وتركت الخالة ما كانت تهمس به لحلمي وقالت بفرحة منفجرة: والنبي؟! والنبي يا اخويا. إلهي يخليك لشبابك، إلهي يسعدك.
وفي الحال انتفضت على وجناتنا عروق. وفي الحال مضت تدق، شيئا كدق الحرب، ورحنا ننظر وقد تركزت أرواحنا في أبصارنا وامتلأت صدورنا بدفء مفاجئ. ورغم احتجاجات الريس وصرخاته وتمايلات القارب وقفنا جميعا، وتكاتفنا لنتساند ونتأمل الغمامة الرمادية البعيدة ذات الأضواء. كانت رهيبة كئيبة كناموسية غامقة مسدلة على مجروح. مستحيل أن تكون ناموسية مسدلة على مجروح. لا بد هناك أناس مصريون. لا يمكن أن يكونوا قد ماتوا كلهم أبدا .. أبدا.
انفعالات تفور وتنسكب، والرمادية تختفي لتأخذ مكانها سمرة، أرض سمراء أوسع من السماء. والغمام ينقشع ويبدو وجه الشمس، أجمل شمس، على ضوئها تبدو ملايين السحنات التي رأيناها طوال الطريق وكأنها وجه عملاق كبير مصنوع من ملايين الوجوه، وعلى رأسه مليون طاقية، ومليون عمامة ولاسة وكوفية. والعدو أيضا هناك، وراء الغمام، عدو بشع كثير ونحن - القادمين - قبضة. لماذا لا يأتي كل الناس؟ لماذا لا يتحرك العملاق كله وينقض حتى يتحرك العملاق؟
وأقوى من أي انفعال وأعظم كان شغفنا الخارق أن تنتهي المسافة، ونصل إلى هناك، ونزيح لفافات الغمام لنرى ما تخفيه.
وفطنا بعد وقت إلى أن الريس يتكلم ويقول: لغاية هنا وما اقدرشي أتنقل ولا خطوة. الشط مليان مدافع ودواهي. إنتم بقى تتوكلوا على الله من الناحيادي. البحيرة مش غريقة. دي لحد الركبة بس. تخوضوا من هنا على طول حتطلعوا جنب التربة. الصراحة كويسة وبذمتي وديني لو كنت أقدر أوديكو هناك كنت وديتكو إنما العين بصيرة واليد زي ما انتوا عارفين .. اتوكلوا على الله.
ووقفنا برهة. تلك البرهة التي تسبق العمل الخطير. الشاطئ أمامنا هادئ هدوءا مريبا كهدوء البركان قبل اندلاعه. والغمام كثيف يحجب كل شيء .. والخط الممتد لا بد كله فوهات بنادق ومدافع. والسماء كأنها تدوي بأزيز العشرات من قاذفات القنابل. بل سمعنا بآذاننا طلقات الرصاص .. بعيدة ولها أنين.
وقفنا برهة وترددنا. تلك هي اللحظة الحاسمة. اللحظة التي ادخرها كل منا ليختبر نفسه وشجاعته. هناك حيث كنا نعيش لم يكن أحد يستطيع أن يميز بين الجبان وبين الشجاع. فكلاهما متاح له أن يعيش. حتى الشخص نفسه لا يستطيع أن يدرك معدنه. في لحظة كتلك يعرف الإنسان نفسه. واللحظة حادة وفاصلة، وقلوبنا تدق. والريس طوى القلع. وأرجلنا مثبتة على حافة القارب. وعيوننا ترقب الشاطئ. وأجسادنا متقاربة. ونظرات مختلسة يصوبها الواحد إلى نفسه والواحد إلى جاره. والبرد قد اشتد فجأة ولم نعد ندري أهو صادر من البحيرة، أم من أعماقنا، والسماء تبهت وتبهت. وطيور النورس تنقض على سطح الماء ثم تعود وترتفع وفي منقارها سمكة. وتكاكي وتتقاتل. والصوت الذي تحدثه هو الوحيد الذي يسمع.
وقطعت اللحظة تمتمة الريس: أما ولية غريبة. طب تقول كتر خيرك.
ثم ارتفع صوته أكثر: مش من هنا يا ست .. خدي يمينك شوية لحسن الحتة اللي قدامك غريقة.
وأدركنا أن الخالة غادرتنا ومضت دون أن تفتح فمها بكلمة. وكادت تصبح على مرمى البصر، تخوض الماء، وتتمايل، وتتوقف برهات، ولكنها لا تتلفت، ولا تكف.
Bog aan la aqoon