1947
لبنان
تلقاني مشرق الوجه، باسم الثغر، سمح النفس، رقيق الشمائل، عذب الحديث، ولم يدع لي فرصة تسمح بسؤاله أو الإدلاء إليه بما كنت أريد، وإنما مضى في التأهيل والتسهيل والترحيب حتى أغرقني، وأغرق من كان معي من الرفاق في بحر من التحيات لا ساحل له. وكانت الساعة ساعة الشاي، وإذا هو يضرب يدا بيد فيقبل الخدم من كل وجه، فيلقي الأمر هنا وهناك، ويتلقى منه الأمر هذا الخادم أو ذاك، ثم يعود إلينا مضيفا تحية إلى تحية، ومردفا ترحيبا بترحيب، كأنه كان لي صديقا حميما قد بعد العهد بينه وبيني، فهو سعيد باللقاء المفاجئ بعد الفراق الطويل الأليم.
وأنا أسمع لهذا الحديث المتصل في ذهول، وأتلقى هذه التحيات المترادفة في وجوم، فلم أكن لقيت هذا الرجل الكريم قط، ولم أكن سمعت به قبل ذلك اليوم قط، وإنما كنت رجلا مصطافا قد أقبل بأهله يلتمس شيئا من الراحة والدعة واعتدال الجو في لبنان، بعد أن أنهكه العمل، وأحرقه القيظ، وثقلت عليه الحياة في مصر.
وكانت الطريق إلى أوروبا مقطوعة؛ قطعتها الحرب، وكانت الحياة في الإسكندرية على اعتدال جوها مضنية مشقية لا تعفي من عمل، ولا تريح من عناء، ولا تتيح هذا التغيير الذي نحتاج إليه بعد أن نعمل عملا مضنيا ثقيلا مختلفا عاما كاملا. فلم يكن بد من التماس الراحة في لبنان.
وقصدنا إلى لبنان حين تقدم فصل الصيف، وازدحمت الفنادق بالمصطافين حتى استعان أصحابها أهل القرى، يضيفون عندهم من لا يجدون له مكانا في فنادقهم. وكنت قد سمعت بهذا كله قبل أن أعبر الصحراء إلى فلسطين، واستوثقت من هذا كله حين بلغت القدس وأقمت فيها أياما. ولكن مع ذلك مضيت إلى لبنان، فلم يكن بد من المضي إليه، ومضيت إلى هذه القرية بعينها لكثرة ما حدثني الناس عنها، وإلى هذا الفندق بعينه؛ لأنه كان أضخم فنادق القرية بناء، وأرحبها فناء، وأكثرها حجرات وغرفات، وأجدرها أن يؤوي من يطرقه بعد أن تقدم الصيف.
فلا أكاد أبلغه حتى يلقاني صاحبه بهذا السيل المتدفق من التحية والتكريم، فيدهشني ما ألقى من ذلك، وأثبت لهذا السيل ما وجدت إلى الثبات سبيلا، ثم أنتهز فرصة هدأ فيها صاحبي شيئا من هدوء، كأنه أراد أن يتنفس ويبلع ريقه بعد أن أسرف في العدو، فأسأله: أتظن أن في وسعك أن تسكننا في هذا الفندق؟ وكأنما مسست بهذا السؤال محركا كهربائيا، فلا أكاد أفرغ من إلقائه حتى يندفع صاحبي في حديث آخر عذب متصل كأنه السيل، فما حاجتي إلى الفندق ألتمس فيه الحجرات والغرفات، ولي في القلوب ما شاء الله من المساكن، أتبوأ منها حيث أشاء، وأتنقل بينها كما يتنقل الطائر الغرد على الأغصان في الحدائق والجنات.
قلت لصاحبي - وقد رضيت كل الرضى عن هذا الشعور، وأشفقت كل الإشفاق أن يكون سرابا يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، ووجد عنده الليل لا يدري أين يقضيه - قلت لصاحبي: لقد شملتني بكرمك، وغمرتني بلطفك، وإني لسعيد بسكنى القلوب، ولكنك ترى أن القلوب لا تغني عن الحجرات والغرفات شيئا، وأن الذين احتملوا مشقة السفر منذ أشرقت الشمس إلى أن كادت تجنح إلى الغروب مصوبين ومصعدين تمخضهم السيارة مخض القرب، أحوج إلى غرفة يتخففون فيها من عناء السفر، وإلى سرير يلقون عليه ثقل التعب؛ منهم إلى قلوب يجدون فيها الحب والود والبر والحنان، فإذا اجتمعت لهم سكنى القلوب وسكنى الغرفات كانوا أسعد الناس سعادة وأنعمهم نعيما ... قال صاحبي - وقد أخذه ضحك عريض عميق: فأنتم إذن أسعد الناس سعادة وأنعمهم نعيما ؛ لأنكم تسكنون القلوب دائما، وستسكنون الغرفات متى أصبتم شيئا من أكواب الشاي هذه التي يسعى إليكم بها الخدم.
هنالك اطمأن قلبي، ورضيت نفسي، وعرفت أني لن أطوف في القرى، وأنا لن ننفق الليل بالعراء، فأقبلت على ما قدم إلي من طعام وشراب مغتبطا مبتهجا، وأصبت منهما ما شاء الله أن أصيب.
قال صاحب الفندق مبتسما في حديثه الشعري العذب: أيهما أحب إليك: أن تسمع صمت الطبيعة؟ أم أن تسمع ضجيجها وعجيجها؟ قلت متضاحكا في شيء خفي من الوجل: فإن هذا موضوع خطير خصب يحسن أن نرجئ الخوض فيه إلى الغد بعد أن أكون قد أخذت من الراحة بنصيب. قال وقد أغرق في الضحك: هيهات يا سيدي؛ فإنك مضطر إلى أن تجيب على هذا السؤال لأعرف أين أنزلك، وإلى أي نوع من غرفات هذا الفندق يجب أن آويك؛ فإن غرفاتنا يطل بعضها على جهة البحر فلا يسمع الساكن فيها إلا صمت الطبيعة الهادئة المطمئنة، يرى البحر من بعيد ينبسط أمامه إلى غير حد، ولكنه لا يسمع له هديرا ولا زئيرا، وإنما ينعم بمنظره الرائع ونسيمه البليل العليل. وبعض غرفاتنا يطل على هذه الجنة المنبسطة التي ترتفع أشجارها العتيقة في السماء، وفي هذه الجنة من صرير الجنادب ما يشق على السمع أول الأمر، ولا يتيح للناس أن يسمع بعضهم حديث بعض إلا في شيء من الجهد والعناء، فأين تريد أن تنزل؟ وأين تحب أن تقيم؟ أتؤثر صمت الطبيعة وهدوءها والإشراف على البحر والجبل جميعا؟ أم تؤثر لغط الطبيعة وصخبها والإشراف على الزهر والشجر؟ قلت: فإني متعب مكدود من اللغط والصخب، فالراحة أحب إلي، والهدوء آثر عندي.
Bog aan la aqoon