Bayna Jazr Wa Madd
بين الجزر والمد: صفحات في اللغة والآداب والفن والحضارة
Noocyada
كذلك يخطئ المغني عندنا في تقسيم أوقات الإنشاد وتوازن الآهات والأدوار، فقد يبدأ بإصلاح أوتاره في الساعة التاسعة، ولا يفرغ من ذلك إلا نحو الساعة العاشرة، فيصرخ «يا ليل يا عين»، ويظل مناديا ليله وعينه حتى انتصاف الليل، ثم يقضي الشطر الثاني من الجلسة الموسيقية على مقطع أو مقطعين من الدور. وكم يضيق المرء ذرعا بهذا التطويل، ويكاد يصرخ في وجه المغني: فهمنا يا سيدي! اذكر النشوء والارتقاء وغير هذه الجملة!
ليس كل الغناء في اللحن فقط، بل إن معنى الكلمات عامل أولي في حمل الأعصاب على الإذعان لسلطة الموسيقى؛ فلينوع الموسيقيون إذن ألفاظهم ما استطاعوا، ولينشدوا كل أدوارهم وليس كلمات منها فقط، وليتركوا الليل مصغيا لآهاتهم المطربة والعين مغرورقة بدموع الحزن والسرور، والآهات مؤثرة، شرط أن لا يكثروا منها إلى حد يمل عنده السمع وتسأم النفس.
ليس على المعهد الموسيقي الاحتفاظ بالموسيقى العربية ونشرها بين الغواة فحسب، بل عليه - وفي هذا أهمية موقفه - أن يعنى بإصلاحها وحذف ما علق عليها من الشذوذ والإفراط في المرادفات، وأن يبث فيها نسمة الإنعاش.
نرجو أن يعنى المعهد بذلك، وما أشد شكرنا له يوم نراه قد أدخلنا في سفر التكوين!
أعني بلا ضحك، سفر التكوين الموسيقي.
2
كان المعهد السابق ذكره يشتغل خلال الحرب، ويظهر أنه هو الآخر استبد به المقدور المتحكم في كثير من مشروعاتنا، فكان «شعلة قش وانطفأت»، ولعلي أجهل مصيره وهو ما زال حيا يرزق ويرزق؟ حبذا الخطأ في مثل هذه الحال وفي كل حال تشبهها!
على أننا لسنا في جمود موسيقي صرف، ولا يسعنا إلا تقدير جهود أساتذة الموسيقى وهواتها في وسط ما زال من هذه الجهة في سبات، ولم يستيقظ منه إلا الأفراد القلائل.
لا يخفى أن الموسيقى الشرقية جمدت عصورا طويلة بعد أن وصلت عند المصريين والآشوريين والعبرانيين إلى درجة الإتقان المتناهي، بشهادة الآلات المنقوشة صورها على الآثار، ولم يتغير السلم الموسيقي الشرقي أصلا رغم انحطاط الفنون كل هذه المدة. وأهم ما يلاحظ في الأعوام الأخيرة من قبيل التجديد هو ضبط الألحان بالعلامات الإفرنجية، بعد أن كانت الألحان تنتقل بالتواتر والتدوال من جيل إلى جيل شأن الألحان الشعبية القديمة في أوروبا.
فكتابة الموسيقى إذن أصبحت غربية يزيد عليها العلامات المحتم زيادتها؛ لأن ليس في الموسيقى الغربية ما يقابلها وهي أرباع المقامات. ويساير هذا التجديد محاولة إدخال العنصر الغنائي الغربي وإدماجه في النغم الشرقي على نحو ما فعل ملحنو الغرب، الذين استوحوا الموسيقى الشرقية وأفاضوا من عنصرها على مبتكراتهم، إلا أنهم أبرع منا في الاستحياء؛ لأنهم فازوا بثقافة موسيقية وفنية راقية. أما نحن الذين كان لنا آلات موسيقية تمتعت بكمال لم تصل إلى بعضه آلات الإغريق في مجدهم، ونشأت عندنا ذوات الأوتار كالعود والقانون والقيثار التي دخلت أوروبا عن طريق إسبانيا - فضلا عن سائر الآلات المذكورة في التوراة - فما نحن اليوم إلا في دور الثغثغة.
Bog aan la aqoon