قال: لا بأس، ومع ذلك فينبغي أن تزوروا الغرفات الصامتة والغرفات الصاخبة، وأن تختاروا بعد التجربة والممارسة. قلت: ذاك إليك، وهؤلاء رفاقي طوف بهم في الغرفات والحجرات كما تشاء، وأنا راض بما يختارون.
ومضى ومضى معه الرفاق، فغابوا عني ساعة وجدت فيها شيئا غير قليل من الراحة، وفكرت في أثنائها تفكيرا يمازجه الإشفاق والرضى في صاحب هذا الفندق الذي يحب الحديث ولا يكاد يتحدث إلا شعرا، ولكن لم ألبث أن وجدت الطمأنينة، فهذا الرجل مشغول بفندقه وضيفه، ولن يفرغ لي من دون هؤلاء الضيف الذين يزدحم بهم الفندق والذين لا تنقضي حاجتهم، والذين لا يجدون ما يعملون، فهم في حاجة إلى أن يقولوا ويسمعوا. ثم أقبل علي ومعه الرفاق ينبئونني بأنني سآوي إلى غرفة صامتة إذا كان الليل، وإذا احتجت إلى الراحة أثناء النهار، وسأنفق أكثر النهار في جنة الفندق، أتبوأ منها حيث أشاء؛ فهي واسعة فسيحة ظليلة مختلفة، فيها الأماكن التي تجمع من سكان الفندق والقرية طلاب الحديث واللعب والمنادمة، وفيها الأماكن التي يأوي إليها محبو العزلة والراغب أن يفرغ لنفسه أو لكتابه، أو لما أحب من عمل، وفيها أماكن الرياضة للاعب التنس وغير التنس من هذه الألعاب التي يحبها الشباب وكثير من الشيوخ.
وهم أن يمضي في تفصيل جنته إلى أبعد من هذا، لولا أني نهضت وقطعت حديثه قائلا: الخيرة إذن فيما اخترتم، فلنمض إلى غرفاتنا الصامتة لنتخفف من أثقال السفر، ولنتهيأ لساعة العشاء.
وأنفقت في هذا الفندق شهرا وبعض شهر، ناعما بالراحة المريحة والهدوء الذي يملأ القلب رضى، والنفس مرحا، والعقل نشاطا، عاكفا على القراءة والإملاء، فإذا ضقت بالقراءة والإملاء أخذت في الحديث مع الرفاق والزائرين، فإذا رغبت في شيء من الشعر الحي دعوت صاحب الفندق إلى مكان صامت، وتركته يتحدث إلي بما شاء من ألوان الحديث، وإذا هو يحدثني في شئون لبنان على اختلافها، وينشدني في هذه الشئون شعرا عذبا طلي اللفظ والمعنى جميعا، في لهجة لبنانية. وربما أعجبتني المقطوعة من هذا الشعر فأستعيدها، وأومئ إلى صاحبي فيكتبها؛ لأحملها معي إلى مصر، ولأعود إليها من حين إلى حين.
وكنت أظن أول الأمر أن صاحب الفندق هذا شخص نادر في كرمه وشعره وروايته وحبه للحديث؛ ولكني لم أكد أعرف اللبنانيين وأتحدث إليهم وأسمع منهم على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم، حتى استيقنت أن الكرم فيهم خلق قد فطروا عليه، وأن الشعر غريزة قد أتيحت لكثيرين منهم، بعضهم يستغلها فيحسن الشعر في لهجته اللبنانية، أو في اللهجة الفصحى، وبعضهم لا يكاد يحفل بها فتشيع في حياته، وإذا هو شاعر على غير إرادة منه في حس مرهف، وذوق مترف، وطبيعة مصفاة، وما أظن أحدا يجادلني في أن اللبناني هو أشد الشرقيين حبا للطبيعة وكلفا بها، وتذوقا لمحاسنها، وقدرة على تصويرها.
قل: إن سحر لبنان هو مصدر هذا المزاج الخاص، أو علل هذا المزاج بما شئت، ولكن امتياز اللبناني في دقة الحس ورقة الشعور وترف الذوق شيء ليس فيه شك.
تلمس ذلك حين تلقى الرجل الساذج من أهل لبنان في داره اليسيرة الساذجة، فلا تحس فقرا ولا حاجة، ولا ضيقا ولا إملاقا، وإنما تحس تأنقا وعناية، ولا تشك في أن الذوق قد عمل في ترتيب هذه الدار وتنسيقها، حتى أصبحت تصور الرضى والأمن والدعة والاطمئنان إلى العيش والابتسام للحياة.
وإن أنس فلن أنسى يوما أزمعنا فيه أن نتروض في لبنان، فلم نكد نرفع أيدينا من طعام الغداء حتى انحدرت بنا السيارة إلى بيروت، ثم صعدت بنا إلى عاليه، ثم مضت مصعدة ومصوبة، ونحن نقفها هنا وهناك، ونيامن بها مرة ونياسر بها مرة أخرى، حتى إذا أقبل الأصيل كنا قد بلغنا شتورة، وقد أخذ منا الجوع والظمأ لكثرة ما صعدنا وما صوبنا، ويامنا وياسرنا في هذا الهواء البارد الذي كان يذكرنا بقول المتنبي:
وشعاب لبنان وكيف بقطعها
وهو الشتاء وصيفهن شتاء
Bog aan la aqoon