ولم تمض لحظات قصار حتى نسيت مكاني منه ومكانه مني، وإذا أنا أثوب إلى نفسي فجأة كأنما آت من بعيد يدعوني إلى نفسي وإلى ما حولي، هذا الصوت أو هذه الأصوات التي أسمعها مختلطة متمايزة في وقت واحد؛ فصوت إنسان يرتفع في الغرفة فيملؤها بهذه الألفاظ: أما الآن فقد فرغت لك فافرغ لي، وصوت كتاب متوسط الضخامة يلقى على المائدة في عنف، وصوت قلم نحيل ضئيل يلقى على المائدة إلقاء بين العنف والرفق، فيضطرب عليها اضطرابا يسيرا.
قلت لصاحبي: قد فرغت لي حين أردت، أو حين أتيح لك الفراغ، فأما أنا فلا أريد أن أفرغ لك، أو قل: لم يتح لي بعد أن أفرغ لك. فلم يرد علي جوابا، ولكنه مشى رفيقا إلى صاحبي ونظر في الكتاب الذي كان يقرأ لي فيه، ثم انتزعه من يد صاحبي انتزاعا، وقال: هذا كتاب قرأته منذ أعوام، وما ينبغي أن تقرأه وحدك، فسنقرأه معا، وسيكثر الحوار بيننا حول ما جاء فيه من الخواطر والآراء، وسنبدأ هذه القراءة - إن شئت - بعد ساعة إذا رددت عليك تحيتك بأحسن منها، وإذا شربنا من القهوة قدحا أو قدحين، وأحرقنا سيجارة أو سيجارتين، وأدرنا الحديث بيننا قليلا أثناء ذلك حول صاحبكم هذا الذي أقمتم له الدنيا وأقعدتموها منذ عام، والذي تقيمون له الدنيا وتقعدونها منذ أول هذا القرن.
قلت حول أبي العلاء ... إليك عني؛ فقد شبعت من حديث أبي العلاء حتى أدركتني التخمة أو كادت تدركني، فدعني أسترح منه، ودعني أرح منه الناس حينا، فقد صدقت؛ لقد أقمنا الدنيا وأقعدناها بحديث أبي العلاء، ولقد أقمنا أنفسنا وأقعدناها بحديث أبي العلاء؛ حتى أخذنا الدوار، وآن لرءوسنا أن تستقر، ولأعصابنا أن تهدأ، ولألسنتنا وعقولنا أن تأخذ في حديث آخر. فإذا أخذنا وأخذ الناس قسطا من راحة، وحظا من دعة؛ عدنا إلى حديث أبي العلاء، قمنا به وقعدنا وأقمنا الناس به وأقعدناهم، فإن قصة أبي العلاء لم تنته بعد.
قال صاحبي وهو يضحك: لا تخدع نفسك ولا تخدعني، فما سئمت حديث أبي العلاء ولا ضقت بهذا الدوار الذي اضطرك إليه هذا الحديث، وما أعرف أنك تحب شيئا كما تحب هذا الدوار الذي يفنيك في صاحبك ويشغلك عن غيره من الناس والأحداث والخطوب. على أني لن أحاورك فيما شغلتم به أنفسكم وشغلتم به الناس من آراء أبي العلاء في الفلسفة والسياسة والأخلاق والدين وشئون الاجتماع، فكل هذه الأشياء قد ضقنا بها حقا، وآن لنا أن نستريح منها وقتا، إنما أريد أن أحاورك في شعر أبي العلاء؛ فقلما تحدثتم في هذا الموضوع، وقلما حاولتم أن تتعمقوه، وقد جعل بعضكم يزعم للناس أنه شعر، وجعل بعضكم الآخر يزعم للناس ألا حظ له من شعر، أو أن حظه من الشعر ضئيل.
قلت: وتريد أنت أن تأتي بالقول الفصل في هذه القضية، وأن تمحو الخصومة فيها محوا، وتلغيها إلغاء، وترد الناس إلى شيء من الوفاق لا يختلفون بعده أبدا ... قال: لا تعبث بي، ولا تسرف في إساءة الظن برأيي؛ فإني لم أصل من الجهل بأمور الشعر إلى هذه المنزلة، ومتى رأيت الناس يصلون إلى الاتفاق في أمر شاعر من الشعراء فيقضوا له جميعا بالتفوق أو بالتوسط أو بتواضع المنزلة؟ قلت: فسنظل مختلفين في شعر أبي العلاء كما نحن مختلفون في شعر غيره من الشعراء. قال: فإن الخلاف في شأن أبي العلاء يأخذ شكلا خاصا لم يأخذه الخلاف في شعر المتنبي وأبي تمام أو مسلم؛ لأن هؤلاء وأمثالهم قد فرغوا للشعر، وقصروا عليه حياتهم، ووقفوا عليه جهودهم، وسلكوا إليه الطرق التي تعود الشعراء أن يسلكوها إلى الإجادة في الفن.
فأما أبو العلاء فأمره لا يخلو من غرابة؛ فهو من أكثر الشعراء شعرا، ولعله إن وصلت إلينا آثاره كلها أن يكون أكثرهم شعرا، ثم هو لم يسلك في الشعر طريقة واحدة، ولم يقصد به إلى غاية واحدة من غايات الفن، وإنما قصد إلى غايات مختلفة متنوعة، كما سلك طرقا متمايزة متباينة؛ فهو شاعر كغيره من الشعراء يصور عواطف نفسه وأهواءها، ويصور عواطف الناس وأهواءهم، ويصور مظاهر الطبيعة من حوله كما استطاع أن يصورها، يشارك في المدح والرثاء، كما يشارك في الفخر والوصف، وكما يشارك في الهجاء إلى حد قريب. ولكنه يذهب مذاهب أخرى؛ فيقول في الفلسفة، وفي الفلسفة التي لم يتعود الشعراء أن يطرقوها ولا أن يخضعوها للنظم، ويقول في السياسة على غير النحو الذي ألفه الشعراء السياسيون، ويقول في النقد الاجتماعي والديني، ويذهب مذهب الألغاز، كما يذهب مذهب الرمز.
ثم هو يسلك في هذه الأغراض كلها طرقا؛ منها المستقيم البين، ومنها الملتوي الغامض، يسلك طريق الشعراء الذين عاصروه أو سبقوه، فيسهل في ألفاظه حينا، ويشق فيها على نفسه وعلى الناس حينا آخر، ويلزم عمود الشعر مرة كما لزمه القدماء، فيجري على طبعه وعلى طبع اللغة، وينحرف عنه مرة أخرى، فيمضي على طريقة أبي تمام وأصحابه، صانعا حينا ومتصنعا حينا، ويمضي على طريقة المتنبي؛ فيأخذ في هذا التكلف الذي يلجأ إليه الشعراء حين توشك شجرة الشعر أن تجف، وحين توشك زهرات الشعر أن يدركها الذبول، ثم ينحرف عن هذا كله مرة واحدة، ويسلك في اللزوميات وغير اللزوميات طرقا لم يسلكها أحد قبله، فيتجافى بألفاظه ومعانيه عن المألوف، ويتجافى بالقافية خاصة عن المألوف، فيكلف نفسه ويكلف الناس من أمره شططا، ويخضع المعاني للقوافي، ويجعل نفسه وخواطره وعواطفه عبيدا لهذه القوافي.
فأنت ترى أن أمر الشعر عند أبي العلاء ليس كأمر الشعر عند غيره من الشعراء، بل هو أشد التواء وأكثر تعقيدا؛ ولهذا اختلف في حظه من الشعر وفي تقدير ما ترك من الكلام المنظوم القدماء والمحدثون جميعا، وظهر هذا الخلاف في عصره وفي آثار تلاميذه الذين سمعوا منه على كل حال. قلت: وماذا تريد أن أصنع؟ اختلف الناس في شعر أبي العلاء قديما وحديثا، وسيظلون مختلفين في شعره؛ فدعهم يختلفوا، فلو شاء ربك لاتفقوا، ولكنه لم يشأ، وهم مختلفون في شعر أبي العلاء كما هم مختلفون في الشعر كله، وكما هم مختلفون في كل شيء.
قال: فإني كنت مشغولا حين دخلت عليه بقصيدة من قصائده تلك التي قالها في بغداد، قرأتها مرة ومرة، وجعلت أنظر في أبياتها بيتا بيتا، ثم أنظر فيها كلها جملة، ثم أنظر فيما قيل حول أبياتها من الشرح والتفسير، ثم أسأل نفسي؛ أكان أبو العلاء شاعرا أم لم يكن؟ أأقرأ شعرا جيدا أم أقرأ شعرا متوسطا أم أقرأ شعرا رديئا؟ والغريب أني لم أكن أظفر بجواب مقنع عن سؤال واحد من هذه الأسئلة، أو قل: إني كنت أظفر بأجوبة مختلفة لكل هذه الأسئلة، فقد كنت أرى أن أبا العلاء شاعر؛ لأني كنت أهتز لبعض أبياته، وكنت أرى أنه ليس شاعرا؛ لأني كنت أزور عن بعض أبياته، وكنت أرى أني أقرأ شعرا جيدا وشعرا متوسطا وشعرا رديئا، ولولا أن هذا كله قد دفعني إلى كثير من الحيرة والاضطراب لمضيت في قراءتي، ولخليت بينك وبين كتابك هذا الذي كنت مقبلا عليه.
قلت: فأول ما ينبغي أن نسجله: هو أن هذه القصيدة لم تملك عليك أمرك، ولم تستأثر بقلبك، ولم تخرجك عن طورك، وإنما أتاحت لك السؤال والجواب والتفكير والتقدير، فهي إذن ليست قصيدة رائعة، ولو قد كانت كذلك لما اضطررت إلى حيرة ولا إلى اضطراب، ولكن أرجو ألا تكون من هؤلاء الذين يقضون على الشاعر ببيت من أبياته أو قصيدة من قصائده. قال: لست من هؤلاء، ولست أرى أن هذه الحيرة التي دفعت إليها تمنع أن تكون هذه القصيدة رائعة؛ فقد أكون أنا مصدر هذه الحيرة، وقد يكون ترددي في أمرها ناشئا عن قصور مني، لا عن قصور من الشاعر أو تقصير. وأنت تعلم أن من خير ما تنتهي إليه الآثار الفنية في نفوس الذين يشهدونها أن تثير فيها الحيرة والتردد والاضطراب. ولست أخفي عليك أني لا أحب الإعجاب اليسير، ولا أغالي بهذه الروعة التي تأخذني من جميع أقطاري، وتمنعني من التفكير والتقدير والحكم.
Bog aan la aqoon