228

Bayruut Wa Lubnaan

بيروت ولبنان منذ قرن ونصف القرن

Noocyada

ترجع شهرة أسرة بيت الخازن إلى الشدياق سركيس الذي والاه الحظ فحمى أبناء الأمير معن. والصغير الذي ربي بين أولاد الشدياق سركيس أصبح فيما بعد أميرا؛ فاتخذ مدبرا له الرجل الذي قام مقام والده؛ وهكذا احتفظ آل الخازن بهذا المنصب؛ لأن خلفاء الأمير سلكوا مسلك والدهم، مدة مائتين وثماني عشرة سنة، مشتهرين بالمقدرة والاستقامة.

وما بلغت عائلة الخازن قبة مجدها وشهرتها حتى أخذت تعاني صروف الدهر وضربات القدر التي كانت تتوالى عليها بسرعة متتابعة. وعندما أفل نجمها تمكنت بفضل خدمات قامت بها أن تكتسب عطف الرجال العظام في بلاد فرساي والقسطنطينية. إن هاتين الدولتين اتفقتا على مخالفة شرائعهما الخاصة ونظمهما لتعينا - كما سبق لي أن قلت - أحد مشايخ آل الخازن قنصلا في بيروت، وقد لقبوه في باريس بالأمير.

إن البراءة الملكية الصادر في شهر تموز 1708 تشير إلى براءة أخرى سابقة لها يرجع تاريخها إلى سنة 1662. أما آخر براءة فصادرة سنة 1721. وهنالك براءات أخرى عديدة قد اطلعت عليها عند الموارنة.

واطلعت على فرمانين سلطانيين صادرين عن الباب العالي؛ أحدهما من السلطان محمد يرجع تاريخه إلى سنة 1074ه، وآخر من السلطان مصطفى مؤرخ في 23 شعبان 1116ه. وفي هذه البراءات السلطانية ود وعطف أكثر مما تعودنا أن نقرأ في أمثالها؛ فالذين وجهت إليهم يدعون فيها أبناء الباب العالي.

غير أن آل الخازن جردوا من مناصبهم حين نشبت الثورات في الجبل؛ ففقدوا على إثر ذلك منصب قنصلية فرنسا في بيروت. وقد عهد بهذا المنصب بعد موت آخر قنصل من الموارنة إلى مدبر ماروني هو الشيخ غندور الخوري الذي قتله الجزار قبل أن يتسلم البراءة.

وإذا شئنا أن نبحث عن المنفعة التي تجنيها اليوم أعمالنا التجارية من تجديد مناصب القناصل والوكلاء، وجعلها في عهدة شخصيات لبنانية أو رجالات شاطئ سوريا العظام، يتوجب علينا أن نلقي نظرة على حكومة هذه البلدان؛ لأن نفوذ الأشخاص يتوقف على تأثيرهم لدى هذه السلطات؛ فبعد أن خلق الأتراك الفتن وبثوا روح التفرقة بين الشعوب والزعماء، أصبحوا هم أسياد البلاد، وفقد الموارنة مكانتهم في الجبل. أما في المدن فقد أخذ الموظفون الكبار يفضلون التعامل مع الأوروبيين بدلا من النصارى من رعايا السلطان، ولا سيما عندما راعى الفرنسيون البلاد وعرفوا أن المثل القائل: «الهدايا الصغيرة تغذي الصداقة.» قد وضع خصوصا للشرق.

يزعمون أن الحاجة هي التي توقظ فيهم شهوة القبض. أما أنا فلا أؤيد هذا الزعم لأني ما عرفت تركيا واحدا لم يستقبل بفرح متناه عرض تقديم هدية ما . إن خازندار داي الجزائر - وهو على جانب كبير من الثراء - لم يكن يرتدي غير الأجواخ التي كان يستقدمها له قنصلنا بلون رمادي مفضض. وكثيرا ما كان يقول هذا الموظف: إن الأجواخ المعروضة في أسواق الجزائر لا تضاهي أجواخ باريس في القيمة والاتقان والجمال. وما إخالها حازت إعجابه العظيم إلا لأنها كانت تأتيه بلا ثمن.

لا شك أن معرفة الجميل هي التي حببت الموارنة بنا. ومع ذلك فهنالك من يزعم أن مودتهم ليست إلا رابطة قوامها المصلحة، وهي تتبدل بتبدل الحكم القائم عندهم؛ فموالاتهم لنا تتوقف على موالاة الحكم القائم عندهم وعدمها. لقد وجدتهم على الغالب في كثير من المناسبات غير ودودين، لا يظهرون أي مبالاة. وتلك الامتيازات التي اكتسبها الفرنسيون في استمالتهم ومودتهم قد شاخت ... فكم مرة لاقيت منهم مقاومة ومناهضة في الخدمات المتوجب قضاؤها! فلا أدري، إذا كان لا بد لي شخصيا من الثناء على الموارنة، كيف أستطيع ذلك وأنا لم أشعر - أثناء قيامي بمهمتي الرسمية - بالعطف الذي كنت أتوقعه منهم. إن الأمراء والإكليروس، أو بكلمة وجيزة رجال الدنيا والدين لم يعاملوني المعاملة التي كنت أتأملها وأرجوها. إن الشعب الماروني بوجه عام طيب بمقدار ما، وخيره ذلك القروي الساذج الذي لا يزال يحافظ على عاطفته، ويتمسك بتقاليده التي لم تستطع الأيام أن تفسدها. إنه يرى فينا - كما لاحظ السيد لامرتين - «حماة اليوم ومحرري المستقبل.»

نعمت بنفوذ وتأثير قويين في الجبل، فكثر فيه عدد أصدقائي بعدما قمت بقضاء حاجاتهم وقدمت لهم الخدمات التي كانت تسمح لي مهمتي بتأديتها، وعلى الأخص تلك الحماية التي كانت تمنحها فرنسا لرجال الإكليروس الماروني. وقد كنت أطبقها بحذافيرها بلا هوادة؛ فإنما هؤلاء ينشدون حمايتنا لهم عندما يقومون بأعمالهم الدينية، فلو كنت حصرت خدماتي في نطاق الدين فقط لما كان في استطاعتي أن أتمتع بأية شعبية في لبنان، وكان شأني شأن بعض القناصل الذين لم يتعدوا نطاق الأوامر التي كانوا يتلقونها، فبمشاركتي رجال الإكليروس آراءهم وتنفيذ رغبتهم حملتهم على أن يشعروا ويلمسوا حسنات رعاية فرنسا. ولقد منحت جميع مكاري الأديرة «تذاكر» تمكنوا بواسطتها من النزول إلى المدن وشراء حاجاتهم دون أن يخشوا السخرة التي كانت تتناول المكارين ودوابهم.

وهناك عدة مؤسسات دينية أذنت لها - بعد أن فتكت بمحصولاتها الحيوانات البرية المتلفة - بحمل الأسلحة النارية، حتى إني سعيت في السنين القاحلة في إعفاء جميع الديورة من دفع ضرائب الحبوب التي توازي - على وجه تقريبي - سدس قيمتها الحقيقية. وأخيرا فإن دار القنصلية الفرنسية كانت ملجأ لهذه الديورة، فكم من مرة أمدتها بمساعدات استغنت بها - في بحر سنة مجدبة - عن شراء منتوجات هذه البلاد وقد أغلت ثمنها الفائدة الباهظة التي كان يتقاضاها من يسلفون عليها.

Bog aan la aqoon