يصعدون ترانيم الشكر، حتى إن النساء يساهمن في هذا الاحتفال مع الرجال بزغردتهن المشهورة: لو لو لو.
Bog aan la aqoon