ثم يمضي في حديثه فيقول: لا تنكروا مما أقول لكم شيئا، فإني لا أرى هذا الوجه البشع إذا نظرت في المرآة فحسب؛ بل أنا أراه كلما خلوت إلى نفسي، أراه يحمله جسم كجسمي، وأراه يجلس إلي غير بعيد، ينظر إلي شزرا أول الأمر، ثم لا يزال يرفق بي ويظهر الرقة إلي حتى أطمئن إليه فيحدثني في صوت هادئ رقيق عن سيئات تقدمت بها إلى الناس فيما مضى من الدهر، ثم يقول لي في صوت هادئ يخيفني أشد الخوف: ليتك لم تفعل، فقد كنت أراني جميلا فجعلتني قبيحا بشعا، وكنت أراني سعيدا فجعلتني شقيا بائسا، فقد احتملت وحدي قبحي وبشاعتي وشقائي وبؤسي، ثم أعياني احتمال هذا الثقل فرأيت أن تشاركني في النهوض به، فسألزمك منذ الآن كما يلزم الظل صاحبه، وأي غرابة في أن يلزم الضمير صاحبه؟
وكان صديقي البائس يقول ذلك لأهله وخاصته في صوت غريب يملأ قلوبهم خوفا وإشفاقا ورحمة وعطفا، ثم كان يلح عليهم في ألا يخلو بينه وبين نفسه، فلزموه وأطالوا البقاء معه، ولكن بغضه لظله هذا أو لضميره هذا جعل يعظم ويشتد، كما أن حب ظله وضميره له جعل يعظم ويشتد أيضا؛ فقد رأى ضميره في المرآة أول الأمر، ثم جعل يراه في الخلوة بعد ذلك، ثم أصبح يراه حين يخلو إلى نفسه، وحين يحيط به أهله وخاصته، وإذا أمره ينتهي به إلى الجنون الثائر أو إلى ما يشبهه، وإذا أهله مضطرون إلى أن يمرضوه في بعض المستشفيات التي تعالج فيها الأعصاب المريضة.
ليتني لم أكشف لصاحبي عن نفسه الغطاء ... أستغفر الله؛ ماذا أقول؟ وهل يزيد الكتاب على أن يكشفوا للناس عن نفوسهم الغطاء؟
أكتوبر 1944
الضمائر القلقة
يظهر أن في الضمير المصري شيئا من قلق يحتاج أن يعنى به الذين يهمهم أن يكون الضمير المصري راضيا مطمئنا وآمنا مستريحا، فقلق الضمير مصدر شر كثير؛ أيسره فتور العزم، وكلال الحد، والتردد بين الإقدام والإحجام حين تقضي ظروف الحياة أن نختار بين الإقدام والإحجام. ويكفي أن نلاحظ الفرد ذا الضمير القلق والنفس المضطربة؛ لنعلم أنه لا يصلح لشيء حتى يرد إلى ضميره الاستقرار وإلى نفسه الاطمئنان، فكيف إذا كان هذا القلق شائعا وهذا الاضطراب شاملا؟ وكيف إذا أحس الشعب أنه لا يستطيع أن يثق بشيء، ولا أن يركن إلى شيء، ولا أن يقدم عن بصيرة، ولا أن يحجم عن روية، ولا أن يحكم على الأشياء والأحياء حكما يصدر عن التدبر والتفكير؟
ما أحب أن أطيل في المقترحات، ولا أن أسلك إلى ما أريد طريقا ملتوية، وإنما ألاحظ أن شيئا من الريب قد شمل الناس جميعا، فليس من كلمة تقال إلا اعتقد الناس أن لها ظاهرا وباطنا، وأن لها معنى قريبا يتخذ وسيلة إلى معنى بعيد، وغاية يسيرة تخفي وراءها غاية عسيرة، وليس من عمل يقدم عليه مقدم إلا وله غرض يقصد إليه في العلانية، وغرض آخر يقصد إليه في السر الخفي، وإذن فقد عجز الناس عن أن يصدق بعضهم بعضا، أو أن يأمن بعضهم إلى بعض، فضاعت بينهم الثقة، وشق عليهم التضامن، واضطروا إلى حياة منكرة فيها كثير من الشك، وكثير من الخوف، وكثير من سوء الظن الذي أوشك أن يصبح أصلا من أصول الحياة، وقاعدة من قواعد التعامل بين الناس.
وإذا بلغ الشعب هذه المنزلة من القلق كان خليقا أن يتعرض لشر عظيم، وكان حقا على الذين يدبرون أمره ويقودون الرأي فيه أن يطبوا لهذا الداء ما وجدوا إلى الطب سبيلا. وقد أردت حين هممت بهذا الحديث أن أقصد إلى شيء من الفكاهة والدعابة، ولكن وجدت الأمر أجل خطرا من الفكاهة والدعابة، فقصدت به إلى هذا الجد المر الذي قد يضيق به الكتاب والقراء في هذه الأيام.
لم أكد أنشر الحديث الأول من هذه الأحاديث حتى أحسست حولي سؤالا يلقيه بعض الناس إلى بعض، ويجيب بعضهم بعضا بما يخطر له، ثم يتجه إلي السؤال فأعرض عنه، ثم يتجه إلي في إلحاح فألح في الإعراض، وأقول لنفسي: حديث نشر بعد أن طال الصمت، وبعد أن كنت منصرفا إلى بعض الأعمال العامة، فصرفت عنه، فليس من الغريب أن يذهب الناس فيه المذاهب، وأن يلتمسوا له ألوان التأويل، وأن يتخذوا منه ثوبا يفصلونه على قد هذا أو ذاك من الذين ينهضون بالأعمال العامة أو يشاركون فيها، ولكني لم أنشر الحديث الثاني حتى ازداد السؤال انتشارا، وازداد السائلون إلحاحا، وجعل الأصدقاء وذوو المعرفة يعرضون لي حين يلقونني بما فهموا أو بما خيل إليهم أنهم فهموا.
ثم أمضي في الكتابة، ويمضي الناس في التساؤل، ثم لا يقف الأمر عند التساؤل والإلحاح فيه، وإنما يختلف الناس فيما بينهم ويغلون في الاختلاف، ويريد بعضهم أن يحتكم إلي ويجد عندي حلا لهذه الرموز، وتوضيحا لهذه الألغاز، ويتصل بعضهم بي يسألني أن أريحه من هذا التعب الذي اضطررته إليه. ويتجاوز بعضهم هذا كله فيكتب إلي الرسائل ينبئني فيها بما يعلم من حياة فلان وفلان، ومن خصال فلان وفلان، ومما يظهر فلان للناس ويخفي عليهم، ويطلب إلي أن أصدر هذا في حديث من هذه الأحاديث التي تنشر في «البلاغ».
Bog aan la aqoon