الإهداء
مقدمة
1 - تطور البنوك
2 - البنك المركزي في إنجلترا وفي فرنسا وفي ألمانيا وفي روسيا وفي الولايات المتحدة
3 - وظائف البنك المركزي، رأس ماله، إدارته، الأعمال التي يمتنع عن مباشرتها
4 - فكرة بنك مركزي لمصر
5 - التعاون الدولي، الصندوق المشترك، بنك التعمير
الإهداء
مقدمة
1 - تطور البنوك
2 - البنك المركزي في إنجلترا وفي فرنسا وفي ألمانيا وفي روسيا وفي الولايات المتحدة
3 - وظائف البنك المركزي، رأس ماله، إدارته، الأعمال التي يمتنع عن مباشرتها
4 - فكرة بنك مركزي لمصر
5 - التعاون الدولي، الصندوق المشترك، بنك التعمير
البنك المركزي في العصور المختلفة
البنك المركزي في العصور المختلفة
تأليف
زكريا مهران
الإهداء
إلى روح المغفور له طلعت حرب باشا الذي كتب عن البنك الوطني وعلاج مصر الاقتصادي، وأسس بنك مصر وشركاته ليرفع القواعد من نهضتنا.
أهدي هذه الرسالة، ذكرى لأيام أسعدتني بالعمل معه والاستماع إليه.
زكريا مهران
مقدمة
دعاني قسم الخدمة العامة بالجامعة الأمريكية إلى إلقاء محاضرة عن البنك المركزي، وترك لي حرية اختيار الناحية التي أحاضر فيها؛ فاخترت أن أتحدث عن البنك المركزي في العصور المختلفة؛ ذلك لأني لم أرد أن أكرر ما سبق لي أو لغيري ذكره في هذا الموضوع.
وقد رأيت أن أعتمد على التاريخ لأستخرج الدروس من صميم الوقائع، متبعا في ذلك الطريقة المعروفة بالطريقة الألمانية. فأعددت هذه المحاضرة وألقيت ملخصها في قاعة «يورت» التذكارية في الثاني من يناير سنة 1948.
وقد طلب إلي بعض حضرات الذين سمعوا المحاضرة أن أقوم بطبعها؛ لأنهم رأوا فيها لونا جديدا من البحث فيه تمهيد لدراسة البنوك المركزية، وفيه عرض مقارن لنظمها.
وإني لأرى من واجبي - والمحاضرة تستند إلى التاريخ - أن أعترف بدين عظيم للمؤرخ الكبير الأستاذ سليم بك حسن. فقد شجعني على البحث ما نافثني فيه أو ترجم لي بعض الوثائق البردية. وكذلك أمدني بكثير من المراجع التي اعتمدت عليها عند الكلام على الدول القديمة. كما أقر بالفضل لجناب مستر «ألن رو» - مدير متحف الإسكندرية - فقد أعانني على استيضاح بعض النقط الغامضة في تاريخ الفراعنة والبطالسة والرومان بمصر. فلحضرتيهما مني أجزل الشكر وأطيب الثناء.
الفصل الأول
تطور البنوك
المعابد في الدول القديمة
لا بد لي حين أتبع الطريقة التاريخية من أن أمر مرورا عابرا على سير بعض الأمم والأفراد لأقتطف منها ما يصلح أن أقدمه نموذجا على عمل معين أو فكرة خاصة، مما أراه جديرا بالذكر في هذا البحث.
ولو رجعنا إلى مصادر التاريخ القديم فيما أمكن العثور عليه من الحفريات لوجدنا أن الإيداع والاقتراض كلاهما قديم في ذاته قدم الطيبات من الرزق. كان الإنسان يستكثر منها، فإن زادت عن حاجته ادخرها إلى وقت يفيد منها فيه، وإن امتنعت عليه راح يلتمسها قرضا أو صدقة ممن يقدر عليها.
فإذا كان الإنسان في عهده البدائي فأدوات الصيد والدفاع عن النفس والحبوب هي أثمن ما يحرص عليه، وهي لهذا نقوده الأولى التي تبايع بها أيضا قبل أن يهتدي إلى استعمال الأجرام المعدنية ثم النقود المسكوكة التي بدأ يضربها الليديون - على أرجح الأقوال.
ولما كان من الطبيعي أن يحتفظ الإنسان بتلك السلع، وأن يدخرها لوقت الحاجة في مكان أمين خوف السرقة أو الغصب، فقد استودعها المعابد في أول الأمر؛ لما فيها من مناعة وقداسة. وكانت معابد قدماء المصريين والآشوريين والبابليين والفرس والإغريق بها أمكنة خاصة لحفظ ودائع الأفراد. ولدينا الآن من قطع الخزف وجدران بعض المعابد ما تثبت نقوشه أن تلك المعابد كانت تقبل الودائع وتقرض الأفراد؛ مما جعل المؤرخين يقطعون بأن معبد «دلوس
Delos » ومعبد «أفيز
Ephese » ومعبد «ساموس
Samos » كانت تؤدي الأغراض التي تؤديها شون البنوك في الوقت الحاضر.
لم يكن كاهن المعبد عند قدماء المصريين مجرد رئيس ديني، وإنما كان على درجة كبيرة من الاستعداد الاقتصادي، فكان يدبر للناس أمور معاشهم ويقدم لهم المساعدات في أوقات الضيق، ويقوم عليهم بغير قليل من التوجيه الاقتصادي المحلي.
وقد أكد لنا البحث التاريخي صحة ما جاء في الكتب المقدسة من أن يوسف - عليه السلام - قد جعله مولاه على خزائن الأرض المصرية يعالج أزمة امتدت إلى سبع سنوات بسبب انخفاض فيضان النيل. ومن هذه الحقيقة التاريخية نشأت الأسطورة التي يؤمن بها الإسرائيليون من تعاقب الأزمات مرة كل سبع سنوات، وقد حاول كثير من الاقتصاديين أن يقيموا الأدلة على صحتها.
الإقراض عند الإغريق
قلنا إن كهنة المعابد كانوا يقرضون المحتاجين. ويستتبع ذلك أن نعرف هل كانت المعابد تأخذ فائدة على ما كانت تقدمه من قروض. اختلف المؤرخون في ذلك، والراجح أن معابد الإغريق لم تكن في أول عهدها بالإقراض تأخذ فائدة، ولكنها اضطرت إلى أخذ تعويض عن التأخير في سداد القرض، فنشأت عن ذلك عادة أخذ الفوائد التي صارت فيما بعد معمولا بها على اعتبار أنها أجر أو استغلال لرأس المال الذي يقترض.
ولسنا نعرف على وجه التحقيق الوقت الذي بدأ فيه الأفراد يتخذون الإقراض حرفة لهم. ولكن من القصص الثابتة أن «هريود» الذي عاش في القرن الثامن قبل الميلاد قد نصح لمقترض حبوب أن يرد لمقرضه أكثر مما أخذ حتى يشجعه بتلك الطريقة على تسليفه مرة أخرى إذا احتاج إلى الاقتراض منه.
وكان القانون الإغريقي القديم ظالما؛ لأنه أباح للمقرض أن يطالب المقترض بدفع نصف ما استلف زيادة على الأصل إذا لم يسد السلفة في الميعاد المتفق عليه. وعلى هذا أصبحت عملية الإقراض عملية كاسبة يلجأ إليها نفر من الضعفاء ويتعالى عنها ذوو الههم. ولكنها ما لبثت أن صارت ضرورة تحتمها ظروف التوسع الاقتصادي عند الإغريق في القرن الرابع قبل الميلاد. وقد حفظ لنا التاريخ أسماء كثير من كبار رجال المصارف الإغريقية؛ فمنهم «بازيون» الأثيني الذي أهدى بلاده أسطولا مكونا من خمس مراكب. وقد مات سنة 371 عن ثروة كبيرة مصرفية قام على إدارتها بعده شريكه «فورميون
» الذي خلده «ديموستين
Demothene » بدفاع مجيد في إحدى القضايا الهامة التي رفعت عليه.
ولما كان الصيرفي الإغريقي يجلس ليباشر عمله إلى جوار مائدة خشبية، فقد أطلق الإغريق كلمة ترابيزة
Trapezi
على المصرف، ولا زالت مستعملة في اللغة اليونانية إلى الآن. وترجمتها في اللغات «طاولة بنك
Banco, Taoula » التي صارت علما على المصارف إلى وقتنا هذا.
وقد افتن أصحاب المصارف الإغريقية في الدعاية لأعمالهم، فكتب أحدهم المدعو «كايكوس » على مصرفه أنه يعامل الأجانب كما يعامل الوطنيين، وأنه مستعد حتى في الليل أن يبدل النقود لمن أراد، وكانت لهم دفاتر يقيدون فيها حساباتهم اليومية ويوقع عليها العميل بإمضائه أو خاتمه للمضاهاة عليه عند اللزوم.
وقد عرف القانون الإغريقي نظام إيقاف الدفع المعروف الآن «بالموراتوريوم» في أوقات الضيق والأزمات. وقد تخصص بعض المدافعين في القضايا المالية، ورتبوا لها إجراءات تؤدي إلى سرعة الفصل فيها.
البنك المركزي عند البطالسة
وحين دخل الإغريق سنة 332ق.م مصر لم تكن لها نقود مضروبة؛ لأن المصريين كانوا يتعاملون بالحبوب فيما بينهم. وقد كانوا يتعاملون أيضا بحلقات معدنية إذا استدعى الأمر في أغراض تجارية أغلبها مع غير المصريين، فقد كانت للإغريق جاليات استوطنت من قبل مدنا لا تبعد عن البحر الأبيض، أهمها بلدة «نقراطس» عند فرع النيل الكانوبي، ومكانها الآن بلدة «نقراش» القريبة من «إيتاي البارود».
كانت هذه البلدة بمثابة ميناء دولي حر تقطنه جالية إغريقية بلغ عدد أفرادها 10000 نسمة يتعاملون فيما بينهم أو مع أهل البلاد الآخرين بالقطعة الدارية الذهبية وبالقطع الإغريقية من الدراخمة ومضاعفاتها. وقد نشطت هذه الجاليات الإغريقية ومن نزح إلى مصر من الإغريق عقب الفتح المقدوني، وتغلغلوا في داخلية البلاد، وكان منها كبار الموظفين ورجال المال على عهد البطالسة.
ولقد وضع البطالسة لموارد الخزانة نظاما مزدوجا في الضرائب، فقسموها إلى قسمين؛ أحدها: ضرائب تؤخذ عينا من الحبوب التي تنتجها الأرض المزروعة، والآخر: ضرائب تؤخذ نقدا من العملات التي ضربوها في مصر باسمهم. أما الضرائب الزراعية؛ فقد كانت تسلم في شون، ثم تنقلها مراكبهم في النيل وترعه إلى المخازن الرئيسية بالإسكندرية. وأما الضرائب النقدية - وهي رسوم ومكوس تؤخذ على كل ما لا علاقة له بالزراعة كرسوم العقود وضرائب المهن الحرة والاحتكار - فقد عهدوا فيها في أول الأمر إلى ملتزم يرسو عليه العطاء الأكبر في مزايدة علنية.
ولم يلبث أن اتضح خطأ نظام الالتزام في الضرائب النقدية؛ لأنه نظام وإن صلح في آثينا إلا أنه لا يصلح في مصر لبعد المسافات وصعوبة الإشراف على عمل هؤلاء الملتزمين الذين ساموا الناس الخسف، ونشروا الرشوة في الجباية، وأساءوا إلى البطليموس نفسه، فعدلت الحكومة عن نظام الالتزام، وعينت موظفين من قبلها لجباية الضرائب وإيداعها مصرفا حكوميا يقوم على تحصيلها واستغلالها لحساب الخزانة.
وقد ألقت حفائر الفيوم أخيرا ضوءا على أعمال هذا النوع من المصارف الحكومية فيما اكتشف بها من وثائق تركها «زينون» - أحد مديري هذه المصارف - وفيما اكتشف بالإسكندرية من نصوص لإرادات ملكية تعرف بقوانين الإيرادات كان البطليموس «فيلادلف» يرسلها إلى مديري هذه البنوك وموظفيها كمنشورات أو لوائح يجب العمل بها.
ومما يؤسف له أشد الأسف أن وثائق «زينون» موزعة على عدة متاحف، فبعضها بمتحف القاهرة، والبعض الآخر في متاحف الولايات المتحدة، وإيطاليا، وكولومبيا. وكان من الواجب أن تحفظ سجلات «زينون» وملف أعماله في متحف القاهرة، وأن تترجم كلها، فلا يترجم بعضها ويبقى البعض الآخر بغير ترجمة. ومما يؤسف له أيضا أن قوانين الإيرادات قد أضرت بها رطوبة الإسكندرية التي تتلف ورق البردي؛ ولذلك اضطر كثير ممن ترجموها أن يملئوا الفراغ الذي أحدثه التلف بفروض ظنية قد تصيب وقد تخطئ؛ ومن ثم يقوم الخلاف عند الباحثين فيها.
ولقد اطلعت على الترجمة الإنجليزية لهذه الوثائق وعلى رسالة قيمة وضعها العالم الألماني «فلكن
Vulken » عنوانها:
Accentuke aus der Kongishen Bank Theben ؛ أي توضيح البنك الملكي في طيبة.
وأستطيع بعد هذا أن أؤكد لحضراتكم أن مصر قد عرفت نظام البنك المركزي بمعنى الكلمة، وأن هذا البنك المركزي كانت له فروع وشون بمختلف البلاد المصرية الهامة، وأنه استعمل في أساليبه ومحرراته ما لا يختلف كثيرا عما هو متبع الآن.
وثبت من وثائق «زينون» أن «أبولونيس
Appolonios » مدير المصرف الملكي بالإسكندرية، و«زينون» مدير المصرف بالفيوم، «وبيتون
» مدير فرع آخر، جرت بينهما مكاتبات لتنظيم العمل في الفروع. وفي هذه الأوراق ما يفيد أن أجور العمال وأثمان السلع الموردة للخزانة العامة كانت تدفع بتحاويل كأنها شيكات، وأن أذون التوريد وقسائم الدفع وإيصالات القبض من هذا البنك وفروعه كانت تحرر في عبارات قريبة جدا مما تستعمله البنوك في الوقت الحاضر.
ومن التعديلات الهامة التي أدخلها البنك المركزي المصري على نظم البنوك الآتية: أنه أبطل العمل بالأوامر الشفوية، ونص على ضرورة الاعتماد على الكتابة في جميع العمليات المصرفية. فضلا عن التوسع في أعمال المصرف من فتح حسابات جارية إلى قبول ودائع وإعطاء سلفيات لأغراض مختلفة، مع تقديم رهون وضمانات شخصية وعينية.
وكانت الأوامر الملكية تلزم مديري المصارف بضرورة استغلال الأموال الملكية، وتحتم عليهم أن يأخذوا رهونا عند إقراضها للأفراد حتى لا تضيع. وكانت هذه المصارف أيضا تستغل الأموال المودعة فيها وتعطي عنها فوائد إذا بقيت فيها وقتا طويلا. وكان فيها خبراء في المعادن والنقود ومراجعو حسابات، وكانوا جميعا يؤدون قسما قبل مباشرة أعمالهم على أن يؤدوا بالذمة والأمانة، وكانوا يعاقبون أشد العقاب إذا أهملوا في أعمالهم أو بددوا تلك الأموال المسلمة إليهم على اعتبارها أموالا عامة.
ولم يكن البنك المركزي الملكي يقصر نشاطه على المعاملات الداخلية، بل كان يمول التجارة في البحر الأبيض المتوسط، ويتعامل أيضا في قروض مع الدول الأخرى. وقد طلبت قرطاجنة من البنك الملكي في عهد «فيلادلف» أن يقرضها قرضا دوليا لتستعين به في حربها مع روما، ولكنه رفض حتى لا يغضب روما. ولكن بنوك روما عندما طلب منها بنك «أوليت» أن تقرضه اشترطت شروطا قاسية منها أن يرهن البنك المصري جميع إيرادات الدولة ضمانا للقرض.
ونستطيع بعد هذا كله أن نقول: إن ذلك البنك المركزي المصري عندما كان مملوكا للحاكم يوجه منه سياسة البلاد الاقتصادية كان صورة من التأميم الفعلي، على اعتبار أن مالية الملك في تلك العصور القديمة كان قوامها الخزانة تدخلها جميع إيرادات الدولة، ثم يصرف منها جميع ما كان ينفقه على الحرب ومشروعات الإصلاح العامة في بلاده.
ومن المهم أن نذكر أن ذلك المصرف الحكومي وفروعه قد انفرد بإدارتها والتعامل معها الإغريق. أما المصريون فقد ابتعدوا عنها مفضلين خزن غلالهم بمنازلهم وعند الضرورة يتعاملون مع الشون.
وقد علل ذلك بعض المؤرخين بفقرهم ولكون الضرائب الإضافية كانت تفرض على المصريين بين وقت وآخر، ومنها ما يؤخذ للترفيه عن الحكام وضيافتهم في حفلات وولائم فخمة. من ذلك ما جعل كهنة إيزيس يكتبون على مسلة «الفيلا» شكوى لربهم مما حل بهم من ضنك بسبب إطعام الجنود والقادة في تجوالهم بالأقاليم القبلية. ومن ذلك أيضا أن نبيلا رومانيا وفد على مصر في سياحة ومعه حاشيته يحمل أمتعتها أربعون حمارا، وكانوا يجوبون البلاد بدعوة من الحكومة، ويرغم المصريون على الاكتتابات للاحتفاء بهم. ولهذه الأسباب امتنعوا عن إيداع نقودهم في البنوك حتى لا تؤخذ منهم في تلك الضرائب الإضافية والاكتتابات الجبرية، بينما الإغريق - وهم الأغنياء - لا تمتد إليهم أيدي الجباة وكبار الموظفين من أبناء جنسهم الذين استعمروا البلاد.
البنوك عند الرومان
ولما فتح الرومان مصر بعد هزيمة كليوباترة سنة 532م، أدخلوا كثيرا من التعديلات على نظم البنوك الخصوصية والعمومية التي سبق لهم أن نقلوها عن الإغريق والبطالسة. ومن أهم هذه التعديلات أنهم أباحوا للأفراد اتخاذ البنوك حرفة لهم، وقد كان البطالسة لا يسمحون بذلك إلا بعد تصريح من المتعذر أن تعطيه الحكومة؛ مما جعل أغلب المؤرخين يذهب إلى القول بأن البطالسة قد احتكروا أعمال البنوك وجعلوها ملكا للدولة.
وعلى العكس كانت روما تعد مهنة البنوك تجارة حرة، وكان مديرو هذه البنوك الخصوصية منفصلين تماما عن مديري خزانة الدولة. وقد عرفت روما هذا النوع من البنوك في القرن الرابع قبل الميلاد، وكان يقوم به جماعة من الصيرفيين عرفوا باسم
Argentarû
فتحوا حوانيت إلى جوار الفورم وفي الأحياء القريبة منه. وكانوا يتجرون في المعادن النفيسة - وبنوع خاص الفضة - بيعا وشراء، ويقرضون النقود بالفائدة. وكان بعضهم من أصل أجنبي من الإسبان الرومانيين والإغريق والفينيقيين.
ولما انتصرت روما على قرطاجنة سنة 146ق.م، اضطرت إلى تنظيم ماليتها وشئونها الاقتصادية لتسير بخطوات ثابتة في بناء إمبراطوريتها العظيمة. فجعلت خزائنها تؤدي أعمال المصرف الحكومي للدولة، وجعلت لها عشر فروع في المستعمرات أهمها فرع الإسكندرية لمصر ولما جاورها من بلاد أفريقية. وهذه الفروع تجبي ضرائب الصادرات والواردات وتحصل الجزية وترسلها للخزانة في روما. وكانت خزانة روما تقرض المستعمرات وتحاسبها على الفائدة إذا هي تأخرت في دفع ما عليها من جزية.
أما البنوك الخصوصية، فكانت تقوم على أموال مؤسسيها وأموال الأثرياء من الحكام وأغنياء الرومان. وكانت هذه البنوك تفتح الحسابات الجارية وتقبل التحاويل، ولها دفاتر منظمة، منها ما نسميه الآن بدفتر الصندوق ودفتر اليومية ودفتر الأستاذ. وإلى بنوك الرومان يرجع الفضل في وضع الأصول لطريقة مسك الدفاتر الحالية.
وكان المقرضون يتعاملون في أغلب الأحيان بأكثر من الفائدة القانونية؛ مما اضطر المشرع الروماني إلى استعمال القسوة؛ فنص على مصادرة قسم كبير من أموال الدائن والمدين إذا ثبت عليهم التعامل بالربا. فلجأ بعضهم إلى التحايل على القانون بطريقة البيع المعروف «بالغاروقة» أو بطريقة بيع السلم، ولما شددت الحكومة على المرابين نزح كثير منهم إلى مصر - التي ابتليت منذ القدم بالأجانب المشتغلين لها - فأقرضوا تحت أعين حكامها الرومانيين ورعايتهم بفائدة بلغت 80٪ في كثير من الحالات.
ولقد كان الربا متأصلا في نفوس الرومان. وكانت عقود الاقتراض تبيح للدائن أن يسترق مدينه عملا بالشرط الذي يلزم المدين أن يضع نفسه تحت تصرف الدائن إذا عجز عن الوفاء.
ومع هذا لا يفوتنا أن نذكر هنا أن القانون الروماني قد وضع القاعدة التي نقلها المشرع الفرنسي ومن أخذ عنه، وهي إمكان اتخاذ دفاتر البنوك حجة على المتعاملين وغيرهم، ودليلا من أدلة الإثبات في الدعاوى التجارية.
العصور الوسطى
ننتقل بعد ذلك إلى ما يعرف عند المؤرخين بالعصور الوسطى، وهي فترة احتضار الإمبراطورية الرومانية بين سقوط شقيها الغربي والشرقي، وتلك حقبة من الزمن سادت فيها العقائد الدينية عند المسيحين والمسلمين على السواء. أما في البلاد الإسلامية فعلماء الشرع لا يرون التعامل بالربا، وأما في البلاد المسيحية فقد كان رجال الدين يحرمون إقراض النقود بالفائدة وقد سموها الربا، ويحرمون أيضا إقراض السلع المستهلكة كالحبوب إذا كان ردها أكثر مما أعطيت؛ لذلك انفرد اليهود بعمليات الإقراض في مختلف الدول، وأرهقوا الناس بشروط فادحة جعلتهم موضع الكراهية والمطاردة والاعتداء في كثير من البلاد.
ولكن الظروف السياسية والاقتصادية - وخصوصا في بيزنطة التي ورثت تقاليد الإغريق والرومان - جعلت الكنيسة تتسامح تدريجيا، فلا تأخذ محاكمها بالشدة من يتعامل بالفائدة. وجاء بعض الباباوات يجيز التعامل بالفائدة على أن تكون قليلة وحمى بعض المقرضين بالفعل، بل توسط لهم في تحصيل ديونهم كي يمنع عبث اليهود وسيطرتهم على مرافق التجارة والمال. فنشطت على أثر ذلك شركات صغيرة مكونة في الغالب من أفراد عائلة واحدة غنية تقوم بأعمال البنوك بمالها، وربما أمدها حاكم أو غني مستتر بماله أيضا. وقد أقرضت الأفراد والحكومة والنبلاء واستظلت بظلهم تستمد منه الجاه والمعونة وتدفع به الأذى عن نفسها. وكثيرا ما اقترضت الحكومات والبلديات من هذه البنوك لتشتري الحبوب في أوقات المجاعة أو لتنفق على الحروب، وكتبت للبنوك صكوكا بالدين وفوائده ومواعيد دفع أقساطه؛ فكان من ذلك أساس الديون العامة وصلة البنوك بها.
ولهذا فقد رأى بعض الحكام أنه لا مفر من تعضيد هذه الشركات، بل لا بد له من خلقها لتقف إلى جواره في الأزمات ولتساعده في التجارة، فنجد حاكم البندقية ينشئ في سنة 1171 البنك المعروف ببنك
Bank of Wenice
باكتتاب جبري فرضه على الأغنياء فرضا، وتعهد لهم بضمان ربح لا يقل عن 5٪ سنويا، ثم أشرك الحكومة معهم بالمال، وجعل على إدارة ذلك البنك موظفين يعينهم لإدارته.
وقد نجح ذلك البنك المركزي شبه الحكومي نجاحا كبيرا دفع بلادا أخرى إلى تقليده؛ فقام على قواعده بنك سانت جورج وبنك برشلونة في القرن الرابع عشر. وأخذت الفكرة تنتشر من بلد إلى آخر حتى أخذ بها الهولنديون حين كبر ملكهم ونشطت تجارتهم بعد توسعهم الاستعماري، فأنشئوا في أمستردام بنكها المعروف
Bank Amesterdam-“Bank van Wissel”
سنة 1609 في كنف الحكومة وتحت إدارتها بواسطة موظفيها.
وقد أساء الموظفون الهولنديون إدارة ذلك البنك وعبثوا بأمواله، وعمل تحقيق في سنة 1760 اتضح منه أن الودائع التي كانت مقدرة في الدفاتر بمبلغ 30000000 جلدر لا يوجد منها في خزائنه سوى مبلغ 10000000 جلدر، وأن الموظفين قد سرقوا ما لا يقل عن ثلثي أموال البنك أو 66٪ منها. واضطرت الحكومة أن تعمل على دعمه؛ لأنها مسئولة عن أعمال موظفيها وضامنة للأموال المودعة فيه، ولكن عبث الموظفين لم يلبث أن اتضح مرة أخرى، فحين احتلت فرنسا هولاندا سنة 1790 وراجعت حساب البنك ظهر أنه مفلس بسبب تلاعب الموظفين واقتراض البلدية منه قروضا للبذخ؛ فاضطرت الحكومة الهولندية إلى أن تصفي أعماله وأن تدفع جميع ديونه.
شركات «جون لو»
ومن القصص الطريفة التي يرويها كتاب تاريخ البنوك لما فيها من دروس وعظات؛ قصة رجل اتفقت الآراء على أنه من أكبر نوابغ العالم في شئون المال، ولكنها اختلفت في حقيقته؛ فمن قائل إنه أكبر محتال مغامر عرفه التاريخ، ومن قائل بأنه رجل نزيه ولكن الظروف خانته؛ ذلكم «جون لو
John Law »، رجل استكتلندي الأصل على أعظم جانب من التحصيل العلمي والثقافة الاقتصادية، وضع رسالة قيمة سنة 1700 عنوانها
Money and Trade Considered ، ضمنها مشروع بنك مركزي يكتتب في أسهمه أربعون من كبار الماليين ليكونوا شركة تصدر الورق النقدي، وتغطيه بقروض ورهون على الأراضي؛ فتفيد من ثمرتها وتقوي من غطائها في الوقت ذاته، ولما لم يؤمن بمشروعه أحد في اسكتلندا أو إنجلترا شد الرحال إلى خصوم الإنجليز في فرنسا المتعطشة لمنافسة إنجلترا في التوسع الاستعماري والمالي.
رحب وصي العرش الفرنسي ب «جون لو» الذي وطد الصلة به وأقنعه بضرورة إنشاء بنك بأموال الحكومة. ولكن أصحاب البنوك الخصوصية ورجال المجلس المالي بفرنسا ناهضوا المشروع، فعدله إلى مشروع إنشاء بنك مملوك للأفراد وتحت إشراف الحكومة، فقبل الوصي ذلك وأعطاه امتيازا بالبنك وسط ضجة في البرلمان سنة 1716، وبدأ بنكه المسمى
Banque Générale ، فأصدر ورقا مغطى 100٪ بالذهب والفضة، ونجح في أعماله نجاحا كبيرا وأدى خدمة كبرى للفرنسيين؛ إذ اضطر البنوك الأخرى إلى تقليل سعر الفائدة التي كانت تقرض بها الأفراد والحكومة.
ولو أن الرجل وقف عند هذا الحد لكان من المفلحين. ولكن الطمع دفعه إلى الاستزادة من النجاح، وجعله يحصل من الملك عقب بلوغ رشده على امتياز بإنشاء البنك الملكي
Banque Royale
لإصدار الورق النقدي دون أن يكون مجبرا على دفع قيمته بالنقود المعدنية؛ فسبب بذلك تضخما في الورق النقدي صور للناس رخاء كاذبا، ودفعهم إلى تأسيس شركات كثيرة من النوع الذي تمليه ظروف التضخم ، بعضها نافع وبعضها خيالي. ولعبت الوطنية أيضا دورا خطيرا في إنشاء تلك الشركات التي قصد بمعظمها إغاظة الإنجليز وصراع شركاتهم التي تعمل في أمريكا وآسيا.
وانتهى الأمر بإفلاس البنك وشركاته ووقوع فرنسا في أزمة طاحنة دامت خمس سنوات. أما أغنى رجل في العالم فقد أضحى طريدا يتسول في الطرق حتى رتبت له إنجلترا معاشا مكافأة له على إفساد مالية عدوها اللدود فرنسا.
بقيت آثار هذه النكبة عالقة بأذهان الفرنسيين زهاء نصف قرن، حتى جاء رجل من كبار الماليين بجنيف سنة 1776، واستصدر من حكومتها امتيازا بإنشاء بنك
Caisse d’Escompte
له حق إصدار الورق النقدي، على أن يودع الخزانة الفرنسية مبلغا معينا من سنداتها تأمينا لما يصدره بموافقتها، ولكنه اضطر تحت ضغط الحكومة وطلباتها المتكررة أن يصدر ورقا لا يمكنه أن يعطي بدله نقودا معدنية، فتوقف عن الدفع، وتدخلت الحكومة لإنقاذه؛ فاسترد مكانته في سني 1777 و1779، ولكن الحكومة عادت ترهقه بالاقتراض حتى بلغ مجموع ما اقترضته منه 15000000 فرنك أرادت أن تسويها بأوراق أصدرتها الخزانة اسمها
Assignats
قبيل الثورة الفرنسية، ذكرت أن الغرض منها شراء أملاك الكنائس ورجال الدين لضمها إلى أملاك الدولة، وتعهدت في تلك الصكوك بأن تدفع عنها فائدة، فأقبل الناس عليها طمعا في الربح، وأكثرت الحكومة من إصدارها حتى بلغت 45500000000 فرنك فنزلت بذلك قيمتها. واضطرت الحكومة أن تصدر بدلا منها صكوكا أخرى عرفت باسم
Mandats
غطتها برهن ممتاز على بعض أملاك الجمهورية، ولكنها لم تفلح لفقد الثقة بها، فهوت إلى الحضيض، ولم تجد الحكومة بدا من إلغائها تماما سنة 1797.
الفصل الثاني
البنك المركزي في إنجلترا وفي فرنسا وفي ألمانيا وفي روسيا وفي الولايات المتحدة
بنك إنجلترا
ندع تلك البنوك التي أنزل عليها التاريخ ستاره لنتكلم عن أهم البنوك المركزية القائمة في الوقت الحاضر مبتدئين بعميدها؛ بنك إنجلترا. فهو وإن لم يكن أقدم البنوك الموجودة على قيد الحياة أو أكثرها مالا، إلا أنه برغم ذلك له مآثر لا تنكر في عالم البنوك وآثار خالدة في السياسة والاقتصاد والاستعمار البريطاني.
رسم الخطة الأولى لهذا المصرف العتيد رجل اسمه «وليم باترسون » سنة 1694، واستعان على تدبير ماله بجماعة من كبار الماليين في حي السيتي، بعضهم من الحزب المعروف بجماعة ال
Whigs
ليقرضوا الملك وليم الثالث
William
1200000 جنيه ليستعين بها في حربه مع لويس الرابع عشر ملك فرنسا نظير فائدة تدفع لهم سنويا بواقع 8٪ مضافا إليها ما سمي نفقات الإدارة، فيكون مجموع ما يدفع لهم 100000 جنيه سنويا، وعلى أن يكون من حق هذه الشركة أن تحصل على إذن من الحكومة البريطانية بإصدار الورق النقدي، وقد حصلت على ذلك الإذن بعد سنوات قليلة.
ولكن هارلي
Harley
وفولي
Foley
على رأس جماعة من ملاك الأراضي وأعيان الأقاليم والقساوسة والرجعيين من المطالبين بإعطاء الملكية أوسع الاختصاصات المعروفين
Tories
أغاظهم ذلك، فاتهموا منشئ بنك إنجلترا بأنهم انتهزوا فرصة احتياجه للمال وأقرضوه بربا فاحش، ورموهم علنا في البرلمان بأنهم أفاكون خونة. ولم يطل الأمر بحزب الملك حتى ناهضهم بمشروع أعده رجل جماع للمال كان في الأصل طبيب الأمراض النسائية ومولد الملكة آن، اسمه
Dr, Chamberlen ، فكون شركة من رجال البلاط وحزب الملك أنشأت بنكا يسمونه بنك الأراضي
Land Bank
له حق إصدار الورق النقدي على أن يغطى برهون على الأملاك الزراعية، وحجتهم في ذلك أنه لا خوف من إصدار الورق طالما هو مغطى بحقوق عينية على الأراضي الزراعية التي تغل إيرادا مضمونا يكفي أيضا لدفع ربح معقول للمساهمين.
وبالرغم من كون الملك وليم قد حاول أن يبقى محايدا في ذلك الصراع، إلا أنه اضطر تحت ضغط الحوادث إلى المساهمة في بنك الأراضي بمبلغ 5000 جنيه.
وقد قام مشروع هذا البنك على أساس قريب الشبه للمشروع الذي سبق أن وضعه جون لو. وقد فات مؤسسي هذا البنك أن طول مدة الرهن يفقد الأرض سمعتها وقيمتها. وقد ظنوا أن الأرض التي قيمتها مثلا 1000 جنيه إذا رهنت عشرة أعوام أتت بثروة توازي 10000 جنيه، وإذا رهنت عشرين عاما أتت بثروة توازي 20000 جنيه وهكذا، وحسبوا أن مثل هذه الثروة تصلح أساسا طيبا للغطاء عند الإصدار.
ولم يكتف خصوم بنك إنجلترا بمحاربته ماليا بل حاربوه دينيا؛ فقد وقف القس الدكتور
Sachervell
خطيبا في كنيسة سانت بول ودعا إلى مظاهرة قامت من هايد بارك لتخريب بنك إنجلترا ونهبه، ولكن الملكة
Anne
آن أرسلت حرسها الملكي فحافظ على البنك وحماه من المعتدين، وقد حفظ البنك لها هذا الصنيع ووثق العلاقات معها. ولكنها اضطرت من ناحية أخرى أن ترضي المناصرين للملكية، فأصدرت لهم امتيازا بشركة
South Sea
محاربة لنفوذ فرنسا في أمريكا. وقد أقحموا الملك جورج الأول، فأجلسوه في رياسة شركات فجة، وجعلوا في عضوية إدارتها بعض ذوي النفوذ ليقبل الجمهور على الاكتتاب فيها. وقد أفلست هذه الشركات وحقق البرلمان في تصرفاتهم، وأصدر قراره بإدانة هؤلاء العظماء الذين غرروا بالشعب وأوقعوه في مشروعات خائبة.
ولقد استطاع بنك إنجلترا أن يقوم بعمله على الوجه الأتم وسط تلك العواصف الحزبية والمالية، ولعل من حسن حظه أن خصومه قد منعوا بنص صريح مساهمي بنك إنجلترا من الاشتراك في بعض شركاتهم. ولكن بنك إنجلترا رغم كيدهم له كان رحب الصدر مع خصومه؛ فلم يمتنع عن بذل المساعدة لإنقاذ أعوان الحكومة من الورطة المالية التي أوقعوا أنفسهم فيها.
ولم يبخل على الحكومة البريطانية بالقروض في الحروب والأزمات التي سببت لها ديونا بلغت في سنة 1750 ما قدر بمبلغ 75 مليونا من الجنيهات، منها لبنك إنجلترا وحده 12 مليونا. وهذا الدين ليس بالقليل في ذلك الوقت على شعب عدده ستة ملايين ونصف مليون نسمة. لقد قبل البنك عن طيب خاطر أن ينزل فائدة دينه إلى 4٪، ثم أنزلها مرة ثانية إلى 3٪، وفوق هذا فقد تكفل بتحويل وحدته ديون الحكومة المختلفة الأنواع، فأحسن القيام بتلك المهمة التي عهدت إليه بها الحكومة البريطانية.
ولما ولي الحكم العبقري بت الصغير
أخذ على عاتقه وهو في الخامسة والعشرين من عمره سنة 1783 أن يعمل على تخفيض ديون إنجلترا بتقليل النفقات واتخاذ احتياطي يخصص في الميزانية لاستهلاك الديون. ولكن الثورة الفرنسية لم تمهله، فقد جرت في أعقابها صراعا عنيفا في القارة الأوروبية امتد لهيبه إلى إنجلترا، وأوشك أن يتناولها في مستعمراتها، ولم يكن بد لإنجلترا في أن تقترض لتستعد للحرب التي لم يكن ثمة مفر من الدخول فيها.
ولما كان بنك إنجلترا مقيدا بمقتضى القانون ألا يقرض الحكومة إلا بتصريح من البرلمان، فقد استصدر «بت» قانونا يعفي بنك إنجلترا من هذا القيد، ويطلق يده أن يقترض ما يشاء من ذلك البنك في تلك الفترة الحالكة السواد التي تعلقت فيها مصائر إنجلترا بين الحياة والفناء. وقبل البنك ذلك ولكنه تعرض للإفلاس؛ إذ أكثر من البنكنوت وجاء الناس يطالبونه بالقطع النقدية المعدنية. وهمت الحكومة أن تعفيه من ذلك، وإذا بزعماء المال يجتمعون ويمضون تعهدا ألا يسحبوا أموالهم وألا يطالبوا بالنقود المعدنية. ذلك موقف خالد من مواقف الوطنية العملية، لا بد لنا من أن نذكره بالإعجاب لقوم بنوا مجدهم على الأخلاق والتضحية.
ولما انتصر الإنجليز على نابليون عادت الثقة إلى المالية البريطانية، وجاءت الأموال والسبائك المعدنية تتدفق على البنك وغيره من البنوك الأخرى، وأعادت الحكومة العمل بالمادة التي كانت تحرم على بنك إنجلترا ألا يقرضها إلا بعد استئذان البرلمان.
ولم تكن شدائد الحروب فقط هي التي أدى فيها البنك واجبه نحو بلاده، بل أدى ذلك الواجب في أزمات السلم أيضا عندما عمت ضائقة نقص المحاصيل الزراعية، ونشأت مفاجآت التنافس الصناعي وتخبط شركات التأمين التي تعرضت فيها بنوك إنجلترا وشركاتها للخراب فعلا، فتقدم بنك إنجلترا وقاد السفينة قيادة ربان ماهر فنجت بأقل الخسائر الممكنة.
ولقد كانت لهذا البنك اليد الطولى في إقالة عثرات كثير من الشركات الاستعمارية، وفي إنشاء البنوك التي تعمل في الخارج لمصلحة التجارة والاستعمار البريطاني. وكم كلفته الحكومة البريطانية سرا وعلنا أن يمد هذه الشركات بالمعونة. وحسبه أنه مكن للحكومة البريطانية أن تشتري موجودات شركة الهند الشرقية عندما قرر البرلمان ضمها إلى التاج ليحكم الهند، وأنه أعطى تلك الحكومة أيضا المبلغ الذي دفعته ثمنا لأسهم شركة قنال السويس عندما عرضها الخديو للبيع بثمن بخس.
لم يكن من المستغرب بعد هذا كله أن تنظر إليه الحكومة والشركات والأفراد في إنجلترا نظرة الإعجاب بما انطوى عليه من رعاية مصلحة الجميع؛ فقد لمسوا قيمة تلك الخصال التي طبع عليها مساهموه وإدارته على مرور الزمن وتعاقب الأحداث.
ولقد وصف هذا البنك
Walter Pagehot
أدق وصف وأوجزه في كتابه
Lombard Street
الذي طبع سنة 1873 فقال: «إن بنك إنجلترا قد نجح؛ لأنه عرف أن يؤدي واجبه في نظر ثاقب لا يحابي أحدا، بل يعمل للمصلحة العامة وحدها، فيدخر في وقت الرخاء احتياطيات هائلة يتقدم بها مخاطرا في أوقات الشدائد لينقذ بلاده.» وقد أعجب بهذا الوصف اللورد كنيس، فقال عنه في سنة 1926: «إنه قد أمم بنك إنجلترا بتلك العبارة الجامعة منذ خمسين سنة مضت.» تلك نبوءة صدقت قولا وتأويلا؛ فقد تحققت سنة 1945 عندما أممته الحكومة، ولم يشعر أحد بأقل فارق.
بنك فرنسا
ذلك بنك إنجلترا قام على أموال الأفراد، وتدرج مع الزمن في تقاليد جعلته يضع مصلحة الإمبراطورية في المقام الأول، هو بنك يختلف بعض الاختلاف عن بنك فرنسا الذي أنشئ سنة 1800 في عهد نابليون الذي لم يقصر كل همه على الحروب، بل نهض بفرنسا في الاجتماع والقانون والمال.
تأسس بنك فرنسا برأس مال قدره 30000000 فرنك مقسم إلى أسهم قيمة كل سهم منها 1000 فرنك، كتبت فيه الحكومة بما قيمته 5000000 فرنك، والباقي من رأس المال اكتتب به الأفراد والشركات، ثم زيد رأس ماله سنة 1948 عندما ضمت إليه تسع بنوك إقليمية صارت ضمن فروعه المنتشرة في فرنسا.
نشأ هذا البنك أول أمره شبه حكومي خاضعا لسلطان الحكومة الفرنسية إلى حد كبير؛ فهي مساهمة فيه، ولا رأي غير رأيها في إدارته وسياسته. وقد احتكر إصدار البنكنوت في فرنسا، وأكثر من إصداره بالنسبة لبنك إنجلترا؛ لأن الفرنسيين لا يستعلمون الشيكات بالكثرة التي يستعملها الإنجليز.
وتستودع الحكومة الفرنسية هذا البنك أموالها، ويقوم لها بخدمات كبيرة بغير أجر، وتستطيع دائما أن تلزمه بتقديم قروض لها، ولا يقتصر عمله على الحكومة والبنوك، بل يتعامل مع الأفراد ويحفظ لهم الودائع، ويعطيهم خطابات الاعتماد، ويشتري ويبيع لهم الأوراق المالية في البورصات. وهو في هذا يخالف ما كان الإجماع منعقدا عليه من ضرورة ابتعاد البنوك المركزية من التعامل مع الأفراد.
وقد وجه بعض الكتاب إلى هذا البنك انتقادين؛ أولهما : أنه بالغ في كثير من المواقف في جمع السبائك المعدنية الذهبية منها بوجه خاص عملا بالأساليب الكلاسيكية التي تعتبر المعادن النفسية عنوان الرخاء وعماد الثبات في سعر العملات. وثانيهما: أنه كان خاضعا خضوعا أعمى لأوامر وزارة المالية الفرنسية، لا يناقشها ما تطلبه من قروض، ولو كانت عقيمة أو كانت بواعثها العمل على تصوير التوازن لميزانيات ملفقة؛ مما أدى إلى هبوط الفرنك.
ومهما يوجه إليه من انتقاد فمن حقه عليها أن تذكر له أنه قد أدى واجبه هو الآخر نحو بلاده في حروبها وأزماتها، وفي نشر استعمارها وتجارتها قبل أن يتحول كزميله بنك إنجلترا إلى بنك مؤمم مملوك للدولة.
الريشبنك في ألمانيا
ومن النماذج الفريدة في بابها: بنك الريخ الألماني، الذي أنشئ في سنة 1875 بعد أن توحدت ألمانيا وانتصرت على فرنسا في الحرب السبعينية. وكان من المتعين أن يوجد نظام الإصدار الذي كانت تقوم به بنوك الدويلات من قبل، وأن يكون للإمبراطورية الجرمانية بنك مركزي تقوم عليه نهضتها الاقتصادية التي يجب تجنيد القوى لتسرع فتحتل ألمانيا المكان اللائق بها؛ ولهذا كان من خصائص النظام الألماني أن يجعل البنوك على صلة وثيقة بالصناعة على عكس النظام الإنجليزي والفرنسي - ولا يماثل النظام الألماني إلا نظام النمسا والمجر واليابان قبل الحرب الماضي - وأن يجعل البنوك أيضا على صلة كبيرة بالحكومة والهيئات العامة.
لقد جنت الحرب العالمية الأولى على ألمانيا، وأفقدت برلين سوقا مالية عظيمة كانت تمتاز بكونها تقترض لآجال طويلة في حين أنها هي تقترض لآجال قصيرة، كما جنت أيضا على بنك الريخ الذي وإن استطاع بمهارة فائقة أثناء تلك الحرب أن يمول ألمانيا وحلفاءها الذين كانوا عبئا ثقيلا عليها لقلة مواردهم، إلا أنه خرج منها منهوك القوى غارقا في خضم من الورق النقدي الذي فقد قيمته سنة 1923 حين أعلنت الحكومة الألمانية عجزها عن سداد ما عليها، ومد لها الحلفاء يد المساعدة لتستطيع أن تدفع لهم ما فرضوه عليها من ديون.
أعاد الحلفاء بنك الريخ سنة 1924 في نظام جديد فرض عليه طبقا لمشروع داوز
Dawes
أن يبتعد عن الحكومة، وأن يعين في مجلس إدارته قوميسيرا أجنبيا، ثم جاء مشروع «يونج» فأحل خبيرا أجنبيا محله. ولكن هتلر أرجع البنك تحت سيطرة الحكومة وجعله مسئولا أمام الفوهرر، ولو أن أسهمه تحملها الأفراد. ولقد لعب هذا البنك دورا خطيرا أثناء الحرب العالمية الثانية في تمويل ألمانيا، وكان واسطة التعامل بين الدول المحتلة التي ربط عملاتها بعملته في نظام محكم للتبادل التجاري بزعامة المارك في منطقته التي أخضعتها جيوش الألمان قبل هزيمتهم، وجعلت عملتها متصلة بالمارك اتصال الإسترليني بالعملات التابعة له.
نظام روسيا الشيوعية
أما روسيا فإنها أنشأت بنكها المركزي ملكا للحكومة سنة 1860 في العهد القيصري. ولكنها أسرفت في الاقتراض منه وفي حمله على إصدار ورق نقدي كان يعوزه الغطاء السليم. فكان النظام القيصري مضرب المثل على فساد الإدارة الحكومية حين تسيطر على بنك الدولة.
وقد تغير هذا النظام على أيدي البلاشفة الذين جعلوا الغابات والمزارع والمصانع والمواصلات كلها ملكا للدولة، وهي التي تقوم بالتوزيع في نظام متماسك متشابك يعود بالنفع على الأمة في مجموعها - كما يقولون - وجند فيه الأفراد في مختلف طرائق الإنتاج التي تقوم بالصرف عليها ميزانية ضخمة تجمع في ميزانيات الاتحاد السوفيتيي بإشراف الهيئة التشريعية المركزية، وهذه الميزانية هي التي تمد البنك الحكومي بالمال طبقا لما يرسم له من خطط.
ومنع هذا النظام سنة 1921، وأعطي البنك حق إصدار ورق النقد «البنكنوت»، وقد حصر فيه بمقتضى القانون حق امتلاك الذهب، سواء ما يوجد منه في البلاد أو ما يستورد من الخارج، وكذلك له وحده حق امتلاك المعادن التي تقرب منها القطع المعدنية، وحق امتلاك العملات الأجنبية التي توجد أو ترد إلى روسيا.
وقد استطاع هذا البنك بعد مجهود عنيف أن يثبت العملة الروسية، وهو المسئول عن غطاء النقد وكل ما يتعلق بالعملات، وتحت تصرفه بنوك صغيرة منتشرة في البلاد تقوم بالقروض الطويلة الأجل. أما القصيرة الأجل فهي من حق بنك الحكومة الرئيسي وحده.
ومهمة هذا البنك أن يمول الإنتاج بمختلف أنواعه من يوم أن يبدأ الإنتاج إلى آخر مرحلة يباع فيها. ويزعم البلاشفة أن نظامهم مرن يجعل النقود لا تبقى عاطلة أية مدة، مع أنه يخضع المقترض إلى إشراف حكومي وتوجيه يقيدانه. فإذا أخفق حقق معه لمعرفة أسباب الإخفاق، فإذا كان العمل الذي اقترض من أجله مجديا استمر فيه، وإلا منع منه وسئل عن نتائج أخطائه.
وتدخل أرباح هذا البنك وخسائره في الميزانية العامة. أما موارده فتأتيه من ودائع مخصصة للإنتاج وتنفيذ برامج أعدت للصناعة ولتمويل الإنتاج في المزارع التعاونية ومن احتياطي خاص يؤخذ من أرباحه، فضلا عما تخصصه له الميزانية العامة للاتحاد سنويا.
وهذا البنك مسئول أكبر المسئولية عن جعل كمية النقود وحركتها مطابقتين لحاجات البلاد، وهو وحده الذي يستطيع أن يتعامل مع البنوك الخارجية، وعند اللزوم يصدر له قانون بتحديد سعر العملات الأجنبية.
الطريقة الفدرالية في الولايات المتحدة
نترك العالم القديم لننتقل إلى توأمه الحديث الاكتشاف الذي قام كيانه الاقتصادي على أكتاف جماعات نشيطة هاجرت إليه زرافات ووحدانا معظمهم من القارة الأوروبية؛ لدواع دينية، أو سعيا وراء الرزق في استخراج المعادن النفيسة، أو فلاحة الأرض. ولقد كانت تلك القارة مسرحا لمعارك طاحنة بين هؤلاء الأقوام، بل أيضا بين بعضهم وبين الإنجليز في حرب انتهت باستقلال الولايات المتحدة.
وإن لنا في تاريخ الولايات دروسا يجب الانتفاع بها حين تتطور من بلاد كان جل اعتمادها على الزراعة، إلى بلاد تجمع بين الزراعة والصناعة في أرقى الأساليب المبتكرة التي باتت يحسب لها أكبر حساب في المنافسة الدولية والتهيؤ لانتزاع أسواق المال من القارة الأوروبية.
ونظام بنوكها المركزية المتحدة في إدارة عامة جاء وليد تجارب قاسية مرت بها البنوك والحكومة والأفراد في أدوار متلاحقة من الرخاء والأزمات والاعتبارات الإقليمية المختلفة.
ولقد قضت ظروف هذه الولايات أن تكون الخطوة الأولى إنشاء بنوك الأراضي
Land Banks
في سنة 1686 لمساعدة المزارعين على استغلال أراضيهم. وكان من حق هذه البنوك أن تصدر ورقا نقديا، ولكنها تحت ضغط الحاجة أسرفت في إصداره إلى حد جعل إبداله بالنقود المعدنية متعذرا؛ فجر هذا إلى تضخم سيئ العواقب تلته أزمات مما اضطر الحكومة أن تخطو الخطوة الثانية بإنشاء بنوك حكومية في الولايات
State Banks
أولها بنك
The Bank of the State of Peunysilvania ، ثم بنك
The Bank of the State of New York ، ثم بنوك أخرى بعضها مملوك للولاية وبعضها مملوك لها وللأفراد مثل بنك
Bank of Indiana ، ومضت هذه البنوك في أعمالها تصدر الورق النقدي وتقبل الودائع وتقترض وتقرض، ولكن القروض زادت عن الودائع.
ولما لم تكن هذه البنوك على جانب من القوة والتنظيم يسمح لها أن تنهض بالولايات المتحدة كدولة تسعى إلى هدف في المعترك الدولي، فقد أسست الحكومة سنة 1791 بنكا مركزيا شبه حكومي
Bank of the United States ، رأس ماله 10000000 دولار، دفعت منها الحكومة 2000000 دولار، والباقي اكتتب به الأفراد والبنوك. ونقلت عن بنك إنجلترا وتقاليده بعض موارد هذا البنك. وبدأ عمله في فيلادلفيا، واستودعته الحكومة والبنوك والأفراد ما زاد لديهم من مال، فضلا عن كون الحكومة قد اعتمدته في تحصيل مالها أو أداء ما عليها للأفراد.
ولما انتهى امتياز هذا البنك بعد عشرين عاما، وأرادت الحكومة أن تمد مدته لعبت الأهواء السياسية دورا خطيرا فرفض مشروع القانون بصوت واحد في المجلسين، واضطر البنك أن يصفي أعماله في سنة 1811.
نشطت على أثر ذلك البنوك الأخرى نشاطا ضارا، فحدثت أزمات اتضح منها بوجه قاطع خطأ تصفية ذلك البنك؛ فأنشأت الحكومة بنكا ثانيا على غرار البنك الأول عرف باسم
The Second Bank of the United States ، وجعل امتيازه كذلك لمدة عشرين عاما، وقام على إدارته مجلس مكون من عشرين عضوا تنتخبهم الجمعية العمومية للمساهمين وخمسة أعضاء يعينهم رئيس الولايات المتحدة بموافقة الكونجرس. وكان مركزه الرئيسي في فيلادلفيا أيضا وله فروع منتشرة في المدن الهامة.
وبالرغم من كون هذا البنك قد أصلحت فيه العيوب التي أخذت على البنك الأول، وبالرغم من كونه قد قام للحكومة والأفراد بخدمات لا تنكر، إلا أن تدخل الحكومة في إدارته واضطرارها تحت ضغط سياسي لم تقو على مواجهته إلى سحب ودائعها منه وإعطائها للبنوك الإقليمية التي كثر عددها، وساءت إدارتها، كل أولئك سبب للبلاد كارثة مالية جعلت هذا البنك يتوقف عن الدفع في سنة 1841.
ساء الموقف بعدئذ؛ فالبنوك الإقليمية متضاربة السياسة، ومصادر النفوذ الورقية متعددة، ونظمها متغيرة متبدلة، وزاد الموقف سوءا على سوء قيام الحرب الأهلية؛ فأصبح من المحتم بعد هذا أن يصدر قانون في سنة 1863 ينظم أعمال البنوك في الولايات المتحدة.
نص ذلك القانون على نظام يعرف ب
National Banks System ، بمقتضاه يتعين على البنوك في الولايات المتحدة أن تملك ضمانا لإصدارها سندات حكومية بقيمة 25٪ مما تصدره هذه البنوك من ورق وما تحفظه من ودائع. عمل هذا القانون على ضبط أعمال البنوك، ومكن للحكومة أن تعترض منها وبين واجباتها في الإصدار، وحدد لها المدة التي يعطى فيها الامتياز بعشرين عاما.
ولكن هذا النظام رغم متانته الظاهرة لم يحل الإشكال الأول، وهو عدم توحيد سياسة البنوك لمصلحته الاقتصاد القومي في الولايات المتحدة. وقد اتضح هذا العيب جليا في أزمة سنة 1907 عندما شكلت الحكومة لجنة
National Monetary Committee
لتبحث أسباب ونتائج تلك الضائقة ... وقد قدمت تلك اللجنة تقريرا لفتت فيه النظر إلى أنه من عيوب ذلك النظام عدم توحيد السياسة، وعدم مرونة النظام نفسه، وضعف السوق المفتوحة لخصم الأوراق التجارية والزراعية، وبالجملة عدم انطباق هذا النظام تماما على حاجات البلاد.
وكان هذا التقرير أساس التعديل الذي أقره الكونجرس سنة 1913 للنظام الحالي المعروف ب
Federal Reserve System
المتبع الآن في الولايات المتحدة، ومن أهم أغراضه تدبير نظام مرن في إشراف دقيق وتنظيم عام مركز.
قسمت الولايات المتحدة بمقتضى هذا النظام الجديد إلى اثنتي عشرة منطقة، في كل منطقة منها مدينة هامة للاحتياطي بها بنك مركزي له مجلس إدارة مكون من تسعة أعضاء، ويتكون رأس ماله من اكتتاب تدفعه البنوك، وقد تساهم الخزانة العامة للدولة بمبلغ معين تأخذ به أسهما بناء على اقتراح من لجنة
Organisation Committee ، ولكن لوزير المالية أن يتصرف ببيع هذه الأسهم إذا لم تعد هناك حاجة إلى امتلاكها.
وكل بنك من هذه البنوك له حرية العمل في استقلال ذاتي يتعامل فيه بالسوق المفتوحة وبالخصم ويتصل بالبنوك المركزية الأخرى. ولكن تشرف على هذه البنوك هيئة مركزية في واشنجتن تسمى
Board of Governors of the Federal Reserve System ، ترسم لها خطة العمل الموحد حتى لا تتضارب الخطط. وهذه الهيئة تتكون من سبعة من المديرين يعينهم رئيس الولايات المتحدة بموافقة مجلس الشيوخ. وبهذا فإن اللامركزية تصبح اسمية أكثر منها فعلية؛ لأن هذه الهيئة المركزية تنسق العمل بين تلك البنوك، وتجعلها ترعى رعاية موحدة للاقتصاد الوطني.
ذلك النظام الأمريكي لا نظير له في بلد آخر من بلاد العالم التي في كل منها بنك مركزي واحد. إن هذا النظام الأمريكي بلا شك فذ في نوعه؛ لأنه يقوم على اثني عشر بنكا يتبعها أربعة وعشرون فرعا لها يساهم فيها 6300 بنك. ومثل هذا النظام لم يسمع بمثله في بلاد أخرى، ومن المتعذر - إن لم يكن من المستحيل - أن يطبق في غير الولايات المتحدة.
الفصل الثالث
وظائف البنك المركزي، رأس ماله، إدارته، الأعمال التي يمتنع عن مباشرتها
(1) وظائف البنك المركزي
بعد أن قدمنا للقارئ نماذج طيبة اخترناها من ماضي الدول وحاضرها شرحا لتطورات أو صفات أو مواقف للبنوك المركزية، يطول بنا الحديث إذا أردنا أن نصف له كل بنك من البنوك المركزية في الدول المختلفة؛ لذلك حسبنا أن نزجي صورة عامة لنظم هذه البنوك وإدارتها حسب آخر ما وصل إلينا بعد التعديلات التي أدخلتها الدول على بنوكها أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها. فبعض البلاد رأت أن تملك حكوماتها بنكها المركزي في النظام الذي يطلق عليه التأميم، والبعض الآخر جعله شركة بين الحكومة والأفراد، والبعض اختار شركة بين الحكومة والأفراد والشركات، والبعض فضل أنه يكون مملوكا للشركات وحدها.
وإذا كانت الآراء مختلفة على ملكية الحكومات لبنوكها المركزية، فإنه من المجمع عليه أن وظائف البنك المركزي في شكل أو آخر تكاد تكون قائمة على ما يأتي: (1)
إصدار البنكنوت؛ ولهذا كان يسمى البنك المركزي ببنك الإصدار؛ تمييزا له عن البنوك الأخرى. (2)
العمل على تثبيت النقد وجعله مطابقا لحاجة البلاد، وهذا أهم عمل البنك المركزي، حتى قال بعض الكتاب في وصف البنك المركزي إنه البنك الذي يعمل على تثبيت النقد. (3)
القيام بخدمات معينة للحكومة والبنوك، فتستودعه الحكومة مالها وتقترض منه، وهو يعمل على الوقاية من الأزمات وعلاجها إذا وقعت، وهو أيضا بنك البنوك تحتفظ فيه بقدر من مالها وتقترض منه عند الحاجة. (4)
وضع سياسة للبنوك تمنعها من التنافس الضار وتمكنها من تأدية الائتمان على أتم وجه. (5)
القيام تحت رقابة الحكومة بتوجيه الاقتصاد القومي في البلاد. (6)
الاتصال بالبنوك المركزية الأخرى والتعاون معها.
هذه هي الخطوط الخارجية لمهام البنك المركزي يذكرها الكتاب في عبارات مختلفة الشرح والتعليق.
إصدار البنكنوت
إن وظيفة إصدار البنكنوت لمن أخطر وظائف البنك المركزي؛ ولهذا فقد جرى العمل حتى أوائل القرن الحالي على تسميته ببنك الإصدار؛ تمييزا له عن البنوك الأخرى. والأصل أن إصدار العملة معدنية كانت أم ورقية من اختصاص الحكومة؛ لأن النقود تقدر الأرزاق وتنقلها بين الناس.
وتلزم الحكومة البنك المركزي بأن يغطي ما يصدره من بنكنوت بالذهب أو بالفضة أو بهما معا، وبسندات أوراق مالية ثابتة القيمة مستندة إلى الذهب؛ حتى لا ينطلق البنك في الإصدار جزافا، وحتى يكون الناس في أمن من التعامل بالبنكنوت.
وعملية إصدار البنكنوت يجب أن تهدف إلى ضبط كميته وفقا لمطالب البلاد التي يصدر فيها؛ فالكثرة في الإصدار تسبب تضخما ينزل قيمة النقود ويرفع الأجور وأسعار السلع، والقلة فيه تسبب التقلص الذي يرفع قيمة النقود ويهوي بالأجور وأسعار السلع.
وقد اضطرت الحكومات تحت ضغط الحروب والأزمات إلى تغيير نظم الغطاء ونسبته، فتارة تعفي البنك من اتخاذ الذهب غطاء، وتارة تنقص من النسبة المفروضة فتجعلها الثلث مثلا بدلا من النصف، وتارة تجعل الغطاء من السندات الحكومية لما تدره من فائدة تقاسم البنك فيها.
ولا توجد قاعدة عامة للغطاء. والغطاء الأمثل في نظرنا هو الذي يستند بعضه إلى نسبة قليلة من الذهب وأغلبه إلى سندات الحكومات ذوات السمعة المالية والأثر الأكبر في تجارة الدول.
تنظيم الائتمان
لعل وظيفة البنك المركزي في تنظيم الائتمان هي أدق وظائفه وأخطرها شأنا في حياة الأمم. ولقد ذهب كثير من الكتاب إلى اعتبارها المهمة الأولى التي تتفرع عنها مهماته الأخرى. قد تأثر بهذا الرأي واضع نظام بنك كندا المركزي فقال: إن مهمته تنظيم الائتمان والعملة ومنع تقلبات الأسعار ورفع مستوى الإنتاج والتجارة.
ومما لا جدال فيه اليوم أن الائتمان يخلق مالا لمن لا مال عنده، وأنه كان من أسباب تأخر الدول وخرابها في الأزمنة القديمة جهل الحكومات بأهمية الائتمان. أما الآن فقد غدا الائتمان له القسط الأوفى من عناية الباحثين والحكومات بعد أن كثرت دواعي المال ومعضلاته. وأصبح الاقتصاد الائتماني مفضلا على الاقتصاد النقدي الذي كان يرى جمع النقود وتكديسها المطلب الأول عند الأفراد والحكومات.
إن ثبات الأسعار وثبات سعر الصرف منوطان بالائتمان، وكلاهما منفعل به. فإن قيل إن ثبات الأسعار في الداخل هو المقدم، وإن ثبات سعر الصرف رهين بإرادة الدول الأخرى، فمما لا شك فيه أن تقدم الأمم واستقرار الحياة هادئة فيها أمران يتصلان اتصالا وثيقا بالرفاهية عند الشعوب كافة.
ويعتمد البنك المركزي في تنظيمه للائتمان على وسائل بعضها مادي، والبعض الآخر أدبي، وهي بوجه عام ما يأتي:
أولا:
رفع أو خفض أسعار الفائدة، فيزيد أو ينقص الائتمان فيساعد أو يعوق سير الأعمال الحرة.
ثانيا:
بيع وشراء السندات والحوالات في السوق المفتوحة، فيخرج المال أو يسحبه ليزيد أو ينقص من الائتمان ليضبطه عند الحد الواجب.
ثالثا:
التدخل بطريق مباشر أو غير مباشر في أعمال البنوك؛ حتى لا تفسد جو المال، أو تسبب مضاربات، أو تساعد على أعمال خائبة.
رابعا:
استعمال النفوذ الأدبي في تهيئة حالات نفسية عند البنوك والشركات والأفراد لتغيير اتجاهات ضارة، أو لتوجيه مفيد، خصوصا إذا كان في مجلس إدارته مديرو بعض البنوك والشركات؛ فإنهم يتأثرون برأيه ويحملون نصحه إلى شركائهم والمتصلين بهم، فيسهل تنظيم الائتمان وتنسيقه بين مختلف البيئات الاقتصادية.
بنك البنوك
اكتسب البنك المركزي بمقتضى ما جرى عليه العمل صفتين؛ الأولى: اعتباره بنك البنوك، والثانية: اعتباره بنك الحكومة. فلزمته الصفتان بالسنن قبل أن ينص عليها التشريع. بل إن بعض البلاد لا نجد فيها تشريعا يفرض على البنك المركزي أي التزام قبل البنوك والحكومة؛ فقد حدث في إنجلترا أن البنوك الإنجليزية وجدت من مصلحتها وقد أصبح بنك إنجلترا موضع ثقة الحكومة أن تستودعه قسما من أموالها. وكذلك استودعته البنوك الإرلندية والاسكتلندية بعض أموالها؛ فمكنه ذلك ابتداء من سنة 1854 من أن يقوم بعمليات المقاصة بين كثير من البنوك.
وإيداع البنوك ما زاد عن حاجتها في البنك المركزي أمر يفيد منه البنك كما تفيد منه البنوك أيضا؛ فيتم لها عن طريق ذلك تعاون يمكنه من رعاية الاقتصاد القومي، ويستطيع في الأزمات وعند كثرة الطلب في الأعمال الموسمية أن يساعدها من مالها المشترك، وأن يوسع نطاق الأعمال على أساس مرن، فيخصم أو يعيد خصم حوالاتها، ويمدها بالمال الذي يسهل عليها به مواجهة الطلبات التي تنهال عليها في الأوقات الحرجة.
وفرض نسبة معينة على البنوك بمقتضى القانون إجراء حديث العهد. ولعل الولايات المتحدة هي أولى الدول التي فرضته بنص قانوني ملزم للبنوك المرخص لها. وقد نقلته عنها قوانين بلاد كثيرة بعد الحرب العالمية الأولى. وهو ضروري عند الدول التي ليست لبنوكها سنن مرعية يقوم بها العرف مقام القانون. وتختلف النسبة التي يفرضها القانون في بلد عنهما في بلد آخر، فبعض البلاد يجعلها 10٪ من الودائع التي تحت الطلب و20٪ من الودائع المؤجلة، والبعض الآخر يزيد أو ينقص في الحالتين. وأحسن نظام في نظري هو نظام أستراليا الذي يجعل تحديد النسب متغيرا وخاضعا لما يتم عليه الاتفاق بين البنك المركزي وبين وزير المالية.
ويقوم البنك المركزي بإعادة خصم الحوالات للبنوك التجارية. وفي النادر جدا أن تقوم بعض البنوك بخصم حوالات الأفراد إلا في ظروف معينة، وبشروط معينة سنتكلم عليها فيما بعد. وقد كان المتبع في بنك إنجلترا إلى قيام الحرب العالمية الأولى ألا يخصم إلا الصكوك التجارية القصيرة الأجل، وكانت معظم البنوك المركزية تقلده في هذا، وسبب ذلك يرجع إلى ضرورة عدم الإسراف في الخصم؛ حتى لا ينضب معين البنك المركزي إذا تعرض لخصم يستبقي ماله معطلا خارج البنك لوقت طويل، في حين يجب عليه أن يكون ماله جاهزا تحت تصرفه استعدادا للطوارئ وليكثر من حركته فيؤدي به عدة طلبات. ولكن ظروف الحرب الأولى والثانية غيرت كثيرا من القيود التي كانت موضوعة على الخصم أو إعادته .
وقد أصبح الرأي السائد الآن أنه يجب ألا ترهق الحكومات بنوكها المركزية بنصوص تشريعية وقواعد لا ضرورة لها تحد من نشاطها. وفي هذا الصدد يقول
M. H. De Kock : إنه من المتعين ألا نثقل كاهل البنوك المركزية بالأوامر والنواهي التشريعية، بل الأفضل أن نرسم لها نظما مرنة تمكنها من مواجهة الظروف بما لديها من خبرة وبما يراه مجلس إدارتها من علاج لبعض المواقف.
بنك الحكومة ومستشارها
من مهام البنك المركزي أن يقوم للحكومة بخدمات منها حفظ أموالها، وإقراضها، وإبداء النصح لها في كثير من الحالات. وهو بهذا بنك الحكومة؛ تحفظ فيه ودائعها الثمينة ونقودها، وتحصل منه على الحوالات اللازمة لأعمالها، ويصرف عنها ما تدفعه في نفقاتها وأجور موظفيها، ويحصل لها بعض الأحيان ما تعهد إليه بتحصيله من دفعات تسدد لحسابها.
ومن أعماله أن يمد الحكومة بالنقود الأجنبية اللازمة لها في دفع ديون عليها للخارج. وهو يأتي هذا بمفرده أو بمساعدة بنوك أخرى يركن إليها في هذا العمل.
وإذا احتاجت الحكومة مالا أقرضها، وإذا أصدرت سندات تولى عملية عرضها للاكتتاب وقام على دفع الكوبونات نيابة عنها في المواعيد التي تحددها، ويقوم بتحويل الديون وتدبير استهلاكها، كل ذلك يؤديه للحكومة بغير أجر أو بأجر زهيد جدا.
وفوق هذا فإنه من واجب البنك أن يمحض الحكومة النصح في كل ما تطلب فيه رأيه من مسائلها الاقتصادية الكبرى، بل لقد جرى العمل في إنجلترا على مشاورة بنك إنجلترا في السياسة الاقتصادية، وفيما تضعه من خطط لمشروعات تقوم الحكومة بها وحدها أو مشتركة مع النقابات أو الهيئات.
وتعتبر مراقبة النقد من صميم عمل البنك المركزي في الأوقات التي يستلزم الأمر فيها إجراء المراقبة عند الطوارئ أو دواعي الحروب.
الأعمال التي يجب أن يبتعد عنها البنك المركزي
قلنا إن البنك المركزي بنك للبنوك وللحكومة. وهذا يستدعي أن يمتنع عن مباشرة أعمال لا تتفق وهاتين الصفتين؛ فلا يجوز له أن يتعامل مع الأفراد أو ينافس في ذلك البنوك التجارية التي قام على خدمتها والتفرغ لها، ويجب عليه أيضا أن يمتنع عن الاشتغال بالأعمال غير مأمونة العواقب؛ فلا يزج بنفسه في مغامرات أو أعمال صناعية تستدعي إبقاء ماله طويلا في مشروعاتها فضلا عن تعرضها للمفاجآت والخسارة.
هذا محصل الرأي الحديث في شأن البنوك المركزية يستند أيضا إلى ضرورة تخصص كل بنك للعمل الذي قام من أجله؛ فالتجارة لها بنوك، والزراعة لها بنوك، والصناعة لها بنوك، ويجب عدم الخلط في أعمالها. وهذا الرأي الحديث متبع إلى حد كبير في نظم البنوك المركزية الحالية. أما البنوك المركزية القديمة، فقد كانت تتعامل مع الأفراد وتشترك في الصناعة والتجارة بقدر ولو يسير.
هذه القاعدة العامة ليست مطبقة في جميع البلاد، ولا هي بالمتبعة في كل الظروف، وإنما يدخل عليها في بعض المواقف استثناء تقتضيه المصلحة العامة. فقد كانت فرنسا قبل تأميم بنكها تجيز له التعامل مع الأفراد؛ ففتح لهم الحسابات الجارية، وحفظ لهم الودائع، واشترى وباع لهم الأوراق المالية وأعطاهم خطابات الاعتماد.
وقد عدلت الآن أغلب الدول عن ذلك؛ فإيطاليا سنة 1936 قصرت عمل البنك المركزي على المعاهد المالية، كذلك فعلت المكسيك والإكوادور سنة 1937، واليونان والهند والأرجنتين كل منها ضيقت عمل بنكها المركزي، وكادت أن تجعله محظورا مع الأفراد.
وعلى عكس ذلك نجد أستراليا في قانون بنكها المركزي الصادر سنة 1945 تلزم بنكها أن يتعامل مع الأفراد. وقد قال وزير ماليتها في مذكرته التي شرح بها ذلك القانون إنه قانون يعطي البنك أوسع الاختصاصات والأعمال التي تباشرها البنوك التجارية.
هذا ولا نستطيع أن ننسى أن بنك إنجلترا العتيد من أول واجباته أن يساعد الادخار وتوظيف الأموال، وأن يشجع الصناعة والتجارة والزراعة والاستعمار. ومن الأمثلة التي نسوقها فوق ما ذكرناه من مجهوده في بناء مجد الإمبراطورية أنه يملك أسهم شركة التثمير المعروفة
Securites Investment Trust Ltd ، وبعض أسهم شركة
Bankres Industrial Development Company ، وشركة
Agricultural Mortgage Company .
ولا يمكننا أيضا أن ننسى أن اليابان وألمانيا وإيطاليا وروسيا - وغيرها من البلاد التي أقامت نهضات أو أعدت مشروعات تنفذ في سنين معدودة كمشروعات السنوات الخمس - قد اعتمدت في ذلك على بنوكها المركزية، سواء بالنسبة للدور الذي قامت به تلك الحكومات، أو بالنسبة لمجهودات الأفراد والشركات فيما أعدته لهم الحكومات أو كلفتهم به من أعمال.
ويدخل على القاعدة العامة القاضية بمنع البنوك من التعامل مع الأفراد استثناء هام في أوقات الأزمات؛ إذ تكلف الحكومات بنوكها المركزية بأعمال تعالج بها الأزمات. ولا بد لها في هذه الأحيان من تعامل مع الأفراد أو تدخل في التجارة والصناعة والزراعة. (2) امتلاك الحكومة للبنك المركزي
ولا خلاف عند أحد على ضرورة اتخاذ بنك مركزي في كل دولة ولو كانت شبه متحضرة. وقد جاءت جميع المؤتمرات الاقتصادية تحض الدول على اتخاذ البنك المركزي، وإنما يقع الخلاف - وهو ليس بالخلاف الحديث - حول الوسيلة التي تؤدي إلى تلك الغاية المجمع عليها؛ فبعض البلاد ترى أن تملك الحكومة البنك لتستطيع أن تديره وأن تسيره طبقا لمشيئتها، فتوجه به الاقتصاد الوجهة التي تراها لازمة لمصلحة بلادها، والبعض يرى أن تبتعد الحكومة عن ملكية البنك وإدارته؛ لأنه يخشى أن تتدخل السياسة والحزبية في أعمال البنك فتفسده.
والمسألة في نظري ليست مسألة مذهب يقصد لذاته، وإنما هي مسألة تخضع أولا وقبل كل شيء لظروف البلد نفسه؛ فإذا كانت ظروفه تجعل امتلاك حكومته للبنك لا ينتج ضررا قلنا بوجوب ذلك، وإذا كانت ظروف البلد - سياسية أو اقتصادية أو هما معا - تقتضي إبعاد الحكومة عن البنك، فلا بد لها من أن تبتعد عنه، وإذا كانت ظروف البلد تستلزم اشتراك الحكومة والأفراد والشركات في ملكية البنك وإدارته ليتكون من هذا المزيج توازن القوى، واشتراك في المسئوليات، وتعاون على النهوض بالاقتصاد القومي، فمن المحتم أن تقول بهذا النظام المشترك الذي يطلق عليه بعض الاقتصاديين النظام شبه الحكومي، ويسميه بعض الكتاب نظام التأميم الناقص.
وإذا تركنا روسيا ولها نظام تملك فيه بنكها المركزي بشكل يتفق مع الأوضاع الشيوعية، فإننا نجد دولا كثيرة تملك بنكها المركزي، منها إنجلترا، وفرنسا، وفنلندا، والسويد، وكندا، والنمسا، والدانمرقة، ونيوزلندا، وأستراليا، وباراجواي، والأرجنتين، وجواتيمالا، وكوستاريكا، ومعظم هذه البنوك حولته الحكومة إلى ملك للدولة بأن نزعت ملكية مساهميه كما تنزع الحكومات ملكية الأفراد للمصلحة العامة.
وقد اختلفت الطريقة التي اتبعتها الدول في كيفية تقدير التعويض الذي دفع لحملة الأسهم عند نزع ملكيتهم؛ فبعض الدول اتخذت سعر السهم في البورصة أساسا للتقدير، والبعض الآخر قد أخذ بمتوسط سعر السهم في فترة معينة.
وأما عن الطريقة التي اتبعت في دفع التعويض للمساهمين؛ فبعض الدول تدفع ذلك التعويض نقدا، والبعض الآخر تدفعه بسندات على الحكومة، وبعض الدول تخير صاحب الأسهم المنزوعة ملكيتها بين قبض التعويض نقدا وبين أخذ سندات بقيمته على الحكومة. فكندا دفعت التعويض نقدا بسعر البورصة، وإنجلترا دفعته بسندات على الحكومة بفائدة أخذت من متوسط فترة معينة، ونيوزلندا خيرت المساهمين قبض قيمة أسهمهم المنزوعة نقدا وبين أخذ سندات بها على الحكومة.
وبينما نجد الولايات المتحدة بها اثنا عشر بنكا مركزيا تكتتب في كل بنك منها البنوك التجارية، إذا بنا نجد دولا أخرى تبعد البنوك والشركات عن الاكتتاب في بنكها المركزي؛ حتى لا تسيطر على إدارته وتجعلها مسيرة لمصلحة البنوك والشركات. ومن هذه الدول فنزويلا، وتشكوسلوفاكيا، والصين، وسويسرا، هذه الدول تجعل البنك المركزي ملكا للحكومة والأفراد، ويحرم على البنوك والشركات أن تكون مالكة لأسهمه. وهناك دول يقتضي نظام بنكها المركزي اشتراك الحكومة مالكة لأسهمه، وهناك دول يقتضي نظام بنكها المركزي اشتراك الحكومة والبنوك والأفراد؛ ليكون الجميع متعاونين على العمل مشتركين في التبعات. ونذكر على سبيل المثال المكسيك، وشيلي، وبيرو، وكولومبيا.
وإذا كان امتلاك الحكومة للبنك المركزي يستفاد منه جعل البنك قسما من الخزانة العامة وخضوعه في إدارته وسياسته للحكومة؛ فإن ذلك الخضوع يختلف في دولة عنه في دولة أخرى. فالنظام الإنجليزي قد مر بسلام من القديم إلى الحديث حتى انتهى بأن يعين الملك أعضاء مجلس الإدارة، بينما النظام الفرنسي يجعل بعض أعضاء مجلس الإدارة معينين بمقتضى وظائفهم الرسمية، والبعض بمقتضى رياستهم لهيئات تمثل أهم نواحي الاقتصاد القومي في فرنسا. ومرد ذلك فيما أعتقد إلى أن النظام النيابي مستقر وسياسة الإمبراطورية البريطانية محل احترام جميع الأحزاب، بينما في فرنسا النظام النيابي متبدل والأحزاب تتصارع، والأهواء لا تحمد عقباها إذا امتدت إلى البنك فغيرت سياسته بين آن وآخر.
إدارة البنك ومحافظه
ويكاد ينعقد الإجماع على ضرورة إعطاء الحكومة حق تعيين المحافظ ومن ينوب عنه حتى في البلاد التي لا تساهم الحكومة في مال بنكها المركزي. ويغلب أيضا في جميع الأنظمة النص على إبعاد الأجانب عن امتلاك لسهم البنك المركزي وعن العضوية في مجلس إدارته. ولكن هناك بلاد قليلة العدد للأموال الأجنبية فيها شأن يذكر فهي مضطرة بحكم ظروفها أن تبيح للأجانب أن يملكوا قدرا معينا من أسهم بنكها المركزي - بل قد تجبرهم على ذلك في نسبة تفرضها فرضا على البنوك الأجنبية أو فروعها. وهي أيضا تعطيهم عضوا في مجلس الإدارة، ومن هذه الدول شيلي، وكولومبيا. وقد أخذت بعض الدول بنظام يبيح ضم خبير أجنبي إلى مجلس إدارة بنكها المركزي؛ لتسوغ مثل هذا الموقف الشاذ عندما تقضي به الضرورة، ومن هذه الدول تشكوسلوفاكيا، وأستونيا.
الجمعية العمومية والأصوات فيها
أما مقدار الأصوات التي تكون من حق الحكومة في الجمعية العمومية للبنك المركزي، فلا يرجع حتما إلى نسبة ما تملكه الحكومة من رأس مال البنك إذا كانت مساهمة فيه؛ لأن الجمعيات العمومية لا ترسم سياسة البنك المركزي، وكذلك الحال بالنسبة للمساهمين؛ فقد يوضع حد لأصوات كبار المساهمين في الجمعيات العمومية كما هو حادث أيضا في بعض الشركات، وقد تمنع الحكومة تماما من التصويت في الجمعية العمومية رغم كونها مساهمة بمبلغ كبير في رأس المال. ومن ذلك أن حكومة كولومبيا تساهم بنصف رأس مال بنكها المركزي، ومع هذا فأسهمها لا تعطيها حق التصويت بنص المادة 6، ولا ضرر من تقييد حق التصويت - على الحكومة أو المساهمين - لأنه كما قلنا لا ترسم الجمعيات العمومية سياسة البنوك المركزية، وتدخل الحكومة فيها لا يعني توجيه سياسة البنك، بل ربما يحرج الحكومة نفسها عند تنافس الطامعين في عضوية مجلس الإدارة.
إن عمل الجمعيات العمومية يكاد يكون محصورا في مراجعة حساب الأرباح والخسائر، وتعيين المراقبين، وانتخاب بدل الذين انتهت عضويتهم في مجلس الإدارة أو إعادة انتخابهم . وإذا كان حق الحكومة في تعيين من يمثلها في مجلس الإدارة ثابتا في نظام البنك، فإن حضور الجمعيات العمومية لا يعني إلا المساهمين العاديين الذين يتطلعون إلى معرفة ما خصهم من الأرباح. أما الحكومة فهي طبعا تعرف مقدما ميزانية البنك ومقدار ما خصها من الربح قبل عقد الجمعية العمومية.
ولا بد لنا من أن نعرف أن امتلاك الحكومة للبنك المركزي إنما هو وضع اشتراكي، وهو حلقة من سلسلة حلقات تستدعي تأميم المرافق الهامة في البلاد، فلا بد معه من تأميم المواصلات، والمناجم، ومعاهد المال الأخرى التي يتعلق عملها بمصادر الائتمان الصناعي والتجاري والزراعي منها بوجه خاص، وغيرها مما يجعل التأميم مستجمعا عناصره كافة، وإلا كان ناقصا لا يؤدي الثمرة المطلوبة منه. فإذا بدأنا بتأميم البنك المركزي، فلا بد لنا من أن نتبعه بتأميم المرافق الأخرى.
الفصل الرابع
فكرة بنك مركزي لمصر
(1) محاولات البنك المركزي في مصر
كنت أريد أن أرى في مصر بنكا مركزيا لأتحدث عنه، ولكني مع الأسف لم أجد سوى محاولات لاتخاذ ذلك البنك، بعضها قامت به الحكومة، والبعض الآخر قام به الأفراد، من ذلك أن المرحوم محمد علي باشا عقد اتفاقا بينه وبين أحد الأجانب في شركة تقرب من البنك المركزي شبه الحكومي ساعده في تمويل تجارته الخارجية وفي تدبير النقد المصري، ولم يطلق على هذه الشركة اسم بنك؛ لأن العلماء كانوا يحرمون البنوك، ولم يتعامل بالفائدة فيما أعطى أو أخذ من ذلك المالي الأجنبي.
أما المحاولة الثانية فقد كانت في أواخر عهد المغفور له إسماعيل باشا بعد أن اضطربت الأحوال المالية في مصر؛ فقد عقد بعض كبار المصريين اجتماعا بموافقة الخديو ووضعوا نظام بنك مركزي نقلوه عن نظام بنك فرنسا، وجعلوا من أغراضه تسوية ديون الخديو والقيام على خدمتها. ولكن إنجلترا عارضت في ذلك، في حين اشترطت فرنسا أن يكون البنك دوليا وتحت إشرافها، وحجتها في ذلك أن مصر لا تستطيع أن تصدر تشريعا يمس حقوق الأجانب بغير موافقة دولهم.
وأما المحاولة الثالثة فقد جاءت أثناء الثورة العرابية؛ إذ وضع العرابيون في برنامجهم لترقية البلاد تأسيس بنك مركزي وطني.
وفي سنة 1898 صدر دكريتو خديوي يصرح للسير أرنست كاسل، وسلفاجو، وسوارس، بإنشاء البنك الأهلي، ويختصه وحده بامتياز إصدار البنكنوت في مصر. وقد جاء في الطلب الذي قدموه للسير «ألوين بالمر» - المستشار المالي - للحصول على الدكريتو أنهم يحققون الرغبة التي كلفهم بها جنابه، وأن البنك الأهلي - كما يعلم جنابه - حين يصدر البنكنوت يقترض بغير فائدة.
هذه العبارة تغنينا عن كل تعليق، فالبنك الأهلي يقترض من مصر بغير فائدة، بل أكثر من ذلك أقرض مال مصر بفائدة قليلة لإنجلترا باستعماله القراطيس الإنجليزية غطاء لما يصدره من بنكنوت. وقد نجحت سياسة اللورد كرومر المالية إلى أقصى حد حين أراد من إنشاء هذا البنك أن يحارب نفوذ البنوك الأجنبية، وأن تستخلص مصر للإنجليز.
وأما المحاولة الرابعة فقد كانت عن طريق أبحاث جرت بين البنك الأهلي والحكومة بين سنتي 1904، 1907 أراد منها البنك أن يزيد من اختصاصاته بأن يكتسب صفة البنك المركزي فوق أعماله التجارية الواسعة النطاق التي قد يتنازل مطمئنا عن قسم منها لبعض البنوك الإنجليزية، وبهذا تتم سيطرة رءوس الأموال الإنجليزية على مصر.
وأما المحاولة الخامسة فقد دعا إليها المرحوم طلعت باشا حرب في كتاب له عنوانه: «البنك الوطني وعلاج مصر الاقتصادي» طبعه سنة 1912. وقد أراد من إنشاء بنك مصر أن يحقق به تلك الفكرة - كما أخبرني رحمه الله - وقد ظل ينتظر بفارغ الصبر انتهاء امتياز البنك الأهلي ليحل بنك مصر محله في إصدار البنكنوت، ويكون بنكا مركزيا يضطلع بنهضة البلاد. ولم يغب هذا عن البنك الأهلي فأعد له العدة.
وأما المحاولة السادسة فقد كانت فرصة عرف البنك الأهلي كيف يستغلها حين انكشف في سنة 1940حساب الحكومة الجاري في البنك بمبلغ مليوني جنيه، وحين أراد بنك مصر أن يقترض منه كما كانت تقرض البنوك الأخرى على سندات الدين الموحد وسبائك الذهب. فاشترط البنك الأهلي لإمهال الحكومة في دفع دينها ولمساعدة بنك مصر على اجتياز أزمة عابرة أن تستصدر الحكومة قانونا من البرلمان يمد امتيازه أربعين سنة، وقد تعهد لها البنك الأهلي بأن يتحول إلى بنك مركزي. وقد قبلت الحكومة ذلك مرغمة تحت ضغط الحوادث، كما قال وزير ماليتنا. (2) استعداد الحكومة
وما زال البرلمان بمجلسيه يطالب الحكومة كل عام أن تتخذ لمصر بنكا مركزيا، والحكومة تعد، حتى لقد بلغ بها الأمر أن ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك، فقد جاء في خطاب العرش في نوفمبر سنة 1946 ما نصه:
وتقدمت الأبحاث المتعلقة بالأرصدة وبنظام العملة المصرية وبالبنك المركزي. وأصبحت الحكومة المصرية على أتم استعداد لأن تتناول بالعمل الإيجابي هذه الموضوعات الهامة، سواء من حيث ما يستدعيه علاجها من تشريعات، أو من حيث التدابير التي تتخذ مع المؤسسات الحالية.
انتهت الدورة البرلمانية، ولم تنفذ الحكومة ما أتمت دراسته، ولم تتناول بالعمل الإيجابي موضوع البنك المركزي، ولم تتخذ مع المؤسسات الحالية أي تدبير.
وفي نوفمبر سنة 1947 جاء في خطاب العرش ما نصه:
وقد حان الوقت لإنجاز ما وعدت به حكومتي من تأميم البنك الأهلي تحقيقا لاستقلالنا الاقتصادي وتدعيما لنقدنا المصري.
وقد استفسرت اللجنة المالية بمجلس الشيوخ من الحكومة عما أعدته من تشريع في هذا الصدد، فتبين لها أنه لم يوضع بعد. وانتهت الدورة كسابقتها ولم تنفذ الحكومة ما أعلنت استعدادها للقيام به أكثر من مرة. (3) المشروع المقدم مني لتحويل البنك الأهلي إلى بنك مركزي
ولقد رأيت - بوصفي عضوا بمجلس الشيوخ - أن أضع حدا للأضرار المحيطة بنا؛ فقدمت في الثاني من يناير سنة 1946 مشروع قانون لتحويل البنك الأهلي إلى بنك مركزي للدولة المصرية على أساس شركة شبه حكومية رأس مالها عشرون مليونا من الجنيهات تملك الحكومة منه 51٪ والباقي يكتتب به المساهمون الحاليون - إذا هم أرادوا - والبنوك والهيئات المالية والأفراد، فلا يقل نصيب المصريين فيه عن 80٪ على أقل تقدير.
وبالرغم من امتلاك الحكومة لأغلبية رأس المال، فقد جعلت لها في الجمعية العمومية أصواتا بنسبة 30٪ حتى لا تستأثر بالإدارة، ولكني جعلت لها من ناحية أخرى كل الاختصاصات التي توجه بها سياسة البنك طبقا للمصلحة العامة بصفتها ممثلة للدولة وتحت رقابة البرلمان.
وتأييدا لهذا الإشراف جعلت للحكومة حق تعيين المحافظ ونائبيه بقرار من مجلس الوزراء، ويعين وزير المالية أيضا مندوبين من قبل الحكومة لدى البنك لهما مراقبة أعمال البنك.
ونص مشروعي على أن تكون أغلبية أعضاء مجلس الإدارة من المصريين، فيضم إلى المحافظ ونائبه ثمانية آخرون من المصريين. أما باقي الأعضاء فيجوز أن يكونوا من الأجانب لمدة تسع سنوات يجب بعدها أن يصبح مجلس الإدارة كله مصريا. وجعلت إلى جوار مجلس الإدارة خبيرا يؤخذ رأيه في المسائل الكبرى.
وقد بحثت اللجنة المالية بمجلس الشيوخ مشروعي في عدة جلسات استمعت فيها إلى رأي ممثل الحكومة وإلى آراء بعض أساتذة الجامعة وبعض المشتغلين بالشئون المالية، وانتهت اللجنة إلى تقرير جاء فيه أن مشروعي يبعدنا عن الطفرة والمفاجأة، وليس فيه إخلال بتعهداتنا ولا يحمل في ثناياه ثورة ولا انقلابا على نظامنا المالي. وإنما هو مجرد خطوة هادئة أملتها الحاجة وقضت بها الظروف.
ولما عارضت الحكومة في مشروعي لأنها ترى ضرورة تأميم البنك الأهلي لتسيطر عليه تماما وتوجهه الوجهة التي تراها لمصلحة البلاد، لم يسع اللجنة المالية إلا أن تقدم تقريرا لمجلس الشيوخ مطالبة الحكومة أن تسرع بتقديم مشروعها حتى يمكن المقارنة بينه وبين مشروعي، وما زال تقرير اللجنة المالية منظورا أمام المجلس.
تحبيذ مشروعي ونقده
وقد أثار هذا المشروع اهتمام كثير من الدوائر المالية والعلمية؛ فخاطبني في صدده بعض مديري البنوك وثقات المال مبدين ارتياحهم للمبادئ التي قام عليها المشروع وأخصها عدم تأميم البنك تأميما كاملا كما تريد الحكومة. وقد عنيت به شعبة النقود والبنوك في جمعية فؤاد الأول للتشريع والإحصاء والاقتصاد، فعقدت عدة جلسات لبحثه انتهت إلى الموافقة عليه.
ولقد بذل نادي التجارة الملكي همة عظيمة في بحث مشاكلنا الاقتصادية، فنظم عدة محاضرات ومناظرات وشكل لجنة لدراسة موضوع البنك المركزي. وقد كان الرأي السائد في المحاضرات والمناظرات ضد فكرة التأميم. أما اللجنة فقد أعدت توصيات متفقة مع مشروعي في قواعده الأساسية.
ولم يقصر قسم الخدمة العامة بالجامعة الأميريكية جهده على النواحي الأدبية والاجتماعية، بل أضاف إليها هذا العام الناحية الاقتصادية؛ فدعا نخبة من رجال الاقتصاد إلى محاضرات أعقبتها مناقشات في موضوع البنك المركزي. وكانت أغلبية المحاضرين والمتناقشين تؤيد فكرة عدم التأميم، وتقول بضرورة امتلاك الحكومة لأكثر من نصف أسهم البنك مع وجوب ابتعادها عن التدخل في إدارته.
يتضح مما تقدم أن الأغلبية العظمى لمن درسوا موضوع البنك المركزي تؤيد مشروعي وتناصره، وإن كان البعض قد اعترض على تقديري سعر سهم البنك بمبلغ ثلاثين جنيها أو على ضم خبير دولي إلى إدارة البنك أو على السماح للبنك بالتعامل مع الأفراد أو إتيان بعض عمليات تجارية.
أما الاعتراض على تقديري سعر السهم بمبلغ ثلاثين جنيها فردي عليه أن هذا التقدير مأخوذ من متوسط أسعار أسهم البنك في عدة سنوات كما فعلت كثير من الدول عند تحويل بنك فيها إلى بنك مركزي. ثم إني لم أجعل هذا السعر إجباريا، بل تركت للمساهم الخيار بين أن يأخذ هذا المبلغ وبين أن يبقى مساهما في البنك الأهلي بعد تحويله إلى بنك مركزي، وفوق ذلك جعلت من الجائز أيضا أن يعطيه البنك سندات فائدتها متوسط الأرباح التي كان يحصل عليها في السنوات الأخيرة. فلم أظلم المساهمين الحاليين أو الجدد خصوصا وأني مددت مدة الامتياز 13 سنة. فإذا قدرنا مقابلا لهذه الزيادة فالتقدير يزيد عن الثلاثين جنيها.
وأما عن ضم خبير دولي إلى إدارة البنك، فهذا من أوجب الأمور، ونحن نستقدم خبراء فنيين في أتفه المسائل. وهذا له نظائر في بعض البنوك المركزية مثل بنك أستونيا وبنك شكوسلوفاكيا. على أنني لم أحدد جنسية الخبير الكفؤ الذي يستطيع أن يضطلع بمثل هذه المهمة الدقيقة الخطرة، فمن الجائز أن يكون مصريا.
وأما عن السماح لبنكنا المركزي بالتعامل مع الأفراد وبالتدخل في بعض الأعمال التجارية، فالواقع أني قد منعته من الأعمال التجارية التي ينافس بها البنوك الأخرى، ولم أسمح له بالتعامل مع الأفراد إلا في حالات استثنائية محضة يقررها وزير المالية، ولا يمكنني أن أمنع البنك من تشجيع نهضتنا ومن علاج الأزمات أو أقبل أن يقفل فروعه في السودان لتنفرد البنوك الأجنبية بالعمل، فلا بد من تدخله إذا دعت الضرورة. (4) مشروع البنك الأهلي
بقي أن نتكلم عن مشروع البنك الأهلي وعن تفكير الحكومة في مشروع تريد به التأميم.
يرى البنك الأهلي أن التعاقد الذي تم بينه وبين الحكومة سنة 1940 يستوجب أن تصدر الحكومة قانونا يمكنه من الهيمنة على البنوك الأخرى ويزيد من نفوذه في مصر، ويتمسك بأن يبقى ملكا لمساهميه الحاليين. ذلك مشروع البنك الأهلي يراعي مصلحة المساهمين وحدهم ويضرب بمصلحة البلاد عرض الحائط، وقد صدق سعادة محمود بك الدرويش عندما وصف ذلك المشروع في مذكرته المعروفة بأنه امتهان لذكاء المصريين. (5) مذهب الحكومة في التأميم
أما الحكومة فإنها وإن صرحت في الصحف وفي خطب العرش بفكرة التأميم إلا أنها متقاعسة مترددة في تنفيذ تلك الفكرة. وقد لا تستطيع تنفيذها بعد أن عمل البنك الأهلي على امتلاك معظم الأرصدة ليضع أمامها عقبة لا تستطيع أن تتخطاها إلا إذا أرادت أن تعرض نفسها لأخطار تسوية الأرصدة التي تصبح دينا للحكومة المصرية على الحكومة البريطانية.
ومن أعجب الآراء التي سمعتها رأي يقول بأن تسلخ الحكومة من البنك الأهلي عملية إصدار البنكنوت، فتجعل لها إدارة ملحقة بوزارة المالية. وهذا رأي عقيم فاسد يؤثر على مكانة نقدنا ويحرمنا من بنك مركزي ينظم الائتمان ويرعى نهضتنا. وقد يرحب البنك الأهلي بهذا الرأي ليتفرغ للأعمال التجارية المكسبة.
ما لنا ولكل هذا؟ ولم الطفرة والمجازفة ومحاولة الوثوب في قفزة واحدة إلى أغراض قد ندركها وقد لا ندركها؟ أليس من الأفضل لنا أن نمشي فوق أرض صلبة، وأن نقطع الطريق على مرحلتين، فإن كانت المرحلة الأولى غير كافية أضفنا إليها مرحلة ثانية، فنبدأ ببنك شبه حكومي فإن اتضح بعد ذلك ضرورة امتلاك الحكومة له أصدرنا تشريعا نستكمل به التأميم.
إن التأميم الكامل وسيلة وليس بغاية. والمسألة ليست مسألة مذهب يقصد لذاته أو عقيدة تفرض على الناس فرضا، وإنما هي مسألة تخضع أولا وقبل كل شيء إلى الظروف الخاصة بكل بلد . فإذا كانت ظروفه السياسية والاقتصادية يقتضي إبعاد الحكومة عن امتلاك البنك وإدارته فلا بد من إبعادها، وإذا كانت تلك الظروف تستلزم اشتراك الحكومة والبنوك والأفراد ليكون من هذا الاشتراك نفع وتوازن وتحمل للمسئوليات وتعاون على النهوض بالاقتصاد القومي، فمن الواجب حتما أن نأخذ بها النظام الذي يطلق عليه الاقتصاديون النظام شبه الحكومي، ويسميه بعض الكتاب نظام التأميم الناقص. وهو ما نراه ضروريا لمصر متفقا مع ظروفها.
الفصل الخامس
التعاون الدولي، الصندوق المشترك، بنك التعمير
البنك المركزي الدولي
ننتقل بعد ذلك إلى النطاق الدولي لنختم به هذه المحاضرة؛ فقد لا يخلو من الفائدة إتماما لهذا البحث أن نلم ولو إلماما بسيطا بالفكرة التي دعا إليها البعض من وجوب الاتفاق على عمل دولي لتتعاون البنوك المركزية فيما بينها. وقد وجدت هذه البنوك أن من دواعي نجاحها أن تتعاضد وأن تكون بينها زمالة. وقد كانت حتى قبل حرب سنة 1914 يشد بعضها أزر البعض وتقدم له القروض. وقد رأينا بنك إنجلترا يقدم للولايات المتحدة المعونة في أزمة سنة 1907، ثم رأينا الولايات المتحدة ترد لها ذلك الجميل مضاعفا سنة 1931، ثم رأينا بنوك إنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة تتحالف سنة 1936 الحلف الثلاثي المشهور ليثبت سعر كل من الإسترليني والفرنك والدولار بالنسبة إلى الآخر.
وقد رأينا أيضا جهدا طيبا لتنسيق سياسة البنوك المركزية وتعاونها في محاولة سبقت عند إنشاء بنك التسويات الدولية
Bank of International Settlements
الذي اقترحه تقرير لجنة يونج للتعويضات المسمى
Young camrnittee for Reparations ، وإن كان همه الأول تمكين الحلفاء من الحصول على التعويضات من ألمانيا إلا أنه من أغراض هذا البنك - كما جاء صراحة في ذلك التقرير - أن يعمل على تنظيم التعاون الدولي، وأن يعقد قروضا قصيرة الأجل، وأن يساعد الدول والبنوك المركزية في أوقات الضيق الناشئ من نقص مفاجئ في أرصدتها. وأن يقوم بالمقاصة بين هذه البنوك حتى لقد وصف بعضهم هذا البنك بأنه ناد للبنوك المركزية.
وقد أرادت اللجنة أن يكون من أغراضه أن يعمل على تثبيت العملات ومنع الأسعار من التقلب؛ الأمر الذي لا يتمم كما قالت اللجنة إلا بتعاون الدول، وكان من المفروض أنه إذا تم ذلك التعاون، فإنه سيقضي على المتاعب الناجمة من الذهب في تنقلاته الضارة بين الدول ليفسد علاقتها ويسبب لها الأزمات.
تلك فكرة اتخاذ البنك المركزي الدولي التي كانت فيما سبق أملا طالما تاق كثير من كتاب الاقتصاد الذين ذهب بعضهم إلى القول بضرورة اتخاذ نقد دولي أو وحدة عالمية تنسب إليها عملات الدول المختلفة وتربط إليها بقيود تمنع تلك العملات من التضارب في سياستها والتسابق في تخفيض قيمتها. ولهذا الغرض قام اتفاق «بريتون وودز» على اتخاذ مؤسستين دوليتين إحداهما صندوق النقد والأخرى بنك الإنشاء والتعمير.
أما الصندوق فأساس عمله أن يمكن الدول المساهمة فيه من قروض قصيرة الأجل تسد بها حاجة عاجلة وتتقي بها موقفا مفاجئا في تجارتها الخارجية. وأما البنك الدولي للإنشاء والتعمير فيعمل على تمكين الدول من قروض طويلة الأجل تساعدها على التعمير وإصلاح ما خربته الحرب أو زيادة الإنتاج. وخيل لواضعي الاتفاق أنهم قد حلوا مشكلة الذهب أو كادوا؛ لأنهم قالوا بربط العملات إلى بعضها في قاعدة تجعلها على أكثر ما يمكن أن يظن من الثبات. وبهذا اعتقدوا أنهم عالجوا أخطاء ما بين الحربين من تسابق بعض الدول في تخفيض عملاتها، وذهب بعضهم إلى الاعتقاد بأن هذا البنك المركزي الدولي سيساعد بهذه الصور على رفع مستوى المعيشة وتثبيت الأسعار عند مختلف الدول.
وقد فرض هذا الاتفاق على الدول التي قبلته أن تساهم بواسطة بنكها المركزي أو بواسطة بنك ترضاه حكومتها أو بواسطة حكومتها في دفع حصة معينة يدفع قسم منها ذهبا والقسم الآخر بالعملة الوطنية أو بسندات حكومية لا تدفع عنها فوائد، وبشرط أن تكون تحت الطلب كأنها نقد أو ما يقوم مقامه. ومن هذا يتكون مال الصندوق الذي يسعف الدولة المحتاجة بقرض قصير الأجل كما يمد البنك الدولي للتعمير البلاد التي تحتاج قرضا طويل الأجل أو يسعى لها في تدبير ذلك القرض بمعونته.
يتضح من ذلك أن النظام الذي قام عليه بنك التعمير قد قصد منه توظيف لرءوس أموال عاطلة كان يخشى عليها من الخسارة إذا استغلت في غير بلادها، فجاء هذا الاتفاق يؤمنها من الخسارة التي تعمل الدول متكافئة على درئها. وبهذا يجد أصحاب رءوس الأموال في هذا البنك ما يقوي عزائمهم على الإقراض الدولي المضمون في نظير رضائهم بربح قليل.
وعندي أنه لا جدال في كون هذا النظام له مزايا لا يستهان بها إذا احترمته الدول الموقعة عليه، وضحت ببعض مصالحها في سبيل مصلحة العالم. ولكن مع الأسف لكل بلد ظروفه الخاصة وحكومته التي تخضع لبرلمانه، ولا أعتقد أن هذه الهيئة الدولية تستطيع أن تسير البنوك المركزية في مختلف الدول كما تسير إدارة هيئة الفدرال ريزرف البنوك المركزية في الولايات المتحدة.
لا أريد أن أضرب في بيداء الفروض الجائز وقوعها وأمامي خطر ماثل من قيام منطقة الإسترليني بزعامة إنجلترا، تلك المنطقة التي لا يرجع تاريخها إلى سنة 1931 كما يعتقد الكثيرون، بل لعله يرجع إلى ما هو أقدم من ذلك إلى سنة 1871 التي قادت فيها إنجلترا جماعة من الدول إلى قاعدة الذهب دخلته في حلف كبير، وخرجت عنه في حلف كبير ارتبط معها ارتباطا وثيقا لدواع مشتركة وصلات سياسية واقتصادية متعددة لا بد من أن أحسب لها حسابا ليس بالسهل أن أتغاضى عن نتائجه.
إن المسألة في نظري أصعب من أن يحلها اتفاق «بريتون وودز»؛ فالإسترليني رغم كثرة أنصاره مريض ولم يدخل في دور النقاهة بعد، ثم إن أنصاره يكرهون استبداده بهم، ولكنه قيدهم باتفاقات تجميد ديونهم، فلا يستطيعون الفكاك ليتم لهم التعاون في نظام دولي طليق وإن كان أغلبهم يسعى إلى الاستقلال؛ فقد تسمح به إنجلترا استقلالا نقديا شبيها بالاستقلال السياسي الذي سمحت به للبلاد الداخلة في نطاق الإمبراطورية والمتصلة بها.
يضاف إلى ما تقدم كون التعاون الدولي دونه عقبات من تنافر بعض الدول الكبرى وتكتلها سياسيا في مناطق تبسط عليها نفوذها، وكون الديون المختلفة لم ترصد نهائيا بين الدول حتى يمكن القول بأن الاتفاق على بنك مركزي للبنوك المركزية قد أضحى أمرا سهل التنفيذ متعين النفع .
Bog aan la aqoon