U Dhexeeya Labada Qasri

Najiib Maxfuus d. 1427 AH
124

U Dhexeeya Labada Qasri

بين القصرين

Noocyada

ولقد كان الناس يظنون أنه كان لهما في وقفتهما الشريفة دفاعا عن الحرية عضد قوي من نفحات عظمتكم؛ لذلك لم يكن ليتوقع أحد في مصر أن يكون آخر حل لمسألة سفر الوفد قبول استقالة الوزيرين؛ لأن في ذلك متابعة للطامعين في إذلالنا وتمكينا للعقبة التي ألقيت في سبيل الإدلاء بحجة الأمة إلى المؤتمر، وإيذانا بالرضا بحكم الأجنبي علينا إلى الأبد.

قد نعلم أن عظمتكم ربما كنتم مضطرين لاعتبارات عائلية أن تقبلوا عرش أبيكم العظيم الذي خلا بانتقال أخيكم المغفور له السلطان حسين، ولكن الأمة من جهة أخرى كانت تعتقد أن قبولكم لهذا العرش في زمن الحماية الوقتية الباطلة رعاية لتلك الظروف العائلية، ليس من شأنه أن يصرفكم عن العمل لاستقلال بلادكم، غير أن حل المسألة بقبول استقالة الوزيرين اللذين أظهرا احترامهما لإرادة الأمة لا يمكن أن يتفق مع ما جبلتم عليه من حب الخير لبلادكم، والاعتداد بمشيئة شعبكم؛ لذلك عجب الناس من مستشاريكم كيف أنهم لم يلتفتوا إلى الأمة في هذا الظرف العصيب، وهي إنما تطلب منكم - يا أرشد أبناء محررها الكبير محمد علي - أن تكونوا لها العون الأول على نيل استقلالها، مهما كلفكم ذلك، فإن همتكم أرفع من أن تحددها الظروف. كيف فات مستشاريكم أن عبارة استقالة رشدي باشا لا تسمح لرجل مصري ذي كرامة وطنية أن يخلفه في مركزه؟! ... كيف فاتهم أن وزارة تؤلف على برنامج مضاد لمشيئة الشعب مقضي عليها بالفشل؟!

عفوا مولانا قد تكون مداخلتنا في هذا الأمر وفي غير هذا الظرف غير لائقة ... ولكن الأمر قد جل الآن عن أن يراعى فيه أي اعتبار غير منفعة الوطن الذي أنت خادمه الأمين. إن لمولانا أكبر مقام في البلاد فعليه أكبر مسئولية عنها، وفيه أكبر رجاء لها، وإننا لا نكذبه النصيحة إذا تضرعنا إليه أن يتعرف رأي أمته قبل أن يتخذ قرارا نهائيا في أمر الأزمة الحالية، فإننا نؤكد لسدته العلية أنه لم يبق أحد في رعاياه من أقصى البلاد إلى أقصاها إلا وهو يطلب الاستقلال، فالحيلولة بين الأمة وبين طلبتها مسئولية لم يتحر مستشارو مولانا أمرها بالدقة الواجبة؛ لذلك دفعنا واجب خدمة بلادنا وإخلاصنا لمولانا أن نرفع لسدته شعور أمته التي هي الآن أشد ما تكون رجاء في استقلالها، وأخوف ما تكون من أن تلعب به أيدي حزب الاستعمار، والتي تطلب إليه بحقها عليه أن يغضب لغضبها، ويقف في صفها، فتنال بذلك غرضها ... وإنه على ذلك قدير ...

رفع ياسين رأسه عن المنشور وفي عينيه ذهول، وفي قلبه نبض جديد من التأثر، بيد أنه هز رأسه قائلا: يا له من خطاب! ... لا أحسبني أستطيع أن أوجه مثله إلى ناظر مدرستي دون أن ينالني العقاب الرادع!

فرفع فهمي منكبيه استهانة، وقال: الأمر قد جل الآن عن أن يراعى فيه أي اعتبار غير منفعة الوطن!

ردد العبارة عن ظهر قلب كما وردت في المنشور، فلم يتمالك ياسين أن يقول ضاحكا: أحفظت المنشور! ... ولكني لا أعجب لهذا، كأنك كنت تترصد طول حياتك لمثل هذه الحركة كي تلقي إليها بكل قلبك، ولعلي لا أخلو من مثل شعورك وآمالك، ولكني لا أقرك على الاحتفاظ بهذا المنشور ... خصوصا بعد استقالة الوزارة، وتحرش الأحكام العرفية!

فقال فهمي في فخار: إني لا أحتفظ بها فحسب، ولكني أقوم بتوزيعها ما سمح الجهد!

فاتسعت عينا ياسين في قلق وهم بالكلام ... ولكن الأم كانت أسبق إليه منه، فقالت بانزعاج: لا أكاد أصدق أذني، كيف تعرض نفسك للشر وأنت سيد العقلاء؟!

لم يدر فهمي كيف يجيبها، ولكنه شعر بما جره عليه تهوره من حرج، لم يكن أشفق عليه من محادثتها في هذا الأمر، كانت السماء أقرب إليه من إقناعها بأن تعريض نفسه للخطر في سبيل الوطن واجب ما دام الوطن كله لا يساوي في نظرها قلامة ظفر، بل قد بدا له أن إخراج الإنجليز من مصر أيسر من حملها على الاقتناع بوجوب إخراجهم، أو إغرائها ببغضهم، فما إن يدور الحديث حول ذلك حتى تقول ببساطة: «لماذا تكرههم يا بني! ... أليسوا أناسا مثلنا لهم أبناء وأمهات؟!» فيقول لها بحدة: «ولكنهم يحتلون بلادنا!» ... وتحس بحدة الغضب في نبراته فتلوذ بالصمت وهي تداري نظرة إشفاق لو نطقت لقالت له: «لا عليك من هذا» ... ومرة قال لها وقد ضاق بمنطقها: «لا حياة لقوم إذا حكمهم أجنبي.» فقالت له في استغراب: «ولكنا لا نزال أحياء رغم أنهم يحكموننا من زمن بعيد، وقد أنجبتكم جميعا في ظل حكمهم! ... إنهم يا بني لا يقتلون ولا يتعرضون للمساجد، ولا تزال أمة محمد بخير!» فقال الشاب يائسا: «لو كان سيدنا محمد حيا ما رضي أن يحكمه الإنجليز.» فقالت بلهجة الحكيم: «هذا حق، ولكن أين نحن من الرسول عليه الصلاة والسلام؟ ... كان الله يعينه بملائكته ...» فهتف بها حانقا: «سيعمل سعد زغلول ما كانت الملائكة تعمله.» ولكنها هتفت وهي ترفع ذراعيها كأنما تدفع بلاء لا دافع له: «لا تقل هذا يا بني، استغفر ربك، اللهم رحمتك وغفرانك!» ... هذه هي، فكيف يجيبها الآن وقد استشعرت في توزيع المنشور خطرا يتهدده؟ ... لم يسعه إلا أن يركن إلى الكذب، فقال متصنعا الاستهانة: ما أردت إلا المزاح فلا تنزعجي للاشيء.

فعادت المرأة تقول بنبرات تنم عن ضراعة: هذا ما أومن به يا بني، هيهات أن يخيب ظني في أرشد الراشدين، ما لنا نحن وهذه الأمور! إذا رأى باشواتنا أن يخرج الإنجليز من مصر، فليخرجوهم بأنفسهم.

Bog aan la aqoon