أشعل سيجارة ومضى يقول: نأتي للمقاومة. الظروف فرضت عليها أن تحتفظ بقنوات اتصال مع الكتل المختلفة. وهي قنوات لا تتأثر بالأحداث. يكون القتال دمويا بين فتح والكتائب مثلا، بينما تعمل قناة الاتصال بينهما بصورة عادية.
تطلع إلى ساعته، ثم قام إلى جهاز التليفزيون فأداره، وألغى صوته، في انتظار نشرة الأخبار. وواصل حديثه وهو يعود إلى مقعده: تم إذن اختطافك صدفة. ونجحت أنطوانيت في أن تحرك المسئولين في منظمة التحرير الفلسطينية. ومن الطبيعي أن يهتم هؤلاء بالأمر لسببين؛ الأول هو أنهم حريصون على دعم علاقاتهم بكافة المجموعات اللبنانية التقدمية مثل مجموعة أنطوانيت، حماية لوجودهم. والسبب الثاني متصل بالأول؛ فاستخدام أنطوانيت لإمكانيات مؤسسة السينما التابعة لهم، يجعلها محسوبة عليهم بصورة ما. وبذلك فإن اختطافك يمس مكانتهم ولو من بعيد. وقد بدءوا أولا بالمنظمات المختلفة في الغربية حتى تأكدوا أنك غير موجود بها؛ عندئذ تم تحريك قناة الاتصال بالمكتب الثاني، ثم بالكتائب والنمور وحراس الأرز وبقية الفرق المارونية. وهؤلاء جميعا أنكروا علاقتهم بالأمر. لكن المكتب الثاني - سواء كي يسدد دينا للمنظمة، أو يسجل لنفسه نقطة عندها، أو ليكسب نقطة في صراع القوة مع الفرق المارونية، أو ليتقصى موضوعا جانبيا تماما مثل موضوع كارلوس - المهم أنه لا يقف عند هذا الحد، ويهتم بالقصة. وخلال ساعات قليلة يكون قد عرف من عملائه المنبثين في الفرق المختلفة مكانك، ويحسم الأمر بمكالمة تليفونية، فيجد الخاطفون أنهم يكسبون من إطلاق سراحك نقطة لدى المكتب الثاني، أو يسددون دينا له. ويتم تبادل الاعتذارات وتسجيل النقاط، وتسترد حريتك. وتصبح مدينا للمكتب الثاني بصورة ما.
أطرقت برأسي وقلت: معقول جدا. ولو أنها صورة مخيفة. ومضحكة أيضا. وهي تفسر الباقي.
رمقني متسائلا فقلت: دورك أنت.
ظهرت عليه الدهشة واغتصب ضحكة: دوري هو أني حركت هذه السلسلة من الأفعال عندما بحثت عنك واتصلت بأنطوانيت. - طبعا. طبعا. لا جدال في هذا. لكني أقصد شيئا آخر. - ما هو؟ - كارلوس.
شحب وجهه وقال: ما شأنه؟ - ربما يوجد جهاز تسجيل هنا. لكني واثق أن المكتب الثاني سمع بموضوع كارلوس عن طريقك شخصيا. - يعني أنا عميل للمكتب الثاني؟ - ليس بالضرورة. لا أظن. هناك شكل معاصر متحضر لهذه الأمور. أنت ترفع سماعة التليفون وتتصل بصديق لك، تعرف أن له صلة ما بالمكتب الثاني. واحد مثل صاحب المقهى الذي رأينا عنده لميا، فتثرثر معه، وخلال الحديث تلقي ببعض المعلومات التي تعرف جيدا أنها تهم المكتب الثاني. عمليا أنت لم تقم بشيء مما يقوم به العملاء المحترفون. كل ما فعلته هو أنك ثرثرت فقط في معرض الإجابة على السؤال التقليدي: إيه الأخبار؟ - وماذا أستفيد من هذه الثرثرة؟
قلت: شيء من الأمان ربما. دعم ما في لحظة أزمة. الحياة هنا صعبة. بيروت جحيم من الولاءات المتشابكة والمتعارضة، ثم ألا يحتمل أن تكون مدينا لهم على طريقة ما حدث معي اليوم؟ - لم أتصور أبدا أنك سيئ الظن إلى هذه الدرجة. - ليت الأمر كان كذلك. مجرد سوء ظن.
كانت أصابعه ترتعش. ودون أن أنظر إلى أصابعي كنت أعرف أنها أيضا ترتعش.
قلت: هل تحب أن أعطيك مثالا آخر في سوء الظن؟ هناك موضوع المفكرة. أنا واثق أني تركتها على الكومودينو بجوار الفراش، فما الذي وضعها في حقيبتي؟ - لو كنت أخذتها، فمن المنطقي أن أعيدها إلى مكانها. - بالعكس، أنت تعرف أني بحثت جيدا على الكومودينو وحوله وتحته، فلو ظهرت في نفس المكان، لبدا الأمر واضحا. الأذكى أن تظهر في مكان آخر؛ لإقناعي بأني كنت عرضة للنسيان. - إذن أنا أخذت مفكرتك وأعطيتها للمكتب الثاني؟ - ربما تكون تصفحتها وحسب. خفت أن تكون لي اتصالات يمكن أن تعرضك للخطر. - وماذا أيضا؟
ضحكت: ألا يكفي هذا؟ - أريد أن أسمع. - كما تشاء، يمكن أن نبدأ من السجن الذي غادرته بعد أسبوع واحد. أو سنة 68 عندما عينوك في بيروت بينما كل أصدقائك كانوا إما في السجن أو خارجين منه لتوهم. - وكيف تفسر أنت ذلك؟ - ألم تكن من المسئولين في تنظيم الاتحاد الاشتراكي؟ وكنت تكتب التقارير عن اتجاهات الرأي العام؛ أي آراء زملائك في الجريدة؟
Bog aan la aqoon