* بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواجب الوجود بالذات ، الواحد من جميع الجهات ، الذي تكون صفاته الذاتية عين الذات ، الذي أنشأ بقدرته سلسلة الممكنات ، وخلق الهواء وأجرى الماء ورمى بالرياح زبده في الهواء لحصول سبع سماوات ، وخلق آدم وحواء واصطفى من ولدهما أنبياء وأوصياء مع المعجزات الباهرات ، ولا تغيب عنه ذاته ، فهو عالم بذاته بالذات ، وأحكم الأشياء ، فهو عالم بجميع الجزئيات ، ويدل على إرادته تخصيص بعضها ببعض الأوقات ، وبعث الرسل لإتمام الغرض بالطاعات.
والصلاة والسلام على المبعوث لتقوية العقول وشفيع العرصات لنجاة أمته عن النار ودخول الجنات ، محمد وآله الذين هم سادة السادات.
أما بعد ، فيقول خادم بساتين المذهب الجعفري من مذاهب الشرع المحمدي ، محمد جعفر الأسترآبادي : إن معرفة أصول الدين على وفق أصول المذهب الجعفري واجبة عينا على جميع المكلفين بمقدار قدرتهم ولو بالدليل السكوتي ، كما يجب تحصيل البصيرة فيها بالدليل الإسكاتي كفاية على البعض ؛ لدفع شبه المبطلين وتشكيك المضلين والضالين وحيرتهم.
والعلم الباحث عنها وهو علم الكلام أشرف العلوم الدينية وأعظم المطالب الشرعية ، مع رشاقة مسائله ووثاقة دلائله وعظم منافعه ، سيما إذا كان على وجه المطابقة التامة للعقل والنقل.
Bogga 63
وقد كان كتاب التجريد من مصنفات خاتم المحققين ، أفضل الحكماء والمتكلمين ، سلطان العالمين في العالمين ، نصير الملة والدين ، محمد بن محمد الطوسي أعلى الله مقامه في عليين كتابا ممتازا من بين الكتب المؤلفة في هذا الفن ؛ لاحتوائه على ما خلت عنه زبر السابقين ، واشتماله على ما لم تشتمل عليه صحائف الآخرين ، مع جودة ترتيب المسائل ، ووجازة الدلائل ، وغاية تجريد الفوائد ، ونهاية تهذيب الأصول والعقائد.
وقد ارتكب الشراح في شرحه التطويل والإطناب في المبادي ، والإيجاز في بيان أحوال المبدأ والمعاد مع أنه المقصود الأصلي.
أردت أن أشرحه على عكس طريقتهم ، سالكا في شرح المقدمة مسلك العلامة مع كونه في شرح ذي المقدمة شرحا جامعا للأدلة العقلية والنقلية مع التميز بين أصول الدين وأصول المذهب وبيان ما يترتب عليهما من أحكام الدنيا والآخرة.
وأردت أن أسميه بعد أن أتممه ب « البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة » فإنه الكلمة العليا الجامعة.
Bogga 64
** [ المقدمة ]
ولا بد قبل الشروع في المقصود من تقديم مقدمة نافعة مشتملة على أمور خمسة :
** [ الأمر ] الأول
اعلم أن العلم الباحث عن أحوال المبدأ والمعاد إما أن يكون بحثه على قانون العقل من غير ملاحظة كونه مطابقا للنقل ، أو على قانون العقل المطابق للنقل.
وكل منهما إما أن يكون بطريق النظر والفكر ، أو بطريق الكشف والرياضة.
والأول هو حكمة المشاء ، والثاني من الأول هو حكمة الإشراق ، والأول من الثاني هو علم الكلام ، والثاني من الثاني هو علم التصوف.
وكون علم التصوف أو نحوه باحثا عن أحوال المبدأ والمعاد لا يستلزم حقيته ؛ لأن البحث قد يكون على وجه فاسد وإن كان اعتقاد الباحث أنه بحث على قانون العقل المطابق للنقل العرفي أو الذوقي. ولو سلم فلا يلزم حقية جميع المذاهب كمذاهب علماء الكلام.
وبالجملة ، فعلم الكلام علم باحث عن أحوال المبدأ والمعاد على قانون العقل المطابق للنقل بطريق النظر والفكر.
ويسمى علم الكلام ؛ لكونه سببا للقدرة على الكلام في الأحوال المذكورة التي هي أهم المقاصد حتى كأنه لا كلام غيره ، أو لأن مباحثه كانت مصدرة بقولهم :
Bogga 65
« الكلام في كذا وكذا » ، أو لأن أشهر الاختلافات فيه كانت في مسألة كلام الله أنه حادث أو قديم؟ أو لأنه كثر الكلام فيه مع المخالفين والرد عليهم ما لا يكثر في غيره.
وأحوال المبدأ شاملة لأصول أربعة : التوحيد والعدل والنبوة والإمامة ؛ لأن المبدأ بالاختيار بعد ملاحظة وجوبه بالذات الموجب لكماله ذاتا وفعلا المراد من التوحيد والعدل لا بد أن يكون فعله لغرض عائد إلى العباد ، وهو لا يتم إلا بالقابلية الحاصلة بالطاعة الموقوفة على المعرفة الموقوفة غالبا على النبوة والإمامة.
ويمكن اندراج أحوال النبوة والإمامة في المعاد ؛ لأنه عبارة عن عود الأرواح إلى الأجساد للحساب والثواب والعقاب ، ولا يكون ذلك إلا بالطاعة والمعصية الموقوفتين على التكليف الموقوف على النبي والإمام.
وحكي عن صاحب المواقف أنه عرف علم الكلام بأنه « علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه » (1) بمعنى أنه مسائل أو ملكة يحصل بها الاقتدار التام ، كما يفهم من صيغة الافتعال ، الذي يكون مصاحبا لهذا العلم على الدوام ، كما يفهم من إطلاق المعية المحترز بها عن السببية الحقيقية المستفادة من كلمة « الباء » ردا على الأشعري ، ويكون متعلقا بإثبات الأحكام الأصلية الاعتقادية الصرفة المأخوذة من الشريعة كما يفهم من الإطلاق ، ويكون بإيراد الحجج ودفع الشبه ولو بزعم المستدل لغيره أو مطلقا ، فيخرج علم الميزان الذي يستنبط منه صورة الدليل ، وعلم الجدل الذي يتوصل به إلى حفظ أي وضع يراد من غير اقتدار تام واختصاص بالعقائد.
وكذا يخرج علم النبي صلى الله عليه وآلهوسلم والأئمة ، بل علم الله والملائكة ؛ لعدم كونه على الوجه المذكور.
Bogga 66
وكذا علم المقلد إن كان علما ، وكذا علم الفقه المدون لحفظ الأحكام العملية التي يكون المقصود بالذات منها العمل وإن كان الاعتقاد بها أيضا مقصودا ، مع أنه راجع إلى الاعتقاد بالنبي صلى الله عليه وآلهوسلم من جهة أنها مما جاء به.
ودخل علم الصحابة وإن كان في ذلك الزمان غير مسمى بالكلام ، كما لم يسم علمهم بالفرعيات فقها.
وقد يعرف ب « أنه العلم بالقواعد الشرعية الاعتقادية المكتسبة عن أدلتها اليقينية » (1).
وقد يعرف ب « أنه صناعة نظرية يقتدر بها على إثبات العقائد الدينية » (2) و (3).
** [ الأمر ] الثاني
اعلم أن موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية التي تعرض لذاته أو لجزئه أو لأمر يساويه ، كالتعجب العارض للإنسان لذاته ، والحركة بالإرادة اللاحقة له بواسطة أنه حيوان ، والضحك العارض له بواسطة التعجب المساوي في الوجود.
وموضوع هذا العلم هو المبدأ والمعاد ؛ لكون البحث فيه عن عوارضهما الذاتية ولو بحسب الاعتبار في الصفات الثبوتية الحقيقية ، وكذا الوجود أو الصانع الواجب من حيث هو صانع لغرض عائد إلى العباد في المعاد.
وحكي عن المتقدمين من علماء الكلام أنهم جعلوا موضوعه الموجود بما هو موجود ؛ لرجوع مباحثه إليه ، لكون نظرهم في أعم الأشياء ، وهو الموجود المنقسم إلى القديم والمحدث المنقسم إلى الجوهر المنقسم إلى الحيوان والنبات والجماد ،
Bogga 67
وإلى العرض المنقسم إلى ما يشترط فيه الحياة كالعلم والقدرة ، وما لا يشترط فيه كالطعم واللون (1).
وفيه نظر ؛ لعدم انحصار الأمر في الموجود ، وعدم اقتصار النظر على صرف الوجود.
وعن القاضي الأرموي من المتأخرين أن موضوع علم الكلام ذات الله تعالى ؛ لأنه يبحث عن صفاته الثبوتية والسلبية ، وأفعاله المتعلقة بأمر الدنيا : ككيفية صدور العالم عنه بالاختيار ، وحدوث العالم ، وخلق الأعمال ، وكيفية نظام العالم بالبحث عن النبوة وما يتبعها ؛ أو بأمر الآخرة كبحث المعاد وسائر السمعيات ، فيكون الكلام هو العلم الباحث عن أحوال الصانع من صفاته الثبوتية والسلبية وأفعاله المتعلقة بأمر الدنيا والآخرة (2).
وتبعه صاحب الصحائف على ما حكي عنه إلا أنه زاد فجعل الموضوع ذات الله من حيث هي ، وذوات الممكنات من حيث إنها تحتاج إلى الله ، وجهة الوحدة هي الوجود ، فكان هو العلم الباحث عن أحوال الصانع وعن أحوال الممكنات من حيث احتياجها إلى الله تعالى على قانون الإسلام ، بناء على كون البحث عن الأمور العامة ونحوها استطرادا موجبا لتكميل الصناعة ، أو على سبيل الحكاية لكلام المخالف ، قصدا إلى تزييفه أو لتوقف بعض المسائل (3).
وفيه أيضا نظر.
وعن أكثر المتأخرين : أن موضوع علم الكلام هو المعلوم من حيث يتعلق به إثبات العقائد الدينية ، كما أنه يبحث عن أحوال الصانع من القدم والوحدة والإرادة وغيرها ، وأحوال الجسم والعرض من الحدوث والافتقار والتركيب من الأجزاء
Bogga 68
وقبول الفناء ، ونحو ذلك مما هي عقيدة إسلامية أو وسيلة إليها.
وكل هذا بحث عن أحوال المعلوم ، يعني مفهومه لا مصداقه وإن كان محمولات المسائل أخص منه ، بناء على أن العرض الذاتي يجوز أن يكون أخص من معروضه (1).
** [ الأمر ] الثالث
وإرشاد المسترشدين بإيضاح الحجج لهم إلى عقائد الدين ، وإلزام المعاندين بإقامة البراهين ، وحفظ عقائد الدين عن الاختلال لشبه المبطلين ، وحصول مبنى فروع الدين بإثبات وجود صانع حكيم قادر عالم مرسل للمرسلين إلى المكلفين ، وحصول الإخلاص في الأفعال ، الموجب للفوز باليقين.
** [ الأمر ] الرابع
بصحة مقدماتها صريح العقل ، وقد تأيدت بالنقل ، وهو الغاية في الوثاقة.
** [ الأمر ] الخامس
ومعرفة ما يترتب عليهما ، بأن يجعل الكلام في كل أصل من الأصول في خمسة فصول مع ذكر وصل بعد كل فصل مذكور في كل أصل.
فالأصل في بيان ما يتحقق به الإسلام في الجملة ، والفصل في تفصيل ما يتحقق به الإسلام وما يتحقق به الإيمان ، والتميز بين أصول الدين وأصول المذهب ، والوصل في بيان ما يترتب على الاعتقادات وجودا وعدما من استحقاق الجنة أو النار ، والرحمة والنعمة ، أو النقمة ، والكفر المقابل للإسلام ، الموجب للحكم
Bogga 69
بالنجاسة ، ونحوها من أحكام الدنيا ، والخلود في النار ونحوه من أحكام الآخرة ، أو الكفر المقابل للإيمان الموجب للخلود ونحوه من أحكام الآخرة خاصة ، أو مع بعض أحكام الدنيا أيضا كجواز الاقتداء وإعطاء الزكاة وقبول الشهادة ونحو ذلك وعدمها ، وغير ذلك من الثمرات العلمية والعملية ؛ حذرا عن الخلط والغفلة.
بيان ذلك إجمالا : أن أصول الدين خمسة :
** الأول
** الثاني
** الثالث
على المكلفين في أمر الدنيا والدين.
** الرابع
المعصوم المنصوب المنصوص الأعلم بعد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله على جميع المكلفين في أمر الدنيا والدين.
** الخامس
والعقاب.
وتوهم كون العدل والإمامة من أصول المذهب دفعا للزوم كفر كثير من المسلمين كالمخالفين صادر عن عدم الفرق بين العدل المقابل للجور والعدل المقابل للجبر ؛ فإن الأول من أصول الدين ، فيكفر من يقول بالجور ، والثاني من أصول المذهب.
وكذا الإمامة ، فإن جواز وقوع الرئاسة المذكورة في الشريعة ووقوعها من أصول الدين ، ولهذا يكفر أمثال الخوارج ، والإمامة المقيدة بسائر القيود كسائر الاعتقادات من أصول المذهب ، فيخرج منكرها عن المذهب.
وإيضاح ذلك : أن أصول الدين عبارة عن اعتقادات عليها بناء شريعة سيد المرسلين صلى الله عليه وآله ، ولا يتحقق الدين إلا بها ، ولا يدخل المكلف فيه ولا يعد بدونها
Bogga 70
من المسلمين ، ولا تترتب بدونها آثاره ، كحقن الدم وحفظ المال والعرض.
وأصول المذهب عبارة عن اعتقادات عليها بناء المذهب الجعفري والإمامي ، ولا يدخل المكلف في المذهب الاثني عشري إلا بها ، ويتوقف عليها ترتب أحكام الإيمان الخاص ، كجواز إعطاء الزكاة وقبول الشهادة والاقتداء.
ولكل واحد من الأصول الخمسة جهة تقتضي دخوله في أصول الدين ، وجهة أخرى تقتضي دخوله في أصول المذهب ؛ فإن التوحيد بحسب الذات مثلا بمعنى أنه لا شريك له في الذات من أصول الدين ، والتوحيد بحسب الصفات بمعنى أن صفاته الذاتية عين ذاته من أصول المذهب. والعدل في مقابل الجور من أصول الدين ، والعدل في مقابل الجبر من أصول المذهب. والنبوة بمعنى كون محمد بن عبد الله رسولا خاتم النبيين من أصول الدين ، وبمعنى كونه بشرا معصوما رسولا مثلا من أصول المذهب. والإمامة المطلقة من أصول الدين ، والمقيدة من أصول المذهب. والمعاد بمعنى عود الأرواح إلى الأجساد في الجملة من أصول الدين ، وإلى القالب المثالي في البرزخ والأصلي في المحشر مع خلود الكفار وأمثالهم في النار واختصاص الإمامية بالجنة وكونهم فرقة ناجية ومن عداهم هالكة ونحو ذلك من أصول المذهب ، فلا بد من التميز ؛ حذرا عن الخلط والغفلة وترتب المفسدة وفوت المصلحة.
ولنشرع في شرح الكتاب ، فنقول بعون الله الملك الوهاب : قال المصنف العلامة أعلى الله مقامه :
Bogga 71
* بسم الله الرحمن الرحيم
امتثالا للحديث المشهور : « كل أمر ذي بال لم يبدأ باسم الله تعالى فهو أبتر » (1) الدال على لزوم الابتداء العرفي بلفظ « الله » الذي هو اسم الذات ، واقتداء بكتاب الله ، بمعنى « أبتدئ في المقصود » أو « أقرأ مثلا متلبسا باسم الله المحمود أو بعون الله المعبود » الذي هو الذات الواجب الوجود الجامع لصفات الكمال والجمال ، والمنزه عن صفات النقص وهو صاحب الجلال والذي تكون صفاته الذاتية عين الذات. وهو الكامل في الأفعال ، الذي يكون فعله حسنا خاليا عن الظلم والقبح في كل حال ، ومعللا بغرض عائد إلى العباد على الوجه الأصلح في المآل ، وله اللطف المقرب إلى الطاعات ، المبعد عن المعاصي والسيئات.
الموصوف هنا برعاية الاستخدام ، أو من باب توصيف المتعلق بوصف المتعلق كما في ( القرآن الحكيم ) (2)، أو بملاحظة عدم إهمال اللفظ ، وكون المراد اللفظ الدال على الذات ، وكون الملحوظ باعتبار اللسان اللفظ الموجب لامتثال الحديث ، وباعتبار الجنان الذات المصحح للتوصيف ، كما في سائر العبادات اللفظية ، أو بحمل الاسم على مطلق ما يدل على الذات بأنه الرحمن المتفضل بجميع أنواع الإحسان على جميع الخلق حتى غير الإنسان ، بإخراجهم عن كتم الأعدام إلى الوجود ، وإعطاء الحياة والصحة والعلم والقدرة والمساكن وبسط الرزق من نحو المآكل
Bogga 72
والمشارب على وجه الجود ، من غير قطع مواد الرزق وإن انقطعوا عن الطاعة ، فهو المحسن بهذه الصفة العامة التي تكون خاصة في الدنيا على المؤمنين والكافرين بل جميع المخلوقين بإعطاء ما به قوامهم ، كحفظ التركيب في الجمادات ، وذلك مع التنمية في النباتات ، وذلك مع الحس والحركة بالإرادة والأرزاق في الحيوانات ، وذلك مع إدراك المعقولات في الإنسان الذي هو أشرف الموجودات ، فإنه أحسن كل شيء خلقه ثم هدى.
والموصوف كما زبر بأنه الرحيم المحسن في الآخرة بالصفة الخاصة على المؤمنين بالغفران والنعيم الأبدي والجنان ، وإعطاء الحور والقصور والفواكه والمشارب والمآكل والطيور ، سيما الرضوان.
ولا يخفى أن هذا المعنى إشارة إلى الأصول الخمسة التي هي رأس العقائد الدينية لانفتاح باب التوحيد من كمال الذات المنافي للإمكان وفقد الصفات وزيادتها ووجود الشريك المستلزم للاحتياج أو العجز ونحو ذلك ، وباب العدل من التنزه عن النقائص المتحققة في الظلم وخلق العباد مجبورين أو نحو ذلك ، بل يمكن استفادة سائر أصول الدين من ذلك.
مضافا إلى اقتضاء « الرحمن » و « الرحيم » من جهة كون النبوة والإمامة والمعاد من فروع اللطف الذي هو أحد أجزاء العدل ، مع أن تخصيص المؤمنين بالرحمة الأخروية الدالة على المعاد ليس إلا من جهة القابلية الحاصلة من الطاعة الموقوفة على المعرفة الموقوفة على النبي والوصي.
ثم شرع لمثل ما مر في الحمد الذي هو عبارة عن الثناء باللسان على الجميل الاختياري كما هو المشهور ، أو الثناء على الجميل الاختياري ولو بغير اللسان ، ليدخل حمد الله ، كما هو المنصور ، أو إظهار صفات الكمال بالقول أو الفعل ليكون حمده تعالى لذاته حمدا على سبيل الحقيقة ؛ لكونه من أفضل أفراده ؛ لأنه تعالى كشف عن صفات كماله ببسط بساط الوجود وموائد الجود على ممكنات لا تحصى
Bogga 73
وذرات لا تتناهى ، كما اختاره صالح العلماء ، فقال :
(
** أما بعد حمد
الوجود ) الذي هو أخص صفاته ، وهو فرد منه ، وتوحيده تعالى عبارة عن توحيد فرد هذا المفهوم ، فكان ذكره بمنزلة ذكر الذات ، مع أن الحمد على الوصف مشعر بعلية مبدأ الاشتقاق ، فكأنه قال : أحمده على كونه واجب الوجود بالذات المتبادر عند الإطلاق و ( على نعمائه ) التي هي من الفواضل الواصلة إلينا التي لا تحصى ، فلا يمكن التعدي إلى الفضائل التي لا تصل إلينا.
(
** والصلاة
النبيين المستلزم للفضل عليهم ( وعلى أكرم أحبائه ) وهو علي عليه السلام إن أريد من اسم التفضيل الزيادة على جميع من عداه ؛ للزوم المطابقة إفرادا وجمعا حينئذ ، ولكن لا بد من إرادة من لا أكرم منه إن قلنا بتساوي الأئمة عليهم السلام أو الأكرم في وقته. وإن أريد الزيادة على من أضيف إليه ، فيمكن إرادة جميع أصحابه الموصوفين بزيادة الكرم على من عداهم من محبوبي النبي صلى الله عليه وآلهوسلم أو خصوص الأئمة الاثني عشر ؛ لعدم اشتراط المطابقة حينئذ.
وقد يقال : يمكن قراءة « علي » بالاسم المجرور المعطوف على « سيد أنبيائه ».
فتأمل.
(
** فإني
** مجيب إلى ما سئلت من تحرير مسائل الكلام
وتقريرها ) (1) على الوجه الخالي عن الإملال والإخلال ( على أبلغ ) ال ( نظام ) والترتيب ( مشيرا إلى غرر فرائد الاعتقاد ) يعني الحكم الشرعي غير المتعلق بالعمل الذي هو كالفريدة الغراء ، يعني اللؤلؤ الكبير
Bogga 74
( و) إلى معنى دقيق مثل ( نكت ) جمع نكتة ، وهي أرض منكوتة بقضيب ونحوه يعني ( مسائل الاجتهاد ) المتعلقة بالاعتقاد ( مما قادني الدليل [ إليه ] (1) وقوي اعتمادي عليه ، والله أسأل العصمة ) من الزل ( والسداد ) عن الخلل ( وأن يجعله ذخرا ليوم المعاد ، وسميته بتجريد العقائد ، ورتبته على ستة مقاصد ) لبيان المقصود الأصلي وما يتوقف عليه إثباته من أمور عامة ونحوها.
ووجه الترتيب : أن ما يتوقف عليه الكل مقدم على الكل ، وهو باب الأمور العامة. وما يتوقف عليه خصوص التوحيد بإثبات الصانع وصفاته وكمال أفعاله ، المتوقف على حدوث المصنوع هو أحوال الجوهر والعرض. والتوحيد الشامل للعدل موقوف عليه للنبوة ، وهي للإمامة ، وهما معا للمعاد الجسماني ؛ لتوقف تفاصيله على بيان من الله والنبي صلى الله عليه وآله والإمام عليه السلام .
فمجموع مقاصد علم الكلام منحصر في ستة :
** المقصد الأول
** والثاني
** والثالث
** والرابع
** والخامس
** والسادس
الكتاب والسنة النبوية والإمامية.
Bogga 75
المقصد الأول
* في الأمور العامة
** [ وفيه فصول :
** الفصل الأول : في الوجود والعدم
** الفصل الثاني : في الماهية ولواحقها
** الفصل الثالث : في العلة والمعلول ]
Bogga 77
** (المقصد الأول في الأمور العامة)
والعلية والوجوب والإمكان العام ، وما يتعلق بذلك ، كبحث الامتناع والعدم ؛ لكونهما في مقابل الوجود والإمكان ، مع أن العدم هنا بمعنى رفع الوجود عدوليا كان أو سلبيا من أحوال الموجود ، ولهذا أفرد بابها وقدم على باب باحث عن أحوال مختصة ببعضها مما يتعلق به غرض علمي ويترتب عليه مقصود أصلي.
(
** وفيه فصول
الوجود والعدم وأحوالهما وفي الماهية وأحوالها وفي المركب من الماهية والوجود أو العدم وأحواله ، وهو العلة والمعلول.
Bogga 79
(الفصل الأول : في الوجود والعدم)
فيه مسائل :
** المسألة الأولى : في (تحديدهما).
اعلم أن أرباب المعقول اختلفوا في المقام على أقوال :
** الأول
** الثاني
ببداهته أيضا بديهي.
** الثالث
** الرابع
فعن المتكلمين تحديد الوجود ( بالثابت العين ، و) تحديد العدم بأنه عبارة عن ( المنفي العين ) (1).
ويرد عليه : بأنه تعريف للموجود والمعدوم ، فلا بد أن يعرف الوجود بثبوت العين ، والعدم بنفي العين مع كون النفي بمعنى الانتفاء حتى يكون التعريف للعدم لا الإعدام.
اللهم إلا أن يقال : إن « الثابت » أعم من أن يكون ثابتا بنفسه وهو الوجود أو
Bogga 81
بالوجود وهو الموجود ، وإن كان الظاهر من « الثابت » بحسب اللغة ما له الثبوت ، وهو معنى الموجود ، وأن زيادة لفظ « العين » لدفع توهم أن يراد الثابت لشيء بالوجود الرابطي أو المنفي عن شيء ، فإن ذلك معنى المحمول.
أو يقال : إن المشتق محمول على مبدأ الاشتقاق في الثابت والمنفي ، أو العكس في الوجود والعدم بإرادة الموجود والمعدوم تسامحا ، إشعارا بأن احتياج الموجود والمعدوم إلى التعريف إنما هو لاحتياج الوجود والعدم إليه ؛ لأن مفهوم صيغة المشتق معلوم لكل من يعرف اللغة ، أو لتساويهما في المعرفة والجهالة ، أو للإشارة إلى أصالة الوجود مع ملاحظة تبعية العدم.
أو يقال : إن الضمير راجع إلى الموجود والمعدوم ؛ لدلالة الوجود والعدم عليهما.
وعن الفارابي : أن الوجود إمكان الفعل والانفعال ، والموجود ما أمكنه الفعل والانفعال (1).
وعن بعض الحكماء تعريفه بمثل ذلك ، مثل قولهم : « الموجود هو الذي يكون فاعلا أو منفعلا » (2) أو : « الذي ينقسم إلى الفاعل والمنفعل » (3) أو : « ينقسم إلى الحادث والقديم ، والمعدوم ما ليس كذلك » (4) ( أو ) بغير ذلك ، كالتعريف بأنهما عبارتان عن ( الذي يمكن أن يخبر عنه ، ونقيضه ) وهو الذي لا يمكن أن يخبر عنه بمثل ما مر (5).
وعن المحققين : أن تصور الوجود بديهي ، بل هذا الحكم أيضا بديهي يقطع به كل عاقل يلتفت إليه وإن لم يمارس طرق الاكتساب ، بل عن جمهور الحكماء أنه
Bogga 82
لا شيء أعرف من الوجود ، فلو عرف بشيء ، كان تعريفا لفظيا (1).
واختاره المصنف ، فأفاد أن جميع ما ذكر في تعريفه ( يشتمل على دور ظاهر ) واضح أو مصرح غير مضمر ؛ لاشتماله على ما يرادفه ، فيلزم توقف الشيء على نفسه ؛ إذ لا يعقل معنى « الذي ثبت » و « الذي يمكن » ونحو ذلك إلا بعد تعقل معنى الحصول في الأعيان أو الأذهان ، أو لأن الموصوف المقدر هو الوجود كما قيل (2).
فلا يكون المراد تعريفا حقيقيا موقوفا على تصور المعرف المشتمل على المرادف ( بل المراد تعريف اللفظ ) بتبديل لفظ بلفظ أعرف عند السامع ( إذ لا شيء أعرف من الوجود ) حتى يجعل معرفا حقيقيا له ، فيكون بديهيا ؛ لبطلان الدور والتسلسل ومماثلة المعرف ، بل الحكم بكونه بديهيا أيضا بديهي ؛ لما مر.
وعن الإمام الرازي : أن الوجود متصور بالبديهة ، ولكن الحكم بكونه بديهيا كسبي محتاج إلى الاستدلال (3).
( والاستدلال ) على بداهة تصور الوجود ( بتوقف التصديق بالتنافي ) أي بالمنافاة بين الوجود والعدم ، بأن يقال : الوجود والعدم متنافيان لا يصدقان على أمر ( عليه ) أي على تصور الوجود والعدم ؛ لأن كل تصديق موقوف على تصور الموضوع والمحمول ونحوهما ، فيكون التصديق بالمنافاة بينهما أيضا متوقفا عليه ؛ لأن التصديق المذكور مسبوق بتصور الوجود والعدم ، وحيث كان ذلك التصديق بديهيا كان تصور الوجود والعدم أولى بالبداهة ؛ لأن بداهة الكل في نفس الأمر تتوقف على بداهة أجزائه فيها وإن لم يتوقف العلم ببداهته على العلم ببداهة أجزائه ، الذي هو تابع متفرع على العلم الأول بملاحظة أن الوجود والعدم جزءان له ، كعدم توقف العلم بكلية الكبرى على العلم بالنتيجة مع كون العلم بالنتيجة تابعا
Bogga 83
للعلم بكلية الكبرى.
( أو ) الاستدلال بأن الوجود متصور بالكنه ، وحصول العلم منحصر في الضرورة والاكتساب ، والاكتساب إما بالحد أو الرسم ، والحد لا يكون إلا للمركب من الأجزاء ، والأجزاء إما وجودات فيحكم ( بتوقف الشيء على نفسه ، أو ) غير وجودات لا يحصل من اجتماعها الوجود ، فيلزم كون الوجود محض ما ليس بوجود ، وهو محال.
وإن حصل أمر زائد هو الوجود يلزم ( عدم تركب الوجود مع فرضه مركبا ) لكون التركيب في معروضه ، ( و) الرسم لا يفيد العلم إلا بعد العلم باختصاص الخارج بالمرسوم ، وهذا متوقف على العلم به ، وهو دور يقتضي ( إبطال الرسم ).
وكل واحد من الاستدلالين ( باطل ).
أما الأول : فلأنه إن أريد أن الحكم المذكور بجميع متعلقاته بديهي ، فهو ممنوع بل مصادرة. وإن أريد أن نفس الحكم بديهي ، فهو مسلم ، لكنه لا يثبت المدعى.
وأما الثاني ؛ فبالنقض والحل :
أما النقض فبسائر الماهيات ؛ لأن أجزاء البيت إما بيوت أو غير بيوت ، على نحو ما مر.
وأما الحل فباختيار أمر زائد على كل جزء ، وهو المجموع الذي هو نفس الوجود ، فلا يكون التركيب إلا فيه ، فالوجود محض المجموع الذي ليس شيء من أجزائه بوجود ، كما أن البيت محض الأجسام والهيئة التي ليس شيء منها ببيت.
وقال صدر الحكماء الإشراقيين في الشواهد الربوبية : « الوجود لا يمكن تصوره بالحد ولا بالرسم ولا بصورة مساوية له ؛ إذ تصور الشيء عبارة عن حصول معناه وانتقاله من حد العين إلى حد الذهن ، فهذا يجري في غير الوجود ، وأما في الوجود فلا يمكن ذلك إلا بصريح المشاهدة وعين العيان ، دون إشارة الحد والبرهان ، وتفهيم العبارة والبيان ، وإذ ليس له وجود ذهني فليس بكلي ولا جزئي ولا عام ولا خاص
Bogga 84
ولا مطلق ولا مقيد ، بل تلزمه هذه الأشياء بحسب الدرجات وما يوجد به من الماهيات وعوارضها ، وهو في ذاته أمر بسيط لا يكون له جنس ولا فصل ، ولا أيضا يحتاج إلى ضميمة قيد فصلي أو عرضي ، مصنف أو مشخص » (1).
وقال بعض أفاضل من عاصرناه (2) ما حاصله : « أن الذي يعبر عنه عند طلب معرفته بالوجود ثلاثة أقسام ؛ لأن الشيء إما صانع ، أو صنع ، أو مصنوع ؛ فالصانع هو الواجب ، والصنع فعله ، والمصنوع ما سواه :
[ القسم ] الأول : الوجود الحق المسمى بالوجه ، وهو الواجب المقدس عن كل ما سواه حتى إطلاق العبارة ، فإذا أطلقت العبارة فإنما تقع على العنوان ، أعني الدليل عليه ، وهو ما أوجده الله تعالى من وصفه لعباده.
وهذا الوجود لا يدرك بعموم ولا خصوص ، ولا إطلاق ولا تقييد ، ولا كل ولا جزء ، ولا كلي ولا جزئي ، ولا بمعنى ولا لفظ ، ولا كم ولا كيف ، ولا رتبة ولا جهة ، ولا وضع ولا إضافة ، ولا نسبة ولا ارتباط ، ولا في وقت ولا في مكان ، ولا على شيء ولا في شيء ، ولا فيه شيء ولا من شيء ولا لشيء ولا كشيء ولا عن شيء ، ولا بلطف ولا بغلظ ، ولا باستدارة ولا امتداد ، ولا حركة ولا سكون ، ولا استضاءة ولا ظلمة ، ولا بانتقال ولا بمكث ، ولا تغير ولا زوال ، ولا يشبهه شيء ، ولا يخالفه شيء ، ولا يوافقه شيء ، ولا يعادله شيء ، ولا يبرز من شيء ولا يبرز منه شيء ، وكل صفة أو جهة أو صورة أو مثال أو غير ذلك مما يمكن فرضه أو وجوده أو تمييزه أو إبهامه فهو غيره ، ولا يدرك بشيء مما ذكر أو غيره ؛ لأنها صفات الخلق ، ولا بضده ؛ إذ لا ضد له. ولا يعرف بما هو (3) في سر ولا علانية ، ولا طريق إلى
Bogga 85