الطعام اللذيذة ومن أصناف الخمور المعتقة، ومن الزهور الجديد قطوفها، ثم أشعلت النار، وأنرت القناديل المعلقة، وكللتها بالأزهار البهية العطرة، وفرشت المقاعد والكراسي بصنوف الورد والرياحين.
وإذا بها داخلة، ووجهها يتهلل بشرا، والسعادة ترقص على جبهتها وجبينيها، والسرور يجول في عينيها فقالت: نعم أنا هي التي تنتظرها، أنا ريتا لا تخف ... أنا ريتا السعيدة بأن أراك، الحرة إلا في هواك، الصادقة في ولائها وحبها، الأميرة إلا على قلبها، وبعد أن كان لا يخطر ببالي أن أخون فركنباك، أصبحت وأنا أرصد غيبته بفروغ صبر لأجيء إليك، وأعاطيك كئوس الهوى، ولو كان يعلم ذاك المغرور بما بيننا، لامتزج صفو أيامه مع جوزيفا بالكدر والحزن. - دعينا من هذا الحديث وهات حديثا أطيب. - أظنك هيأت الطعام، وأعددت كل شيء على أحسن نظام. - نعم قد هيأت كل شيء، وجعلته على أحسن ما تتصورين من الذوق، فهل أنت راضية على مكسيم حبيبك؟ - خذ الجواب من عيني فهما أفصح من لساني، وسلهما عن شخصك في قلبي، فهما اللتان دلتا القلب عليك، وهما اللتان أوجدتا الحب حين نظرت بعيني ونظرت بعينك ... ولكن لماذا تجلس بعيدا عني ...؟ اقترب اقترب أيضا ... الآن ازداد رضاي عليك. - قد تهيأ الطعام.
كان عشاؤنا كما يجب أن يكون؛ أي نارا تشبها المزاحات والمداعبات الصبيانية، بل مطر قبلات، بل ساعة جنون غرامي، وبقدر ما تكلمت ومازحت، بقدر ما شربت من الشنبانيا إلى أن سكرت وغاب عقلها، حتى لو رأت تمثالا من حجر لحسبته إنسانا ودعته ليشرب معنا كأسا.
ثم إنها طوقت عنقي بيدها، وقالت بصوت مترجرج: أنا مسرورة بأنك قريب مني، سعيدة بأني قريبة منك ... وقد كنت في جنة يوم قدمت لك قلبي فرفضته، ولو أني رفضت قلبك حين قدمته لي، لكان جنوني أشد من جنونك؛ لأن في الحب لذة لا أدري كيف أعبر عنها ... وأنا أحبك من كل قوة قلبي ونشاطه ... وأود أن أمحو ذكرى أحزاني الغابرة، وأود أن أؤرخ حياتي من يوم عرفتك، بل من ساعة دخلت غرفتي، تلك الساعة التي رأيتك فيها لأول مرة، وكأن صوتا سريا كان يقول لي إني سأكون لك وتكون لي ... فكأن أشعة شمس بددت ما كان ينوب نفسي من الظلمات وبقوى قبلاتك انزاح الحجاب الذي كان يحجب عني الذهول، والغفلات الإلهية التي أفنيت عمري في تصورها فلم أنلها، وقضيت معظم أيامي في طلابها فلم تستتم لي ... فأنا أحبك الآن حبا فوق من يتصور العشاق، بحيث أشعر في نفسي أني أموت لو غبت عني.
وبينما كان فمها الوردي يفتش على فمي وخدي، خطر ببالي فكر خشن لا يقال لحبيبة، ففاتحتها به ببرودة دون أن أبحث عما إذا كان يغضبها ويؤلمها أم لا يؤلمها، مثل الطفل الذي يمزق جلد الطبل؛ ليرى ما في داخله، أو كالبنية التي تكسر لعبها؛ لترى ما فيها، فقلت من فوري: وهل إني يا حبيبتي ريتا أول عاشق عشقته؟
فأخذتها لهذا السؤال رجفة مؤلمة ألقتها إلى الوراء، وأظهر وجهها دليل كآبة وعذاب حتى إني ندمت على هذا الذنب، فقالت: إنك سيئ النية يا مكسيم. - هبي أني لم أستعلمك عن شيء، فلا أحب أن أعلم شيئا من ذلك. - وأنا أحب أن أخبرك بكل شيء، وقد خنت ضميرك ومع جهلي بسبب ذلك فإني أستنتج منك أنك تميل لمعرفة المجهول من حياتي، وإذا كان لا بد لك أن تعرفه عاجلا أو آجلا، فأنا أقصه عليك الآن بصراحة ... فاعلم أني قبل أن أعرفك حدث لي حادثتا غرام «ولست الآن أحلي مقالي وأطليه بزخرف لأتنصل من ذنبي، بل أقول الحقيقة كما كانت، فقد عشقت المركيز دي ... لا فائدة من ذكر اسمه» مدة أسبوع كامل، وإنما كتمت اسمه عنك؛ لأنك تجتمع به أحيانا وربما تكرهه إذا ذكرت أنه امتلكني قبلك، وقد كان ذلك بعد زواجنا بأربعة أشهر.
وكان هذا المركيز معروفا بالغنى والذكاء والمهارة بالرقص، ففي ذات يوم زارني ولم يكن البارون في البيت فشرح لي هواه، وبعد نصف ساعة كنت حبيبته على أني رفضته بعد أسبوع لإساءة بدت منه، وما كانت هذه المرة لتخفف نيران غرامي، فقد كنت أشعر دائما باحتياج عظيم للحب، وأفتش عن حبيب أمين أبادله الغرام، فاتفق ذات يوم أن جاءنا أحد أقارب البارون، وكان شابا جميلا فاستقبلته بوجه بشوش، ورحبت به ومن ذاك الحين نشأ حبنا، وأخذ يزداد ويعظم، فخيل لي أني غرقت في بحور الغرام، وبعد ثلاثة أشهر أمرته الحكومة بالسفر عن باريس فبكيت لبعده كثيرا، وإذ رأيت أن الدهر ما دام يسقيني كئوس الحنظل عقدت النية على الوقوف عند هذا الحد من الحب، إلا إذا وجدت لي حبيبا جميلا أمينا، لا يسافر عن باريس، فبقيت منتظرة أقاسي ألم الاحتباس، وضجر الانتظار مدة ثمان سنوات إلى أن رأيتك يا حبيبي ... آه لو تعلم كم أحبك وكيف أهواك.
ثم أخذتها سنة الكرى فاستقلت على ذراعي ونامت، وكانت في نومها تستهل تارة، وتبتسم أخرى، وتصعد أنفاسها كخرير المياه الجارية في الخمائل النضيرة، وبقيت إلى نصف الليل فرأيت من الحكمة أن أوقظها، فقبلت جبهتها البيضاء الندية، فاستفاقت وسألتني عن الساعة فقلت: قد انتصف الليل، فقامت بسرعة إلى السرير ولبست أكف يديها وبرنيطتها، وتهيأت للذهاب، ثم قبلتني ومضت.
فلما رأيتني وحدي على الفراش الذي كنا عليه معا منذ دقائق انهملت الدموع من عيني، وأخذت الأفكار تنصب على رأسي كالصواعق، أما الشموع فأكثرها انطفأ والباقي كاد ينطفئ، وكانت بقايا الطعام حسنة هنا وهناك، والخلاصة أن ذهابها كان أشبه بإنزال الستار في تشخيص الروايات.
وما زلت أنتقل من فكر إلى فكر ومن خيال إلى آخر، إلى أن رف جنح الظلام، وانفتحت من الكرى عين الفجر، فقلت: أطويل يا ترى عهد غرامنا أم قصير؟ وهل تدوم على هذه الحال أم تغيرها الأقدار؟
Bog aan la aqoon