فمضى وما عتم أن عاد وسألني أن أنتظر البارون ريثما يفرغ من بعض شأنه فيحضر، ثم قال: اجلس يا سيدي، وإن شئت فاقرأ هذه الجريدة، وكان قد تحول من الخشونة إلى النهاية في التأدب واللين.
فشكرته وأخذت الجريدة أقلب نظري فيها ولا أعي شيئا من معانيها، وكنت أفكر في أمس الدابر، وما جرى لي فيه من الأمور، وكيف فارقت الأهل والأحباب امتثالا لأمر عمي؟ وكيف كانت ساعة وداعهم المؤلمة؟ وكيف مرت تلك الساعة مرور لحظة؟ ثم ترحلت عن البلاد كاسف البال، شجي الفؤاد، فاغرورقت مقلتاي بالدموع، وتعذر علي إقرار نظري على الصحيفة التي أصبحت لا أرى إلا بياضها، وقد خيل لي أن كل هذه الأمور جرت منذ عهد بعيد لا في أمس؛ لما في نفسي من الوحشة.
ولا أزال أذكر عمي إذ دخل علي بكرة ووضع يده على كتفي وأيقظني، وكان وجهه متوردا، عليه سمة الانشغال والاضطراب، وكان منديله مجموعا في قبضة يده علامة أنه يكظم أمرا في نفسه، فجلس على كرسي هناك، ثم سألني: في أي يوم من الشهر نحن؟ فأجبته وقد أدهشني هذا السؤال: إذا صدق الرزنامج وكانت عيناي غير حسيرتين، فاليوم الثامن من شهر أكتوبر، ولكن علام باكرت إلي يا عمي العزيز تستفهم عن شيء لا تعز معرفته على أجير لو سألته؟
فعبس بي وتغيرت شارات وجهه ويديه ثم قال: اعلم يا مكسيم أنك صرت منذ صبيحة اليوم رجلا راشدا مطلق الحرية والإرادة، ولك أن تتصرف بأموالك كيف تشاء، وأن ترتكب كل المنكرات بلا اعتراض؛ ولذلك أحب أن تطلعني على ما تنويه. فلم أجب، ولكن عجبت أن يكون بلوغي الرشد مما يقتضي تغيير نظام معيشتي، فألح علي فأجبته بعبس، فقال: إن هذا يدلني على قلة اهتمامك بمستقبلك، فاعلم يا ولدي أني قيم عليك، وأن عهدتك أثقلت عاتقي، وقد آن لي أن أتخلص منها، وكانت قيامتي هذه عليك تضطرني إلى مراقبتك واستغلال مالك، أما الآن وقد شببت بعون الله تعالى فأنا أعرض عليك حسابات ما تملك، وهذه سفاتج، وسندات، وحجج، ودفاتر تتضمن دخلك وخرجك، فعليك أن تجمع وتطرح وتضرب وتقسم، ثم تعطيني بعد ذلك ورقة بتبرئة ذمتي ورفع أمرك عني.
فوعدته بذلك محاسنة، ثم تركته وذهبت إلى المغسل لا يخطر على بالي شيء سوى أن عمي يريد أن يجعل في يدي زمام الشيء القليل الذي أمتلكه، ولما لبست ثيابي نظر إلي من فوق بلورتيه، وقال سألتك فلم تجب، فأعيد عليك أنني في شغل من أمر مستقبلك، وإنما أتيت إليك لأرد لك مالك ولأعلم ما تنويه؛ لأني عاهدت نفسي أمام الله وأمام أبيك يوم كنت طفلا أن أرعاك بعنايتي، وأمهد أمامك العقبات، فما الذي تنويه؟ فسألته عن الموجب لهذا السؤال؟ وقلت: ما عساني أن أفضل على حالتي هذه وأراني محفوفا بعنايتك، وعناية أمي، وإن كان لا بد لي أن أسير سيرة أخرى، فأمهلني ريثما أفكر فيها قليلا، فحدق بي ثم قال: لا إخالك تشك في أني عاملتك إلى الآن معاملة ابن لي، فيجدر بك أن تصغي إلى ما أقدمه لك من النصح «فاعلم أن دخلك زهيد لا يبلغ ستة آلاف فرنك نصفها لأمك، فأنت لا تستطيع به تجارة ولا مزاولة أي عمل كان، ولا أظنك تلقيه في معرض الخسران؛ لأن العاقبة لا تحمد، فلم يبق لك إذن للكسب غير باب واحد، وهو أن ترحل عن افريه، فإن لم تفعل فاعلم أن حياتك تنقضي محصورة في هذه البقعة، لا ترى غيرها، ولا يمضي عليك القليل من الزمن حتى تستكين إلى الكسل واللهو، فتصرف أيام شبابك بين الصيد، والرسم، والحقيقة، والوهم، ثم تأتيك أمهات ذوات دهاء، فيصفن لك جمال بناتهن إلى أن تؤخذ على غرة فتتزوج وهناك الحياة المرة، فتلد لك امرأة أولادا كثيرين ...»
فضحكت لكلامه ضحكا عاليا وقطعت عليه الكلام، وقلت: إني عاقد النية على مغادرة افريه؛ للسعي إلى عمل ما في بلدة غير هذه، ولكن إلى أين أذهب؟ وماذا أفعل؟ فقال : لا تهتم بهذا يا بني، فلا صعوبة في وجود عمل لك، والصعوبة بانتقاء البلدة التي يجب أن تقصدها، وعندي أن ليس للشباب الذين يطمعون في المراتب الرفيعة إلا مدينة واحدة فيها خطر عظيم على الضعفاء، وفوز لذوي العزائم والجد وهي باريس، فقلت: ومن يكون مرشدي في تلك المدينة العظيمة التي أخاف أن أضل فيها بلا معين ولا مرشد؟ فضمني إلى صدره وقال: إن في كلامك يا بني حكمة ودليلا على توقد قلبك واهتمامك بالمستقبل فبورك فيك، ولكن خفض عليك فقد تولت أمرك في ذلك الأقدار، فإني بينما كنت في الصيف الماضي في مدينة مون دور التي أذهب إليها كل سنة؛ للاستشفاء من الداء العصبي الذي أنا مصاب به التقيت بصاحب لي، كان معي في المدرسة منذ أكثر من خمسين عاما فتحدثنا طويلا، وكنا في كل يوم نتنادم بذكرى أيام الصبا، وبقينا كذلك زهاء شهر حتى غدونا يشق على الواحد منا أن يفارقه الآخر، ولما انتهى فصل الصيف هممت بالعودة إلى هنا، فاستاء واغرورقت عيناه حزنا، ثم قبلني وسألني أن أكاتبه بلا انقطاع، وقال: إنه مستعد ليخدمني بما في وسعه فكتبت إليه منذ أيام أسأله عما إذا كان يوجد لك عنده عمل تعمله؟ فأجابني على كتابي بكتاب ودي ارتاح إليه قلبي، ثم إن عمي تبسم وقال لي: «اعلم أن لذلك الرجل امرأة جميلة ...» فقطعت عليه الحديث وقلت: «وما اسم ذاك الرجل وما هي حرفته؟» فضحك لقلة صبري وقال: «اسمه جيستاف فركنباك وهو صيرفي من كبار صيارفة باريس، وذوي الكلمة النافذة فيها، فهل ترضى بالاستخدام عنده؟» فشكرته وقلت له: ومتى موعد سفري فأستعد له؟ فقال: اليوم، وإن شئت غدا، لكن يجب ألا تتردد في أمر أقدمت عليه؛ لأن في التردد ما لا تحمد عقباه أحيانا، فأذعنت له بعد جدال ووعدته أني أسافر في أول قطار.
ولما كان المساء جلست على المائدة وعمي إلى جانبي، وجلست أمي تجاهي وهنأتني ودعت لي بالنجاح، ولو لم تخنها بقية دمع سالت من محاجرها لما علمت بشيء مما في نفسها من الألم، وكانت تتكلف التجمل ما أمكن، وتشغل نفسها عن البكاء بإعداد معدات السفر، وكانت أيضا تكتم خوفها علي من الأخطار التي كنت معرضا لها، وتظهر لي الفرح التام، وتكذب ما كنت أسمعه من زفرات صدرها، وما كنت أراه على وجهها من دلائل الكآبة، وبينما كانت تطوي ملابسي وتنضدها في صندوق السفر، ذهبت فودعت أصدقائي ومعارفي، وكنت أشعر أن هذا الوداع يمنعني من العود إلى افريه فيما إذا لم أفلح في باريس؛ مخافة سوء الأحدوثة، ولما كان المساء جاء عمي ودعاني إلى الرحيل فبكت أمي وبكيت معها كثيرا، ثم ركبت عربة عمي وكان قلبه يخفق بشدة من ألم الفراق، وإذ وصلنا إلى المحطة أخذنا نتمشى في انتظار مجيء القطار، فقال لي عمي: وعدتك يا بني بأن لا أوقر سمعك بما يقوله الآباء عادة لأبنائهم قبل السفر ولا أخلف، والشاب في غنية عن كل المشورات والنصائح؛ لأن الدهر يعلمه ما لا يعلمه أبوه، فالاختبار هو المدرسة الكبرى التي يتلقى فيها بنفسه علم معرفة الائتلاف وكيفية المعيشة، وأنت جدير بأن تقرأ في ساعات الفراغ رواية هاملت لشكسبير، فأنعم الفكر فيما ينصح به بولونييس لابنه ليرت قبل ابتعاده عنه، ثم إن عندي أمرا آخر ذا بال أشرحه لك موجزا، وهو أن للنساء شأنا مهما بين الناس في هذه الأيام، ولهن المقام والتجلة، وهن محركات نظام الكون الآن، وسبب علله وأدوائه، فأحذرك من المرأة الأولى التي ستراها في باريس. ومن الناس من يقولون: إن المرأة على الغالب هي الواسطة الفعالة لنيل المآرب، وأنا أقول لك: إن كلامهم حبالة ينصبونها للجهلة، بل هو قيد يقيدون به أرجلهم، بل هو ذريعة للانصراف إلى الملاهي عن الشغل، وأقل أخطار العشق تلازم المعشوقين، بحيث لو فصلا آلا إلى الشقاء أو إلى الفناء، وأنت يا ولدي مع تحليك بكثير من الصفات الحميدة، فإن لك خلة وهي أن قلبك ضعيف لدى النساء، ثم عاد إلى الكلام عن مدام فركنباك فقال: إنها ذات عينين نجلاوين، يضل معهما الناسك عن قصده وسوف تلتقي بهذه السيدة فلا تخرج في حديثك معها عن جادة ما يجيز الأدب؛ لأنها بديعة وفي جمالها خطر على الشبان، وأظنها ذات ذكاء، ولكن معرفتي قليلة بقدر عقلها.
وما قدم القطار حتى دخلته وانتقيت فيه موضعا لي، ثم عدت إلى عمي فانتهرني وقال: لم ذهبت قبل أن تستأذن مني؟ ألا تزال نزقا فخذ هذا كتاب وصاة بك لفركنباك، فقبلته تقبيل الشكر والوداع، وإذ ذاك قرع الجرس وآذن القطار بالرحيل، فركبته وسار بي مبتعدا عن افريه.
كل تلك الذكرى مثلها خاطري لناظري في ساعة انتظاري لفركنباك، وكان فؤادي يضطرب آسفا على ما مضى وخوفا مما سألاقي.
ولما طال علي الانتظار نظرت في الجريدة التي كانت بيدي، فإذا فيها أسماء الذين جاءوا باريس بالأمس من الأغنياء وذوي المناصب، ثم وقع نظري على اسم البارونة ريتا مدام فركنباك فقلت: «إن التي يخشى منها على الشبان تدعى ريتا.» ولكن يخيل لي أني كنت أشهد التمثيل ذات يوم، ورأيت ممثلة سلبت عقلي كانت تدعى ريتا، فهل هي التي أصبحت الآن البارونة فركنباك؟ وبعد هنيهة قرع الجرس الكهربائي فأتاني الخادم مسرعا، وأخبرني بكل احتشام أن البارون يستقبلني فمضيت إلى غرفته وكانت مفروشة بالطنافس الأزميرية النفيسة، وفيها كانون موقد، وما لبثت بعض دقائق حتى جاء البارون ومد لي يده فسلمت عليه.
Bog aan la aqoon