Basic Introductions to the Sciences of the Quran

Abdullah Al-Judai d. Unknown

Basic Introductions to the Sciences of the Quran

المقدمات الأساسية في علوم القرآن

Daabacaha

مركز البحوث الإسلامية ليدز

Lambarka Daabacaadda

الأولى

Sanadka Daabacaadda

١٤٢٢ هـ - ٢٠٠١ م

Goobta Daabacaadda

بريطانيا

Noocyada

[مقدمة] بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله ربّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا. أمّا بعد .. فإنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ﷺ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النّار. لقد كانت الرّغبة لديّ في تحرير مقدّمات مهمّة تتّصل بالكتاب العزيز قديمة، وذلك على سبيل المشاركة في تقريب العلوم الأساسيّة لفهم الكتاب والسّنّة، دون بخس لما سبق به أهل العلم في هذا الباب، ولكن بمنهج محرّر يجمع بين صحيح النّقل وصريح العقل دون تكلّف، مجانب الاستدلال بالضّعيف من الأخبار، غير جار على المعتاد من التّقليد لا في المضمون ولا في الأسلوب، إذ لو كنّا مجرّد نقلة لكان الإبقاء على مؤلّفات الأقدمين أولى من تكلّف التّصنيف. وعلوم القرآن أولى وأوّل ما يشمّر له أصحاب الهمم العالية، إذ هي مفاتيح سائر علوم الإسلام، ولا يحسن بالطّالب أن يقدّم عليها سواها

1 / 5

فيشتغل بحديث أو فقه أو غير ذلك، ولمّا يأخذ من علم القرآن قاعدته، وإنّي لأعجب من منتسب للعلم قد ذهب حظّه من علوم الكتاب، واقتصر سعيه على طرف من فتات المسائل، فاستبدل الّذي هو أدنى بالّذي هو خير، وأسوأ منه حالا من تدنّى تحصيله من ذلك إلى قدر لا يحسن معه تلاوة القرآن وهو يتصدّى لعظام الأمور! وحيث لا يخفى أنّ علوم القرآن بمعناها العامّ لا حصر لها بأنواع معيّنة، فهو الكتاب الّذي قال الله تعالى فيه: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: ٨٩]، فإنّ الكلام فيها إنّما هو من حيث النّظر إلى معرفة مقدّمات أساسيّة ينبغي الإلمام بها لكلّ راغب في دراسة هذا الكتاب العزيز، توضّح مزاياه، وتحقّق إسناده، وتهدي إلى معرفته وفهمه. ومن خلال الدّراسة تحصّل لي أنّ البحث في ذلك يتناول معرفة المقدّمات السّتّ التّالية: المقدّمة الأولى: نزول القرآن. المقدّمة الثّانية: حفظ القرآن. المقدّمة الثّالثة: نقل القرآن. المقدّمة الرّابعة: النّسخ في القرآن. المقدّمة الخامسة: تفسير القرآن. المقدّمة السّادسة: أحكام قراءة القرآن.

1 / 6

وربّما أدرجت مباحث أخرى في جملة (علوم القرآن) كالكلام على خصائصه وأسلوبه اللّغويّ، وأسلوب القصّة فيه، وقوانين الجدل والمناظرة، وطريقة وأنواع الأحكام فيه، وشبه ذلك، ممّا ينقسم إجمالا إلى ثلاثة أقسام: أوّلها: مباحث تتّصل بإبراز الإعجاز في القرآن، وهذا ليس علما تطبيقيّا من علوم القرآن، وقد قدّمت بالتّنبيه على أهمّه، والمقصود الاعتناء بالعلوم التأصيليّة العامّة الّتي سمّيتها ب (المقدّمات) لتكون قاعدة لغيرها، لا بالإنشائيّات الأدبيّة. وثانيها: مباحث تندرج تحت علم التّفسير، والّذي يعنينا هنا هو ذكر مقدّمة تحتوي على أصول عامّة في هذا الفنّ العظيم، فالقصّة القرآنيّة والمثل في القرآن مثلا ممّا يعرف من تفاصيل ذلك الفنّ، ولا ينبغي إدراجه تحت المقدّمات في علوم القرآن. وثالثها: ما يتّصل بمباحث الأحكام، فمحلّه تأصيلا علم (أصول الفقه)، وتفريعا (الفقه)، وأخذه من هناك أولى، خصوصا وأنّ السّنّة تشارك القرآن في ذلك من كلّ وجه، إذ طبيعة الأحكام فيهما واحدة. واستثنيت من ذلك (موضوع النّسخ) فجعلته إحدى هذه (المقدّمات)، مع مشاركة السّنّة للقرآن فيه، وذلك لما له من الصّلة بسلامة القرآن. كذلك، ليس من مباحث علوم القرآن المحضة: علم النّحو، وعلم

1 / 7

الصّرف، وعلوم البلاغة، وإن اتّصلت به أو كان السّبب في وضعها وإنشائها؛ لأنّها صارت قوانين لعموم لغة العرب، واعتنى النّاس بها على سبيل الاستقلال لهذه العلّة، فأغنت أبحاثها الخاصّة عن إقحامها في علوم القرآن المحضة. فهذا الكتاب قد أتيت فيه على تحرير تلك المقدّمات، مع التّقديم بين يديها بتمهيد لبيان الاعتقاد في القرآن وأسمائه وتعريف السّورة والآية، ولبيان ما يعود إليه إعجازه. والله ﵎ أسأل أن يتقبّل هذا الجهد منّي، وأن يرفعني به ووالديّ وأهل بيتي، ومن بذل جهدا في مراجعته، ومن كان سببا في نشره، إلى منازل أوليائه المقرّبين، وأن ينفع به جميع من وقف عليه، هو وليّ ذلك والقادر عليه، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم. وكتب أبو محمّد عبد الله بن يوسف الجديع في محرّم الحرام ١٤٢٢ هـ ***

1 / 8

تمهيد القرآن وإعجازه تعريف القرآن: القرآن في لغة العرب: مصدر كالقراءة، ومعناه الجمع، وسمّي القرآن الّذي أنزل الله على محمّد ﷺ قرآنا؛ لأنّه يجمع السّور ويضمّها (١). وهو اسم للكتاب العربي المنزل على محمّد ﷺ والمكتوب في المصاحف، المبتدأ بالبسملة فسورة الفاتحة، والمختتم بسورة النّاس. وهو ذاته المكتوب في اللّوح المحفوظ، كما قال الله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ٢١ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ٢٢ [البروج: ٢١ - ٢٢]، وفي الكتاب المكنون، كما قال تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ٧٩ [الواقعة: ٧٧ - ٧٩]، وفي الصّحف المكرّمة، كما قال الله ﷿: كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ ١٦ [عبس: ١١ - ١٦]. وهو غير التّوراة الّتي أنزل الله على موسى، وغير الإنجيل الّذي أنزل على عيسى.

(١) هذا التّعريف أصحّ ممّا اختاره الشّافعيّ ﵀، أنّ (القران) اسم جامد، كالتّوراة والإنجيل، وكان لا يهمزه، على قراءة ابن كثير المكّيّ. انظر: مناقب الشافعيّ، للبيهقيّ (١/ ٢٧٦ - ٢٧٧)، والأسماء والصّفات، للبيهقيّ كذلك (٢/ ٢٧ - ٢٨).

1 / 9

وهو جميعه بسوره وآياته وكلماته كلام الله تعالى، تكلّم به، أسمعه لرسوله جبريل ﵇، فنزل به جبريل مبلّغا إيّاه كما سمعه لرسول الله محمّد ﷺ، كما قال الله ﷿: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [النحل: ١٠٢]، وقال: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ ١٩٢ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ١٩٤ [الشّعراء: ١٩٢ - ١٩٤]. فبلّغه محمّد ﷺ كما أنزل عليه ما كتم منه حرفا، وبلّغه أصحابه للأمّة من بعده ما كتموا منه حرفا، وهو بأيدي النّاس في المصاحف مسطور، وفي قلوب الحفّاظ محفوظ، تعهّد الله تعالى بحفظه فما يقدر على تبديل شيء منه أحد حتّى يرفع من الصّدور والسّطور بإذنه تعالى. كما قال الله ﷿: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا (٨٦) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا [الإسراء: ٨٦ - ٨٧]، فدلّ على أنّ القرآن يمكن أن يرفعه الله بقدرته إن شاء. وقد صحّ من حديثي حذيفة بن اليمان وأبي هريرة، رضي الله عنهما، عن النّبيّ ﷺ قال: «ليسرى على كتاب الله ﷿ في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية» (١).

(١) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (رقم: ٤٠٤٩) والحاكم في «المستدرك» (رقم: ٨٤٦٠) من طريق أبي معاوية الضّرير، عن أبي مالك الأشجعيّ، عن ربعيّ بن حراش، عن حذيفة بن اليمان، قال: قال رسول الله ﷺ: «يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثّوب، حتّى لا يدرى ما صيام ولا صلاة، ولا نسك ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله ﷿ في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من النّاس: الشّيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلّا الله، فنحن نقولها». قلت: إسناده صحيح، وقال الحاكم: «حديث صحيح على شرط مسلم»، وقال البوصيريّ في «زوائد ابن ماجة» (٣/ ٢٥٤): «هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات». وأمّا من حديث أبي هريرة؛ فأخرجه ابن حبّان في «صحيحه» (رقم: ٦٨٥٣) من طريق عليّ بن مسهر عن سعد بن طارق (وهو أبو مالك الأشجعيّ) عن أبي حازم، عن أبي هريرة، عن النّبيّ ﷺ، وفيه الجملة المذكورة. وإسناده صالح. ورواه فضيل بن سليمان عن أبي مالك الأشجعيّ عن ربعيّ عن حذيفة، وعن أبي حازم عن أبي هريرة، قالا: قال رسول الله ﷺ: «يسرى على كتاب الله ليلا، فيصبّح النّاس ليس في الأرض ولا جوف مسلم منه آية». أخرجه الضّياء المقدسيّ في «اختصاص القرآن بعوده إلى الرحيم الرّحمن» (رقم: ١٧) والدّيلميّ في «مسند الفردوس» (٤/ ١٦٧/ ب- زهر) وإسناده صحيح. فبيّنت هذه الرّواية أنّ أبا مالك حفظ الحديث عن حذيفة وأبي هريرة جميعا. ورواه بعضهم موقوفا على حذيفة وأبي هريرة، والرّفع أصحّ، على أنّ مثل هذا لا يقال من قبل الرّأي، فله حكم الرّفع.

1 / 10

وهو مضاف إلى الله تعالى إضافة صفة لا إضافة خلق، هذا اعتقاد أهل السّنّة والجماعة، وهو الّذي دلّت عليه البراهين النّقليّة والعقليّة (١). و(القرآن) اسم لجميع الكتاب المنزل.

(١) هذه الجملة بيان للاعتقاد في القرآن العظيم، وتفصيلها في كتابي «العقيدة السلفية في كلام ربّ البريّة».

1 / 11

كما أنّ الجزء منه كآية أو نحوها يسمّى (قرآنا) أيضا، كما قال تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ٢٠٤ [الأعراف: ٢٠٤]، وهذا مراد به بعض القرآن. أسماء القرآن: سمّى الله تعالى القرآن العظيم بأسماء، ونعته بنعوت، فمن أسمائه: ١ - الكتاب، كما قال تعالى ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: ٢]. ٢ - كلام الله، كما قال تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التّوبة: ٦]. ٣ - الفرقان، كما قال ﷿: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ [الفرقان: ١]. ٤ - الذّكر، كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ٩ [الحجر: ٩]. ٥ - المصحف، وهي تسمية ظهرت بعد أن جمع القرآن في عهد الصّدّيق، كما سيأتي شرحه، ولم يثبت حديث مرفوع إلى النّبيّ ﷺ من قوله في إطلاق هذه التّسمية على القرآن المجموع فيما بين الدّفّتين؛ لأنّه لم يكن في عهده بين دفّتين على هيئة المصحف.

1 / 12

وتسمية (المصحف) جاءت من الصّحف الّتي جمع بعضها إلى بعض فأصبحت على هيئة الكتاب. وأمّا ما ذكر الله ﷿ من نعوت كلامه المنزل على محمّد ﷺ فكثير، فهو: هدى، وشفاء، ورحمة، وموعظة، وذكرى، وبشرى، ونذير، وبيان، وروح، ونور، ومبين، ومفصّل، ومبارك، وبصائر، وكريم، وعليّ، وحكيم، وعزيز، ومجيد، وقيّم، وأحسن الحديث، وغير ذلك من الصّفات الدّالّة على عظمته ومنزلته ورفيع قدره ممّا اقترن بذكره أو عند الإشارة إليه في كتاب الله تعالى وسنّة نبيّه ﷺ. تعريف السورة والآية: السّورة، قيل في معناها أقوال أعدلها ما يأتي: الأوّل: يقال (سورة) للمنزلة من البناء، فسمّيت (السّورة) من القرآن بذلك؛ لأنّها منزلة بعد منزلة، مقطوعة عن الأخرى، أو لأنّها درجة إلى غيرها. والثّاني: الشّرف والمنزلة، ومنه قول النّابغة: ألم تر أنّ الله أعطاك سورة ... ترى كلّ ملك دونها يتذبذب فسمّيت (السّورة) من القرآن بذلك لشرفها ومنزلتها.

1 / 13

والثّالث: أصلها (سؤرة) وهي بقيّة الشّيء، ترك الهمز فيها تسهيلا لكثرتها في الكلام والقرآن، وعليه تكون (السّورة) بمعنى القطعة من القرآن (١). والآية: العلامة، وسمّيت (الآية) من القرآن بذلك- فيما قيل- لأنّها علامة لانقطاع كلام من كلام، أو لأنّها بمنزلة أعلام الطّريق المنصوبة للاهتداء بها (٢). وكذلك (الآية) الجماعة في قول بعض أهل العربيّة، وعليه فسمّيت (الآية) من القرآن بذلك لأنّها جماعة حروف (٣). القرآن المعجزة الباقية: إعجاز القرآن: إثباته عجز البشر عن الإتيان بمثله أو بمثل بعضه، في ألفاظه ومعانيه. وهذه الخصوصيّة جعلت القرآن أعظم الأدلّة على صدق النّبيّ ﷺ في رسالته، والحجّة الباقية على النّاس إلى أن تقوم السّاعة.

(١) لسان العرب، مادة: سور (٤/ ٣٨٦ - ٣٨٧). (٢) لسان العرب، مادة: أيا (١٤/ ٦٢). (٣) معجم مقاييس اللّغة، لابن فارس (١/ ١٦٨ - ١٦٩)، الصّحاح، للجوهري (٦/ ٢٢٧٦).

1 / 14

قال الله ﷿: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ٥١ [العنكبوت: ٥٠ - ٥١]. وعن أبي هريرة، ﵁، قال: قال النّبيّ ﷺ: «ما من الأنبياء نبيّ إلّا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنّما كان الّذي أوتيت وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» (١). وقد كان الله ﷿ يجري على أيدي رسله وأنبيائه ويسوق لهم من البراهين ما يدلّ على صدقهم أنّهم مبعوثون من عند الله، ممّا لا يقع مثله في العادة لغيرهم من البشر، وهو معجزاتهم، كعصا موسى، وإحياء عيسى للموتى، والإسراء والمعراج لنبيّنا ﷺ، لكنّ تلك المعجزات كانت أدلّة لمن شهدها، ونصيب من لم يشهدها إنّما هو الخبر الواجب التّصديق، بخلاف القرآن، فإنّه المعجزة الباقية، الّتي لم تزل حيّة بين النّاس، لم يتبدّل ولم يتغيّر، ولن يكون ذلك في يوم من الدّهر. تحدّى الله ﷿ أرباب الفصاحة والبيان، بل جميع بني الإنسان، بل حتّى لو ظاهرهم عليه الجانّ، ولم يزل يتحدّى: أن يأتوا بمثل هذا القرآن،

(١) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: ٤٦٩٦، ٦٨٤٦) ومسلم (رقم: ١٥٢).

1 / 15

أو بمثل بعضه، فما فعلوا، ولن يفعلوا. كما قال جلّ وعلا: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ٨٨ [الإسراء: ٨٨]، وقال ﷿: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ [هود: ١٣ - ١٤]، وقال سبحانه: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [البقرة: ٢٣ - ٢٤]. تحدّاهم بأن يأتوا بأقصر سورة من مثله، على مثاله في النّظم والتّأليف والإحكام، وفي المعاني والدّلالات والأحكام، فعجزوا عن معارضته في كلّ ذلك، عن مماثلته بعباراتهم، أو مجاراته ببيانهم، أو مسابقته بقوانينهم وشرائعهم. ذلك؛ لأنّه كلام ربّ العالمين ﵎، وكلامه سبحانه من صفاته، وهو الّذي لا مثل له في ذاته ولا في صفاته، كما قال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشّورى: ١١]، فكما لا مثل له في سمعه، ولا مثل له في بصره، ولا مثل له في سائر صفاته، فكذلك لا مثل له في كلامه.

1 / 16

فهذه- والله- هي العلّة الّتي فارق بها كلامه سائر الكلام، وعجز لأجله الخلق عن معارضته، فليس كشعرهم ولا كنثرهم، ولا كقوانينهم وشرائعهم، مع أن حروفه من حروف كلامهم، ومفرداته من مفردات قاموسهم، فلم يجدوا له في ألسنتهم مع الفصاحة، ولا في عقولهم مع الرّجاحة، ما يمكنهم به أن يأتوا بمثل أقصر سورة منه، فقد أبت قوانين الشّعر وأساليب النّثر ولوائح الأنظمة أن يقايس بها ويجري عليها. وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ... [يونس: ٣٧ - ٣٩]. وعن أبي ذرّ الغفاريّ، ﵁، قال: خرجنا من قومنا غفار، وكانوا يحلّون الشّهر الحرام، فخرجت أنا وأخي أنيس وأمّنا، (فذكر قصّة إسلامه)، وفيها قال أبو ذرّ: فقال أنيس: إنّ لي حاجة بمكّة فاكفني، فانطلق أنيس حتّى أتى مكّة، فراث (١) عليّ ثمّ جاء، فقلت: ما صنعت؟ قال: لقيت رجلا بمكّة على دينك، يزعم أنّ الله أرسله، قلت: فما يقول النّاس؟ قال: يقولون: شاعر، كاهن، ساحر، وكان أنيس أحد الشّعراء، قال أنيس: لقد سمعت قول

(١) فراث: أي أبطأ.

1 / 17

الكهنة، فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء (١) الشّعر، فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنّه شعر، والله إنّه لصادق، وإنّهم لكاذبون (٢). أنواع الإعجاز في القرآن: يعسر أن تحدّ وجوه الإعجاز في القرآن العظيم، فكلّ شيء منه لا نظير له، فهو باهر في ألفاظه وأسلوبه، في تأليفه ونظمه، في بيانه وبلاغته، في تشريعه وحكمه الّتي حيّرت الألباب، في أنبائه وأخباره، في تاريخه وحفظه، في علومه الّتي لا تنقطع ولا تقف عند غاية. وقد أجمل وصفه وأحسنه من قال: «فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبّار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذّكر الحكيم، وهو الصّراط المستقيم، هو الّذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة (٣)، ولا يشبع منه العلماء،

(١) أقراء الشّعر: طرقه وأنواعه وأوزانه وقوافيه. (٢) حديث صحيح. أخرجه مسلم في «صحيحه» (رقم: ٢٤٧٣). (٣) هذا وصف عجيب، وسمة خاصّة لهذا القرآن العظيم، فإنّه تتلوه ألسنة لم تفتق بالعربيّة، بل ربّما تعسّر عليها قراءة سواه من الكلام العربيّ، أمّا هو فتنطلق به الألسنة مع عجمتها، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ، وهذا رأيناه وشهدناه.

1 / 18

ولا يخلق على كثرة الرّدّ (١)، ولا تنقضي عجائبه، هو الّذي لم تنته الجنّ إذ سمعته حتّى قالوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ [الجنّ: ١ - ٢]، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم» (٢). والتّنبيه هاهنا على أربعة أنواع للإعجاز القرآني: النّوع الأوّل: الإعجاز اللّغويّ: هذا النّوع هو أبرز ما تحدّى به القرآن العرب في حياة النّبيّ ﷺ، وهو التّحدّي في أبرز خصائصهم، فمع أنّه بلسانهم، وأتى بما لا يخرج عن وجوه فصاحتهم وأساليب بيانهم، وهم يومئذ في الذّروة في ذلك نثرا ونظما،

(١) أي لا يأتي عليه التكرار بذهاب لذّته، بل هو في كل مرّة جديد، مهما تكرّرت تلاوته، وليس كذلك سائر الكلام. (٢) روي هذا حديثا مرفوعا إلى النّبيّ ﷺ، ولا يصحّ. فأخرجه ابن أبي شيبة (١٠/ ٤٨٢) وأحمد (رقم: ٧٠٤) والدّارمي (رقم: ٣٢١١) والتّرمذيّ (رقم: ٢٩٠٦) والنّسائيّ في «مسند عليّ» - كما في «تهذيب الكمال» (٣٤/ ٢٦٧) - وغيرهم، من طريق الحارث بن عبد الله الأعور، عن عليّ بن أبي طالب، به. قال التّرمذيّ: «إسناده مجهول، وفي الحارث مقال». قلت: التّحقيق أنّ علّته ضعف الحارث، وما أشار إليه التّرمذيّ من الجهالة زائل أثرها بالمتابعة، والأشبه أن يكون هذا من كلام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، أخطأ الحارث في رفعه.

1 / 19

لكنّهم عجزوا عن معارضته ولو بسورة من مثله، فصاروا يتخبّطون، فتارة يقولون: (هو شعر)، وتارة: (قول كاهن)، وتارة: (أساطير الأوّلين)، لا يثبتون على شيء؛ لأنّهم يعلمون أنّه ليس كما يقولون، وما كان لهم ليغفلوا عن صفة الشّعر ولا صيغة النّثر، وهم أهل ذلك وعباقرته، وإنّما شأنهم شأن من قال الله فيهم: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النّمل: ١٣ - ١٤]. وهكذا قال أولئك المشركون عن القرآن: هذا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأحقاف: ٧]، وقالوا: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْمًا وَزُورًا (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٥) [الفرقان: ٤ - ٥]، وقالوا: أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ [الأنبياء: ٥]. فهو سبيل من سبق، وحجّة من لا برهان له، كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ٥٢ [الذّاريات: ٥٢]، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [فصّلت: ٤١ - ٤٣]. أعيتهم الحيل، وضاقت بهم السّبل، فلجئوا إلى وصف القرآن بما لا يشكّون لو أنصفوا أنّهم فيه مبطلون، لكن أعمتهم الأهواء فأنّى يبصرون.

1 / 20

فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ ٣٤ [الطّور: ٢٩ - ٣٤]. ويبقى القرآن يتحدّى ولا يرجع الكفّار جوابا، فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ١٤ [هود: ١٤]، وأنّى لهم الجواب، والله يقول وهو أعلم بهم: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة: ٢٤]. قال الأديب الرّافعيّ: «فقطع أنّهم لن يفعلوا، وهي كلمة يستحيل أن تكون إلّا من الله، ولا يقولها عربيّ في العرب أبدا، وقد سمعوها واستقرّت فيهم ودارت على الألسنة، وعرفوا أنّها تنفي عنهم الدّهر نفيا، وتعجزهم آخر الأبد، فما فعلوا ولا طمعوا أن يفعلوا، وطارت الآية بعجزهم وأسجلته عليهم ووسمتهم على ألسنتهم، فلمّا رأوا هممهم لا تسمو إلى ذلك، ولا تقارب المطمعة فيه، وقد انقطعت بهم كلّ سبيل إلى المعارضة، بذلوا له السّيف، وانصرفوا عن توهّن حجّته إلى تهوينها على أنفسهم بكلام من الكلام، فقالوا: ساحر، وشاعر، ومجنون، ورجل يكتتب أساطير الأوّلين، وإنّما يعلّمه بشر، وأمثال ذلك، ممّا أخذت به الحجّة عليهم، وكان إقرارا منهم بالعجز، إذ جنحوا فيه إلى سياسة الطّباع والعادات» (١).

(١) إعجاز القرآن، لأديب الإسلام مصطفى صادق الرّافعي (ص: ١٧٠).

1 / 21

وإنّما حالهم كما قال الله ﷿: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا [الفرقان: ٩]. ثمّ إنّ هذا القرآن قد اشتمل من القاموس العربيّ على أحسن الكلمات وأفصحها، اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزّمر: ٢٣]، أمّا في تركيب جمله، وتناسق عباراته، ومقاطع آياته، فهو الفرد الّذي لا نظير له. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ٣ [فصّلت: ٣]، وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ٢٧ قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ٢٨ [الزّمر: ٢٨]. فكم ترى يكون في الكلام من المعاني أو البيان أو البديع، فإنّ القرآن في ذروة ذلك، بل به عرف كلّ ذلك، فما وضعت علوم البلاغة إلّا بسببه، طريقا إلى فهمه، وإبرازا لعظيم قدره، وتأصيلا ليبنى سائر الكلام على قاعدته ونهجه. وأهل التّفسير في القديم والحديث يراعون هذه الخصوصيّة للقرآن، فلم يتكلّم أحد في تفسير هذا الكتاب وبيان دلائله ومعانيه من لدن أصحاب النّبيّ ﷺ وإلى اليوم إلّا وهو يراعي الجوانب البلاغيّة فيه، وأسرار ذلك لا تنتهي، ولن تنتهي. وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النّساء: ٨٢].

1 / 22

النّوع الثّاني: الإعجاز الإخباريّ: وهذا هو الإعجاز فيما تضمّنه القرآن من الأنباء، وهو أربعة أشياء: أوّلها: الإخبار عن الغيب المطلق، كالخبر عن الله ﷿ وأسمائه وصفاته، والملائكة، وصفة الجنّة وصفة النّار. وقد أتى القرآن في هذا الأمر بما لا يدركه بشر من تلقاء نفسه، إذ طريقه لا يكون من جهة العقول، إنّما طريقه السّمع الّذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصّلت: ٤٢]. وثانيها: الإخبار عن الأمور السّابقة، كالخبر عن بدء الخلق، وعن الأمم السّالفة. وقد قصّ علينا القرآن من ذلك عجبا، وأتى من الأنباء بما لم يملك المنصفون من أهل الكتاب والعلم إلّا تصديقه، كما قال الله ﷿: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [الأنعام: ١١٤]، وقال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ [الأحقاف: ١٠]، وقال سبحانه: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ ١٩٧ [الشّعراء: ١٩٢ - ١٩٧]. فجاء ما آتاه الله من ذلك تصديقا لما بين يديه، وما تعلّم من أحد من

1 / 23

إنس ولا جنّ، وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت: ٤٨]. وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشّورى: ٥٢]. إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ [يوسف: ٢ - ٣]. فقصّ الله سبحانه قصّة نوح، ثمّ قال لنبيّه ﷺ: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا [هود: ٤٩]. وفصّل قصّة يوسف، ثمّ قال: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ [يوسف: ١٠٢]. وقصّ طرفا من نبأ موسى، ثمّ قال: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُونًا فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [القصص: ٤٤ - ٤٦]. وقال بعد ذكر قصّة مريم: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ

1 / 24