وكنت مستغرقا في هذا إلى درجة لم أشعر معها بما قالته لورا ، ولا بالطريقة التي غادرت بها الشقة، كل ما أذكره أنها أشركتني للحظات طويلة - وأنا ضيق النفس فاتر الإحساس - في الكذبة التي يجب عليها أن تخترعها إذا حدث ووجدت أن والديها لم يبيتا في مصر الجديدة وعدلا عن الذهاب إلى عمتها ماتيلدا وقضيا الليلة في بيتهم، لا بد سيقلقان حينئذ قلقا عظيما، ومن المحتمل أن يقدما على ما لا تحمد عقباه.
وقلت لها لأتخلص منها: فكري أنت من ناحيتك، ودعيني أنا أفكر في كذبة مناسبة.
وهكذا شغلتها عني، ورحت مرة أخرى أحوم - غير مقاطع - حول سانتي وحول مجيئها المقبل، وأفقت مرة فلم أجد لورا بالشقة.
وأحسست براحة عظمى، واسترخيت وسعدت بوحدتي مع نفسي في الحجرة وكأنها كانت مكتظة بازدحام هائل ونجحت في التخلص منه.
وفي الوقت المحدد تماما، في صبا العصر، تلقفت أذني الدقة الطويلة نوعا، والأخرى التالية القصيرة التي تشبه النقطة في إشارات موريس.
ومع أني كنت متأكدا أنها ستجيء وواثق من هذا ثقتي أن العصر سيعقب الظهر حتما، إلا أنني فرحت للدقات وكأني كنت فاقد الأمل في مجيئها، وكأنها معجزة أن يعقب العصر الظهر.
وفتحت الباب وأنا في حالة غير عادية، ذائب في مزيج من الفرحة والحساسية الزائدة لأدق انفعالاتها وخوالجها، كأن في عقلي ألف سؤال ينتظر الإجابة، وكلها أسئلة عما حدث بالأمس، رأيها في وفي كل كلمة قلتها وكل تصرف قمت به. وكنت أعلم أني لا أستطيع أن أسألها عن شيء، وعلي أن ألتقط الإجابة من بسمة أو طريقة نطق كلمة، وربما من تسهيمة.
ودخلت سانتي وهي تحاول أن تكون عادية: إزيك؟ كويس جدا. الكلمتان العربيتان اللتان كنا نتبادلهما دائما، وهذه المرة زادت عليهما بالعربية أيضا وهي تبتسم وعيونها تلمع: إيه أخبارك؟ فقلت بالفصحى: لم يجد جديد. وأردفت بالإنجليزية: ماذا يمكن أن يكون قد حدث منذ الأمس؟ لم يحدث شيء.
وجلست وهي تنظر ناحيتي بهدوء متعمد، وفي كل مرة كانت تخرج علبة سجائرها كنت أشعر بلذة متجددة؛ فحين تعارفنا كانت تدخن سجائر أمريكية وحتى كانت لا تدخنها بكثرة ، ولكنها أخرجت علبتها - نفس ماركة سجائري - وكأنها تريني علامة من علامات تأثرها بي وانفعالها، ولم تكن السجائر هي العلامة الوحيدة، من كثرة ما تكلمنا معا وتناقشنا كنا قد تبادلنا بلا وعي كثيرا من خصائصنا، أردد بلا وعي أنا تعبير «ده موش كلام» (الذي كثيرا ما كانت تستعمله) أردد أول الأمر في تقليد ساخر للهجتها، ولكني لا ألبث أن أستعمله في حديثي العادي ويصبح جزءا من لغتي، وهي أيضا كثيرا ما ضبطتها تتعمد عوج ابتسامتها لكي تشبه ابتسامتي، ثم أصبح الاعوجاج جزءا من ابتسامتها.
أخرجت سانتي هذه المرة علبة سجائرها وتناولت سيجارة وقدمت لي واحدة، وشددت في عزومتها حتى أخذتها. ومن دخانها، والطريقة التي نفثت بها دخان سيجارتها، ودقات أصابعها على مسند الكرسي، والابتسامة الصغيرة البارزة من فمها، أدركت أنها هي الأخرى جاءت وفي عقلها ألف سؤال، وحب استطلاعها لمعرفة ما يدور في نفسي يكاد يعادل حب استطلاعي لمعرفة ما يدور في نفسها.
Bog aan la aqoon