قلت: وما عسى أن تكون هذه القصيدة التي أضاعت علينا كل هذا الوقت، فقد شربنا القهوة وأحرقنا سجائر لا سيجارتين، وأجلت قراءتنا لهذا الكتاب البائس إلى أجل غير مسمى. قال: هي قصيدته التي قالها في بغداد يصور فيها حنينه إلى المعرة، والتي أولها:
طريق لضوء البارق المتعالي
ببغداد وهنا ما لهن وما لي
قلت: كفى الله عنك، لقد شككت في غير موضع للشك، وأدركتك الحيرة في غير مصدر للحيرة، فهذه القصيدة من خير ما قال أبو العلاء؛ لأنها تصور أكرم ما يحب الرجل، أو قل: أكرم ما يحب الشاعر أن يصور من ذات نفسه. قال: هذا شيء أحدث نفسي به ولا أكاد أحققه؛ لكثرة ما في هذه القصيدة من إغراب والتواء يأتيانها من هذا الحديث الطويل عن الإبل، ومن هذا الحديث الطويل عن الطريق وأهوالها، ومن هذه الألوان المتكلفة من الاستعارة والمجاز والطباق. قلت: فإنك لا تعيب على القصيدة إلا أنها شعر. قال: وما ذاك؟ قلت: تعيب على القصيدة ما فيها من حديث طويل عن الإبل وعن الطريق وأهوالها، وما فيها من ألوان الفن البياني؛ كأنك تريد من أبي العلاء أن يتحدث إليك حديثا مباشرا يسيرا قريب المنال بما أراد أن يقول، ولو أنه استمع لك وأجابك إلى ما تريد لما زاد على أن يقول إنه ما دام على فراق المعرة مشوق إلى أن يعود إليها، لا يعدل بها ولا بأرض الشام مدينة أخرى وإن كانت بغداد، ولا أرضا أخرى وإن كانت العراق.
إنه لم يرد أن يقول أكثر من هذا، أستغفر الله! بل أراد أن يقر الطمأنينة في نفس إخوانه من أهل الشام، على أنه لم يزل عزيزا كريما لم يذل نفسه بالسؤال، ولم يبتذل وجهه بتملق الأغنياء وإن كان حظه من المال ضئيلا، أفتراه وقد حدثك هذا الحديث على هذا النحو اليسير أرضى حاجتك إلى الجمال الفني، وأثار من قلبك هذه العواطف المختلفة؛ عواطف الحنان والحنين والشوق والشكوى والارتفاع عن الصغائر والدنيات؟ قال: كلا، ولكنه يجعل بيني وبين هذا الجمال وهذه العواطف والخواطر حجبا كثافا من ألفاظه وأساليبه، فلو قد قربها إلي بعض التقريب ... قلت: فإنك تطلب إلى الشاعر ما لا ينبغي أن يطلب إلى الشعراء، فليس من الحق على الشاعر أن يقدم إليك فنه الرائع وأنت هادئ وادع مطمئن ناعم البال؛ وإنما الحق عليك أن تجد كما جد، وتتعب كما تعب، وتشقى بالتماس الجمال كما شقي هو بعرض هذا الجمال. ذلك أحرى أن يجعل استمتاعك بالفن فيما تدركه عن استحقاق، وذلك أحرى أن يجعلك شريك الشاعر في هذا الجهد الخصب الخالد الذي يبذله الشعراء وقراؤهم وسامعوهم؛ ليصلوا إلى هذه الغاية العليا، وهي تصفية النفس وتنقية الذوق وترقية الطبع وإصلاح الضمير.
وبعد، فما الذي أعياك من هذه القصيدة؟ وصفه الإبل؟ فإنه لم يصف إلا حنينها إلى ما ألفت من أرض الشام، وهو قد افتن في تصوير هذا الحنين؛ فجعل الإبل تتطاول إلى هذا البرق المقبل من الشام، وتتطاول حتى تكاد أن تقطع أعناقها لتصطلي بنار هذا البرق. وجعل هذه الإبل ترجع حنينها إلى الشام تتلو كتابا منزلا فيه حب الوطن وإيثاره على كل وطن آخر، وجعل هذه الإبل حين ترجع حنينها تنشد قصيدة لا يدرى أحديثة هي أم قديمة؛ لأن الحنين إلى الوطن خالد، لا يدري أحد أحديث هو أم قديم، وجعل هذه الإبل حين ترجع حنينها تغني أصواتا في الثقيل الأول من ضروب الغناء، فيها إبطاء وأناة وتمهل؛ لأن الحنين إلى الأوطان يلزم النفس في جميع خطوات الحياة، وجعل هذه الإبل تريد أن تطير إلى أوطانها في الشام، لولا أن العقال يمنعها من أن تطير، وهو مع ذلك ليس واثقا بأن العقال يمنعها من الطيران، ولولا رفقه بها وحبه لها لأمر صاحبه بأن يقيدها بالسيف.
وهل تظن أن الإبل أحست شيئا من ذلك أو حاولته؟ كلا، وإنما هو أبو العلاء قد أحس هذا كله وأكثر من هذا كله، وحاول هذا كله وأكثر من هذا كله، وأدى ما أحس وما حاول في هذا النحو من الرمز كما أداه الشعراء منذ العصر القديم، ثم لم يستطع أن يكتفي بالرمز؛ فجعل الرمز وسيلة إلى خلق البيئة وإنشاء الجو الشعري كما يقال في هذه الأيام، حتى إذا بلغ من ذلك ما أراد صرح عن نفسه في غير لبس ولا التواء ولا تردد ولا استحياء، فقال هذين البيتين اللذين ما أظنك تجادل في روعتهما التي تأتيهما من صدق العاطفة، قال:
ومن لي بأني في جناح غمامة
تشبهها في الجنح أم رثال
تهاداني الأرواح حتى تحطني
Bog aan la aqoon