وبلغ ضيقي بنفسي حدا أوقف لساني عن الكلام؛ فقد اكتشفت فجأة أني أقف مما يحدث موقف متفرج عابث، وأني قد بعثت الرعب الأبيض الخائف في جسد الفتاة، وأنها تحيا الموقف بكل عصب من أعصابها وخلية من خلاياها، وأنا - باعث هذا وفاعله - لا أحس بأي انفعال.
تضايقت جدا لأني أفقت لنفسي فوجدتني أعبث بلورا مسكينة أوقعها سوء حظها في حجرة محب مشغول بغيرها تماما، لا مكان لها عنده إلا لإجراء تجاربه النفسية المريضة عليها.
وبكلمات قصيرة متلعثمة أنهيت الشرح بسرعة، وأحست هي أني تغيرت، وحاولت أن تتغير هي الأخرى، ولكن ملامحها وانفعالاتها لم تطاوعها، وظلت تعاني من حالة التجمد المضطرب. وتألمت؛ فقد أدركت أني بتغيري السريع آذيت شعورها وجرحتها، فأمسكت بيدها وضغطت عليها مبتسما وكأنما لأسهل عليها الأمر أو أواسيها.
وتضاعف ألمي حين وجدت أنها لم تتقبل ضغطاتي تقبلا عاديا، وأن يدها ذابت تماما في يدي وعينيها ذابتا في عيني، ولعنت نفسي آلاف المرات، وحاولت أن أغير نظرتي وأشيع البرودة والجد في يدي وأصابعي، غير أن الحنان المؤنث لم يكف عن التدفق من عينيها. وقلت لا بد مما ليس منه، وعلي أن أرغم نفسي على مجاراتها، ولكن عبثا ما حاولته. شيء ما داخل نفسي، أهم ما في نفسي، روحها ومركزها ونواتها، البذرة التي يتجمع فيها كل ما هو شخصيتي وعواطفي وأحلامي ورجولتي، هذا الشيء كلما حاولت كان يغوص كحيوان القواقع إلى قاع داخلي ليس له قرار، وكلما استجمعت قواي وركزت جهودي لأمنعه عن الغوص يزداد انكماشا ويغوص أكثر ويبتعد عن متناول يدي بسرعة مذهلة. وهناك دائما عينا سانتي ضاحكتان، ساخرتان بي، غيورتان حبيبتان جدا، تزغللان ولا أرى سواهما، حواسي كلها معها، وروحي في بريق عينيها، ولم يبق لي، لم يبق للورا الجالسة تصطك أسنانها فعلا من البرد الخفي الذي يسبق الدفء الكامل، لم يبق لي معها إلا رأس غائم مضطرب، وأفكار خجلى تحتمي بغيوم رأسي. ورغم هذا ترى لورا وترثي لها وترثي لي، وتكاد تحترق بحثا عن مهرب أو خلاص من ذلك الموقف.
وأحسست أن أفكاري هي الأخرى قد تلاشت وهجرتني، فسكت وظلت أسنان لورا تصطك برهة اصطكاكا خفيفا كالأزير المتصل، ثم توقفت وبدأت تسترد نفسها قليلا. وفجأة وجدتها تتكلم عن الفتى الأول في حياتها، وكيف طلب منها ذات يوم أن تعطيه نفسها. وبحب استطلاع سألتها إن كانت قد فعلت. وبنفس براءتها العلمية أجابتني أنها رضيت بعدما استطاع إقناعها أن لا ضرر هناك من المحاولة، وأصبحت في غاية الحرج! وسألتني إن كانت لي فتاة فقلت لها : طبعا، واحترت بماذا أجيبها لو سألتني أكثر عنها، وهل أحكي لها عن تلك الفتاة التي لم أكن أعرف إلا اسمها الأول، وظللت على علاقة بها لسنوات ثلاث تزورني بانتظام كل يوم ثلاثاء وتأتي دائما في منتصف الليل وتذهب في الفجر، ولا أعرف ماذا تعمل ولا أين تقيم، وهي أيضا لا تعرف غير اسمي الأول، وكيف تقابلنا ذات ليلة في مكان نسيته واستصحبتها في نفس الليلة إلى الشقة، ومن ليلتها ظلت تتردد بانتظام لا يختل، ترفض النقود والهدايا، وكلما حاولت سؤالها عن نفسها ابتسمت لي ابتسامتها ذات اللمعة، ابتسامة مستكينة خاضعة غير طموحة.
وكيف انقطعت فجأة، وكيف حز انقطاعها في نفسي، وكيف لم أنسها تماما حتى عرفت سانتي.
وهمت لورا أن تسألني سؤالا، ولكنها أمسكت سؤالها في آخر لحظة، ومع هذا استطعت أن أتبين السؤال، وكأنها كانت تريدني أن أذكر لها ماذا أفعل مع فتاتي تلك. أمسكت لسانها ونكست رأسها وأحسست أنها تعاني من ذبحة شعورية ذليلة مفاجئة.
ولا أدري لم وجدت نفسي أنفجر في ضحكة لا مناسبة لها بالمرة، وحين رفعت رأسها ووجدتها تبتسم من خلال ذلتها تحولت الضحكة إلى نوبة تشنج ضاحك لم أستطع إيقافها.
وأغرب شيء أني وجدتها هي الأخرى قد تخلت فجأة من كل ما تكظمه وتحس به، ومضت تقهقه، ولاحظت أنها تقهقه كالرجال؛ فدفعني هذا إلى عاصفة ضحك أخرى اقتلعتني من فوق الكنبة ومددتني على الأرض.
10
Bog aan la aqoon