فهتفت الأم في نبرات باكية: بيتك أشرف البيوت، بالله يا سيدي إلا ما هونت عليك الغضب، انتهى الأمر وكأن ما كان لم يكن.
فصاح الرجل بصوت ملؤه الوعيد: قولي له أن يتأدب ويستحي ويلزم حدوده، وإن من الخير أن يتفرغ لدروسه.
وسمعت الفتاتان حركة في الداخل فقامتا في حذر وابتعدتا عن الباب على أطراف أصابعهما.
رأت الست أمينة أن تغادر الحجرة كشأنها إذا ند عنها عفوا ما يثير غضبه، فلا تعود إليها بعد ذلك إلا إذا دعاها، إذ علمتها التجربة أن مكثها بين يديه حال الغضب ثم سعيها إلى تسكينه برقيق الكلام لا يزيد النار إلا استعارا. ووجد السيد نفسه وحيدا فزايلته آثار الغضب المحسوسة التي تثور عادة في عينيه وبشرة وجهه وحركات يديه وكلامه، ولكن بقي الغضب في أعماق صدره كالعكارة في قعر القدر.
من المحقق أنه كان يغضب في البيت لأتفه الأسباب لا اتباعا لخطته الموضوعة في سياسة بيته فحسب، ولكن مدفوعا كذلك بحدة طبعه التي لا تشكمها بين آله فرملة الكياسة التي يتقن استعمالها خارج البيت، وربما ترويحا عما يعاني بين الناس كثيرا من ضبط النفس والتسامح واللطف، ومراعاة الخاطر، واكتساب القلوب بأي ثمن، وليس بالنادر أن يتضح له أنه استسلم للغضب في غير موجب، ولكنه حتى في تلك الحال لا يندم على ما فرط منه لاعتقاده بأن غضبته للتافه من الأمر عسية بأن تمنع وقوع الخطير منه مما يستحق الغضب عن جدارة، بيد أنه لم يعد ما بلغه عن فهمي ذلك اليوم هفوة تافهة، بل رأى فيها نزوة قبيحة لا يجوز أن تعتلج في نفس تلميذ من آل بيته، وما كان يتصور أن تتسرب «العواطف» إلى بنيان البيت الذي يحرص على أن يشب في جو من النقاء الصارم والطهارة المنقشعة. ثم جاءت صلاة العصر فرصة طيبة لرياضة النفس خرج منها أهدأ قلبا وأروح بالا، فوسعه أن يتربع على سجادة الصلاة ويبسط راحتيه ويسأل الله أن يبارك له في ذريته وماله، وأن يدعو خاصة لفخر أبنائه بالهدى والرشاد والتوفيق. فلما أن غادر البيت كان تجهمه مظاهرة يراد بها التخويف لا أكثر. وفي الدكان التقى ببعض الأصدقاء فقص عليهم «نادرة اليوم» لا كفاجعة؛ لأنه يكره أن يلقى أحدا بالفاجعات، ولكن كدعابة سخيفة، فعلقوا عليها بما حلا لهم من المزاح، فلم يلبث أن شاركهم مزاحهم، فغادروه وهو يقهقه في غير تحفظ ... بدت له «النادرة» في الدكان على غير ما بدت في حجرته بالبيت، وأمكنه أن يضحك منها، بل وأن يعطف عليها، حتى قال لنفسه أخيرا باسما راضيا: «من شابه أباه فما ظلم.»
21
حين مرق كمال من باب البيت كان المساء يزحف في خطوات حاسمة غاشيا الطرقات والأزقة والمآذن والقباب، ولعله لم يعدل بسروره بهذه الخرجة المفاجئة التي قل أن تتاح له في مثل ذاك الوقت المتأخر إلا زهوه بالرسالة الشفوية التي حمله إياها فهمي، فلم يغب عنه أنه عهد بها إليه وحده دون غيره، في جو من السرية والتكتم الأمر الذي أضفى عليها - وعليه بالتالي - أهمية خاصة أحسها قلبه الصغير ورقص لها طربا وفخارا. وتساءل في عجب عما زلزل فهمي حتى ركبته حال من القلق والحزن بدا في لباسها القاتم شخصا غريبا لم يره ولم يسمعه من قبل، هو مثال وحده، إن أباه يثور كالبركان لأتفه الأسباب، وإن ياسين على حلاوة حديثه قابل للالتهاب، حتى خديجة وعائشة لا تخلوان من نوبات عفرتة، هو مثال وحده، ضحكه ابتسام وغضبه تقطيب، وهدوءه عميق على صدق عواطفه وأصالة حماسه، فلم يذكر أنه رآه على الحال التي رآه عليها اليوم. لن ينسى كيف خلا إليه في حجرة المذاكرة، بصر زائغ ونفس مضطرب، وصوت متهدج، ولا كيف خاطبه لأول مرة في حياته بلهجة توسل حارة عجب لها أشد العجب، حتى استوجب حفظ الرسالة التي حملها أن تكرر عليه مرات ومرات، وقد أدرك من فحوى الرسالة نفسها أن للأمر صلة وثيقة بالحديث الغريب الذي استرق السمع إليه من وراء الباب، والذي نقله إلى شقيقتيه فأثار بينهما جدلا ونزاعا، وبالجملة أنه يتعلق بمريم، تلك الفتاة التي كثيرا ما تعابثه ويعابثها، ويأنس إليها حينا ويضجر منها حينا آخر، دون أن يعرف لها هذه الخطورة التي أحاطت بهدوء أخيه وسلامته، مريم؟! ... لماذا استطاعت دون سائر البشر أن تفعل هذا كله بأخيه العزيز الرائع! ووجد في الجو غموضا، كذاك الغموض الذي يكتنف حياة الأرواح والأشباح، والذي طالما استثار حب استطلاعه وخوفه، فتوثب قلبه للنفاذ إلى مكنون سره في تطلع وحيرة، ولكن حيرته لم تصرفه عن تسميع الرسالة لنفسه، كما سمعها لأخيه من قبل، حتى يضمن ألا يضيع منه حرف واحد من مضمونها، فمر تحت بيت آل رضوان وهو يستعيدها، ثم مال إلى أول عطفة تليه حيث يوجد باب البيت. لم يكن البيت بالغريب عنه، فطالما تسلل إلى فنائه الصغير حيث تنزوي في ركن منه عربة يد مندثرة العجلات كان يركبها مستعينا بخياله على إصلاح عجلاتها وتحريكها حيث شاء، وطالما تردد بين حجراته بغير استئذان، فقوبل بالترحيب والمداعبة من ربة البيت وابنتها اللتين يعدهما «على حداثة سنه» صديقتين قديمتين، فكان يألف البيت بحجراته الثلاث التي تتوسطها صالة صغيرة وضعت بها ماكينة خياطة وراء النافذة التي تطل على حمام السلطان مباشرة، كما يألف بيته بحجراته الواسعة، وبصالته الكبيرة حيث يجتمع مجلس القهوة مساء بعد مساء. وإلى هذا خلفت بعض متعلقات البيت أثرا في نفسه استجابت له عهدا طويلا من صباه، كعش يمامة في أعلى المشربية المتصلة بحجرة مريم الذي تبدو حافته فوق ركن المشربية الملتصق بالجدار كقطع من محيط دائرة يشتبك حوله القش والريش، ويلوح منه أحيانا ذيل اليمامة الأم أو منقارها كيفما اتفق وضعها فيتطلع إليه تتنازعه رغبتان؛ إحداهما - وهي المنبعثة من نفسه - تدعوه إلى العبث به واختطاف الصغار، والأخرى - وهي المكتسبة عن أمه - توقفه عند حد التطلع والعطف والمشاركة الخيالية في حياة اليمامة وأسرتها، وكصورة للسفيرة عزيزة معلقة بحجرة مريم أيضا زاهية الألوان، رقراقة البشرة، وسيمة القسمات، فاقت بجمالها الحسناء التي تطالعه صورتها عصر كل يوم بدكان ماتوسيان، فكان يديم النظر إليها متسائلا عن «حكايتها»، فتقص عليه مريم من أنبائها ما تعلم وما لا تعلم بزلاقة لسان تستهويه وتستأثره، لم يكن البيت بالغريب عليه إذن، فشق سبيله إلى الصالة دون أن يشعر به أحد، وألقى على أولى الحجرات نظرة عابرة فلمح السيد محمد رضوان راقدا في فراشه كما اعتاد أن يراه منذ سنوات. كان يعلم أن الشيخ مريض، وقد سمع عنه كثيرا أنه مشلول، حتى سأل أمه مرة عن معنى الشلل ... فجزعت وراحت تستعيذ بالله من شر الاسم الذي نطق به فانكمش متراجعا، ومنذ ذاك اليوم والسيد يستثير رثاءه واستطلاعه المقرون بالخوف، ثم مر بالحجرة التالية فرأى أم مريم واقفة أمام المرآة، وبيدها ما يشبه العجين تمطه فوق خدها وعنقها وتجذبه جذبات سريعة متتابعة، ثم تتحسس موضعه من بشرتها بأناملها لتعرف مسه، وتطمئن إلى نعومته. ومع أنها كانت فوق الأربعين إلا أنها كانت بارعة الحسن كابنتها، شغوفة بالضحك والدعابة، فما تلقاه حتى تقبل عليه في مرح فتقبله ثم تسأله فيما يشبه نفاد الصبر: «متى تبلغ رشدك لأتزوجك؟» فيعلوه الحياء والارتباك وإن استلذ مداعباتها وود الإكثار منها. وكم أثارت فضوله هذه العملية التي تعكف عليها من حين لآخر أمام المرآة، وقد سأل أمه عنها مرة فنهرته - والنهر أقصى ما تمارس من ضروب التأديب - مؤنبة إياه على سؤاله عما لا يعنيه، بيد أن أم مريم أكبر سماحة ورقة فلما لحظته مرة يرمقها بدهشة أوقفته على مقعد أمامها، ولزقت بأنامله ما حسبه أول الأمر عجينة وبسطت له صفحة وجهها، وقالت ضاحكة: «اشتغل وأرني شطارتك.» فمضى يقلد حركاتها حتى أثبت لها شطارته بخفة غبطته عليها، ولكنه لم يقنع بلذة التجربة فسألها: «لماذا تفعلين هذا؟» فقهقهت: «هلا انتظرت عشرة أعوام أخرى حتى تعرف بنفسك؟! ولكن لا داعي للانتظار أليست البشرة الناعمة أحسن من الخشنة؟ ... هذه هي؟ ...» وقد مر ببابها بخفة حتى لا يشعرها بنفسه؛ لأن رسالته كانت أخطر من أن تسمح له بمقابلة أحد إلا مريم وحدها في الحجرة الأخيرة متربعة على فراشها تقزقز لبا وبين يديها طبق فنجان قد امتلأ بالقشر، فلما رأته قالت بدهشة: كمال! ... (كادت تسأله عما جاء به في هذه الساعة، ولكنها عدلت عما همت به أن تخيفه أو تخجله) شرفت البيت ... تعال اجلس إلى جانبي.
فمد لها يده بالسلام، ثم فك أزرار حذائه ذي الرقبة الطويلة وخلعه، ووثب إلى الفراش في جلباب مقلم وطاقية زرقاء منمنمة بخطوط حمراء، وضحكت مريم ضحكاتها الرقيقة ودست في يده شوية لب وهي تقول: قزقز يا عصفور وحرك أسنانك اللؤلئية ... أتذكر يوم عضضت معصمي وأنا أدغدغك ... هكذا ... ومدت يدها صوب إبطه ولكنه - بحركة عكسية - شبك ذراعيه على صدره ليحمي إبطيه، وندت عنه ضحكة عصبية كما لو كانت أناملها دغدغته بالفعل، ثم هتف بها: في عرضك يا أبلة مريم.
فأمسكت عنه وهي تتعجب من خوفه قائلة: لماذا يقشعر بدنك من الدغدغة؟! انظر كيف لا أبالي بها.
وراحت تدغدغ نفسها باستهانة وهي ترميه بنظرة ازدراء، فلم يملك أن قال لها متحديا: دعيني أدغدغك أنا وسنرى!
Bog aan la aqoon