وكانت أم حنفي قد أحضرت الموقد والكنجة والفناجين وعلبة البن ... وأخذت أمينة تهيئ القهوة للجلسة التقليدية، عاد كل شيء إلى أصله إلا ياسين فقد عاود التفكير في زوجه الغاضبة، على حين انتحى كمال جانبا وأخرج الشوكولاتة من جيبه، وراح ينزع عنها الغلاف المورد اللامع، بدا أن تعنيف فهمي ضاع في الهواء؛ إذ لم يكن في قلبه وقتذاك إلا الرضا والحب.
60
تعقدت مشكلة ياسين الزوجية، فبلغت درجة من الخطورة لم يتوقعها أحد، وما يدري السيد أحمد إلا ومحمد عفت قادم عليه في الدكان في اليوم التالي لالتجاء زينب إلى بيته. ثم قال قبل أن يسترد يده التي شد عليها السيد بالسلام: يا سيد أحمد ... جئتك برجاء ... يجب أن تطلق زينب اليوم قبل الغد إن أمكن.
بهت السيد، أجل قد ساءه سلوك ياسين أكبر إساءة، ولكنه لم يتصور أن يبعث رجلا فاضلا كالسيد محمد عفت إلى المطالبة بالطلاق، لم يتصور أن تدعو هذه «الهفوات» إلى الطلاق مطلقا، بل لم يجر له على بال أن تجيء المطالبة بالطلاق من ناحية الزوجة أبدا، فخيل إليه أن الدنيا انقلبت رأسا على عقب، وأبى أن يصدق أن محدثه جاد في طلبه، فقال بلهجته اللطيفة التي طالما استأسرت قلوب أصدقائه: ليت الإخوان كانوا معنا ليشهدوا عليك وأنت تقذفني بهذه اللهجة القاسية! ... أصغ إلي ... باسم صداقتنا أمنعك من أن تجري للطلاق ذكرا على لسانك.
ثم تفرس في وجهه ليسبر أثر كلامه فيه، ولكنه وجده متجهما كالحا ينذر بالشر والتصميم، فبدأ يستشعر الخطورة والتشاؤم ... دعاه إلى الجلوس فجلس، وما تزداد صورته إلا ظلاما، وإنه يعرفه حق المعرفة، عنيد شديد المراس إذا ركبه الغضب كفر بالمودة والمجاملة، فتمزقت على سنان حدته أسباب القربى والعطف جميعا، قال السيد: وحد الله ... ولنتحدث في هدوء.
فقال محمد عفت وكأنه يقبس لهجته من نار الغضب الذي توهج به خداه: صداقتنا في حرز، فلندعها جانبا ... ابنك ياسين لا يعاشر، تحققت من هذا بعد أن عرفت كل شيء، كم تصبرت المسكينة! ... حضنت همومها طويلا، أخفت عني كل شيء، ثم بثتها جملة حين تصدع صدرها ... يسهر طول الليل ويعود مع الفجر وهو يتلاطم مع الجدران سكرا، أهانها ولفظها، ثم ماذا كانت عقبى صبرها الطويل؟! أن تضبطه في بيتها مع خادمتها! (وبصق على الأرض) ... جارية سوداء! ... بنتي لم تخلق لهذا ... كلا ورب السموات، أنت أعرف الناس بمنزلتها عندي، كلا ... ورب السموات، لا كنت محمد عفت إذا سكت على هذا.
قصة معادة، ولكن ثمة جديدا صدمه حتى زلزله هو قوله إن ياسين «يعود مع الفجر وهو يتلاطم مع الجدران سكرا!» ... أعرف طريق الحانة أيضا؟! ... متى؟ ... كيف! ... آه ليس في الوقت متسع للتفكير أو الانزعاج، ليخفف انفعاله كله. الساعة تتطلب هدوءا وضبطا للنفس، يجب أن يملك الموقف ليتفادى استفحال الشر ... قال بنبرات أسيفة: إن ما يحزنك يحزنني أضعافا، ومن سوء الحظ أن سوءة من السوءات التي حدثتني عنها لم تتصل لي بعلم أو تجر لي على بال، اللهم إلا الحادثة الأخيرة وقد أدبته عليها تأديبا لا يستبيحه لنفسه أب غيري، ما عسى أن أصنع؟ ... لقد أخذته بالتأديب العنيف منذ كان صبيا، ولكن وراء إرادتنا دنيا وشياطين تهزأ من تصميمنا، وتفسد علينا نوايانا الطيبة.
قال محمد عفت وهو يتحاشى عيني السيد بالنظر إلى المكتب: لم أجئ لأوجه إليك لوما أو أحملك تقصيرا، أنت كأب مثال يحتذى ولا يجارى ... ولكن هذا لن يغير من الحقيقة المحزنة، وهي أن ياسين كان غير ما أردت له أن يكون، وأنه بحالته الراهنة لا يصلح للحياة الزوجية.
فقال السيد في عتاب: رويدك يا سيد محمد!
فقال الرجل مستدركا ولكن مصمما على رأيه: على أي حال لن يصلح زوجا لابنتي، سيجد من تقبله على علاته ولكن غيرها، لم تخلق ابنتي لهذا ... أنت أدرى الناس بمنزلتها عندي.
Bog aan la aqoon