Bakaiyyat
بكائيات: ست دمعات على نفس عربية
Noocyada
إهداء
الدمعة الأولى: دموع على حائط مبكاي
الدمعة الثانية: لمن أتحدث يا نفسي اليوم؟
الدمعة الثالثة: الكابوس
الدمعة الرابعة: نم بسلام
الدمعة الخامسة: أوفيليا: ماذا فعلوا بك؟
الدمعة السادسة: دموع أوديب
هذه البكائيات
ملاحظات
إهداء
Bog aan la aqoon
الدمعة الأولى: دموع على حائط مبكاي
الدمعة الثانية: لمن أتحدث يا نفسي اليوم؟
الدمعة الثالثة: الكابوس
الدمعة الرابعة: نم بسلام
الدمعة الخامسة: أوفيليا: ماذا فعلوا بك؟
الدمعة السادسة: دموع أوديب
هذه البكائيات
ملاحظات
بكائيات
بكائيات
Bog aan la aqoon
ست دمعات على نفس عربية
تأليف
عبد الغفار مكاوي
إهداء
إلى ابنتي نوران:
ثبت الشمس بقلب الظلمات
وبدلت دموعي ضحكات.
عبد الغفار مكاوي
شاعر الفلسفة
بقلم حسن طلب
Bog aan la aqoon
في الرابع والعشرين من ديسمبر، ودعت الحياة الثقافية علما من أعلامها الكبار، هو الدكتور عبد الغفار مكاوي (1930-2012م)، الذي أثرى بإبداعاته ومؤلفاته وترجماته الساحة الأدبية والفلسفية، منذ النصف الثاني من القرن الماضي، وحتى قبيل رحيله؛ حيث صدرت آخر أعماله وأحدثها «مصر وكلمات أخرى»، ضمن سلسلة كتاب «إبداع»، العدد 21، شتاء 2012م.
نذر عبد الغفار مكاوي حياته للأدب والفلسفة، فعاش راهبا يؤمن بأن رسالته الخالدة هي أن يبحث عن الحقيقة بين ما جادت به تأملات الفلاسفة والحكماء في كل العصور، وبين ما أوحت به أخيلة الأدباء بكل اللغات. غير أن رحلة البحث عن الحقيقة عند من خبروها من أمثال الدكتور عبد الغفار مكاوي، لم تكن مجرد نزهة عابرة في طريق مأمونة واضحة المعالم، بل هي لون من المجاهدة الصوفية التي تتقلب بصاحبها بين شتى المقامات والأحوال، وقد تستغرق تلك الرحلة العمر كله، دون أن يظفر طالب الحقيقة بشيء، اللهم إلا عذوبة الرحلة وعذابها. وهذا هو ما يقوله «مكاوي» عن الحقيقة التي أرقته، في مفتتح دراسته الطويلة التي قدم بها لترجمته لنصوص «مارتن هيدجر
M. Heidegger » (1889-1976م)، بعنوان «نداء الحقيقة»: «ما الحقيقة؟ أين نجدها؟ وكيف نعرفها؟ بأي سهم نريش طائرها الأبيض المستحيل؟ أي قفص يتسع لآفاقها البعيدة، وأسفارها العديدة في البلاد والأجيال؟ ما هي معانيها المختلفة باختلاف المذاهب والمدارس ...»
هي أسئلة لا يملك عشاق الحقيقة سوى أن يطرحوها على أنفسهم وعلى القراء، ليست لديهم إجابات جاهزة يقدمونها، لا لأنهم عاجزون، بل لأن الحقيقة أشمل من أن يستوعبها جواب واحد، وأقدس من أن يحصرها مذهب، وأوسع من أن تتسع لها رحلة العمر المحدودة، إنها النور الذي يند دائما عن مدى البصر وعمق البصيرة، فليس لعقول الفلاسفة أن تحيط به تماما، هيهات!
لهذا السبب كان الأدب عامة، والشعر بالذات، ظهيرا للفلسفة ونصيرا، فكثيرا ما لجأ الفلاسفة إلى الشعراء يستلهمون حدوسهم ويلتمسون العون، أو كما يقول «مكاوي» في المقدمة المشار إليها أعلاه: «إننا جميعا نفزع إلى بيت أو قصيدة من الشعر، نستشهد بها حين تتأزم مواقفنا في الحياة، أو نعجز عن التعبير عن مكنون مشاعرنا، فالشعراء أصحاب رؤية، وكلماتهم لآلئ بحر التجربة البشرية، وكم أبيات قليلة كشفت - كالبرق الخاطف - عن خبرة أجيال طويلة، وكم لخصت، في حكم قليلة، ما عجز الفيلسوف عن قوله في مجلدات ضخمة. ولقد طالما لجأ الفلاسفة أنفسهم إلى صور الشعر ورموزه وتشبيهاته واستعاراته، حين انطلقوا إلى مجال الفكر الخالص، وعجزت أجنحة الرؤية والعيان عن التحليق إليه.»
هكذا انفرد عبد الغفار مكاوي بين أساتذة الفلسفة الكبار، بقدرته على تحقيق المصاهرة بين الشعر والفلسفة، دون افتعال، أو انحياز يجور على أحد طرفي المعادلة. لنستمع إليه وهو يحاول النفاذ إلى قلب «أفلاطون» في كتابه البديع: «المنقذ» فيقول نظما في أول سطور المقدمة:
أجمع أمره.
صمم أن يتحدى قدره،
أن يأخذ معه سره.
الرحلة كانت خطرة،
Bog aan la aqoon
والمحنة مرة.
ما ضر إذا أخفق مرة!
فليعد الكرة،
وليحمل للعالم فكرة
فالفكرة إن كانت حرة؛
فستصبح فعلا أو ثورة.
أما آخر كلمات تلك المقدمة الفلسفية/الشعرية، العقلانية/الوجدانية المبتكرة، أو بالأحرى خاتمة تلك الرحلة الصعبة في الإبحار بين ضفتي الشعر والفلسفة، فتجيء منظومة هكذا:
لا عاصم بعد اليوم من الطوفان،
يا بلدي.
يا حظي العاثر،
Bog aan la aqoon
أنت الخاسر؛
إن لم تلجأ لسفينة نوح،
يسلمها الموج الهادر
والملاحون الفقراء
إلى الشطآن.
والربان
أطهر من أطهر إنسان؛
عين ترعى النجم الساهر
في أفق العدل يلوح،
يا بلدي،
Bog aan la aqoon
ويرد إليك الروح.
وحياة الروح حوار.
نعم، حياة الروح كما عاشها «مكاوي» حوار طويل ممتع، حوار لا ينتهي إلا ليبدأ، فهو حوار بين الشعر والفلسفة، بين الوجدان والعقل، بين الخيال والواقع، بين المستحيل والممكن. إنه حوار لا يتسع له عصر معين أو زمن محدود، ولهذا سافر «مكاوي» في مغامرته الروحية الكبرى عبر العصور، وتقلب بين الأزمنة والأمكنة ينشد ضالته أو معشوقته الأثيرة: الحقيقة، فمن حكمة الرافدين حيث بحث عن «جلجامش» وجذور الطغيان، إلى حكماء الصين القديمة، حيث توقف عند «لاو تزو» ونقل إلى العربية كتابه «الطريق والفضيلة»، الذي يعده أحب الكتب إلى قلبه، ثم إلى الحكماء اليونانيين السبعة وفلاسفة ما قبل سقراط، ومن بعدهم أفلاطون وأرسطو، لينزل في سلم الزمن إلى العصور الوسطى، ويقف عند «بوئيثيوس
A. M. S. Boethius » (480-524م) في عزائه للفلسفة، ثم إلى العصور الحديثة ليتأمل أهم نصوص «ليبنتز
G. W. Leibnitz » (1646-1716م)، وينقل إلى العربية كتابه الأهم «المونادولوجيا»، ثم ينتقل إلى «كانط
I. Kant » (1724-1804م) فينقل كتابه «تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق»، الذي ألفه الفيلسوف الكبير عام 1785م ليكون تمهيدا لكتابه الأساسي: «نقد العقل العملي» الذي صدر بعد ثلاث سنوات. وتستمر الرحلة لتتشعب بها الدروب في متاهات الفلسفة المعاصرة، فمن الوجودية وأعلامها: «هيدجر» و«كامي
A. Camus » (1913-1960م) و«ياسبرز
K. Jaspers » (1883-1969م)، إلى رواد فلسفة الحياة من أمثال «ماكس شيلر
M. Sheler » (1874-1928م) و«دلتي
W. Delthey » (1833-1911م) و«برجسون
Bog aan la aqoon
H. Bergson » (1859-1941م)، ثم إلى أقطاب «مدرسة فرانكفورت» في ألمانيا، مع غيرهم من أصحاب النزعة المثالية والميول الصوفية، مثل «شتروفه»، الذي تتلمذ عليه «مكاوي» في ألمانيا، ونقل إلى العربية في سبعينيات القرن الماضي كتابه الشيق العميق: «فلسفة العلو-الترانسندنس»، وهو الكتاب الذي أعادت طبعه الهيئة العامة للكتاب العام الماضي.
أما لو وقفنا عند ما قدمه «مكاوي» من دراسات وترجمات شعرية وأدبية، فلن نجده أقل أهمية، فهو يضارع كما وكيفا ما قدمه في مجال الفلسفة الخالصة، بل ويتسع أيضا زمانيا ومكانيا، كما كان الحال في النتاج الفلسفي، فمن الشاعرة اليونانية «سافو»، إلى «جوته» و«بوشنر» و«بريخت» والرمزيين من أعلام «ثورة الشعر الحديث».
رحم الله عبد الغفار مكاوي؛ لقد كان نسيج وحده في حياتنا الثقافية، لا بنتاجه الفلسفي والأدبي الغزير والأصيل فحسب، وإنما أيضا بإبداعاته القصصية والمسرحية، وبروحه السمحة وتواضعه الجم، وما أحرانا - نحن تلامذته ومحبيه - أن نعي الدرس الذي لقننا إياه بجده وصبره، وصمته وبعده عن الأضواء، وأن نعيد تقديم تراثه للأجيال الجديدة؛ لتجد فيه المثال الحي على الدقة والعمق والصدق، في زمن عزت فيه هذه القيم.
الدمعة الأولى: دموع على حائط مبكاي
قلت للصوت الصديق الذي دعاني للمشاركة في العيد الفضي ل «الآداب»: أنت توقظني من نومة أهل الكهف، منذ سنين وأنا غارق في بحر السواد والاكتئاب، منذ سنين وأنا جثة تأكل وتمشي وتنام وتضحك أحيانا، وتثرثر بالحكمة، تنكر الصوت الخارج منها، وتضيع في المتاهات بحثا عن هويتها. طمأنني وألح علي. قلت سأكتب بكائية، وسأرثي نفسي وشبابي! سأفعل ما فعل الشاعر العربي الذي نعى نفسه (ذكرت اسمه ونسيته الآن) قال: افعل. قلت: أليست قلة ذوق أن أنصب مأتما وسط أفراح العرش؟ هل كتب علينا أن نبكي طوال العمر؟ ثم فكرت أن أقيم حائط مبكى عربيا أدعو إليه الأحباب. فكرت أن أهتف بالقراء: دعونا نبكي، فنحن أولى من أعدائنا بالبكاء، فدموعنا على الأقل ليست دموع التماسيح، وذنوبنا في حق أنفسنا أثقل من ذنوبهم عبر التاريخ، لكنني وجدت من الغرور أن أدعو غيري للبكاء، ولن يغفر لي أحد أن أسقط ذنوبي عليه، أو أعمم اتهام الذات - وهو في حد نفسه لا يخلو من الزهو والتبرير - على عشرات من جيلي أنا أول من يحبهم ويقدرهم، ولا يقارن نفسه حتى بالتراب الذي تدوسه أقدامهم. فلأذرف وحدي دمع العين على حائط مبكاي. وليغفر ثرثرتي القراء، وليتسع الصدر لاعتراف جاء بعد خمسة وعشرين عاما، هي في النهاية عمري المسفوح في دم القلم. وهل كانت «الآداب» طوال هذه السنين إلا حائط مبكانا الذي تلقى بالحنان دموعنا، وفتح صدره لصراخنا واحتجاجنا وتجاربنا الساذجة، التي ضاقت بها بلادنا؟ هل كانت إلا المهجر والملجأ للثائر والمتعب والباكي؟
في دمك «صوات» الندابة القديمة، شجن المغني الأعمى على القيثار، أحزان إيزيس الثكلى وأحفادها الذين تترنم بهم الرباب والمواويل ، أهو القبر والتابوت الفرعوني الذي لم تستطع الفكاك منه (من عجب أنه يتسع للنكات والضحكات، إن السياح يقصدون طيبة، وقاعة المومياآت في المتحف المصري، ويغفلون عن القبور والتوابيت والمومياءات الحية!) أهو سجن العمر الموروث؟ وهل كانت كل كتاباتك لطما في مأتمك الأزلي نصبته «دمعات» الربة، لكن نسيته؟ ها أنت ذا بعد آلاف الصفحات وآلاف الليالي الوحيدة، تدرك فجأة أنك لم تخرج من التابوت، ولم تستطع أن تزحزحه؛ لأن الأجداد صنعوه من ضلوعك.
تفتح عينيك فجأة - بعد فوات العمر - فترى الكتب تحيط بك، سورا شائكا غرسته بنفسك، فحرم عليك بستان الحياة. صور لك الوهم أن الحياة كتاب، وأن الكتاب حياة، لم تدر إلا وقد أصبحت مجلدا يمشي على قدمين، ينطح صخر الواقع بأحلام ليست هي أحلامه، عند أول ريح تطايرت الأوراق. عند أول صدمة غرقت كما غرق تراث أجدادك في مياه دجلة والبحر الأبيض. فتشت عن طوق النجاة. آه لو كنت كتبته! كتابك أنت لا ما نقلته عن الآخرين. لربما كان أغاثك، أو خف إليك كقارب نجدة.
يا نوح العجوز! لا عاصم اليوم من الطوفان. يا نوح، لم لم تصنع سفينتك؟ دموعك الآن هي الطوفان. فالجأ قبل فوات الوقت إلى حائط مبكاك، لكن حاول أن تبكي بدموعك أنت، أن تتعرى في الريح أمام المكتبة المحترقة، أقم الحائط وابك عليه، فلعلك يوما تتطهر. ••• «الناس جميعا فرحون، كأنهم يشاركون في وليمة، كأنهم ذاهبون إلى مهرجان الربيع. أنا وحدي أرقد في سكون، أشبه بطفل صغير، لم يبتسم مرة في حياته. أنا وحدي متعب، حزين القلب، مضيع كأني بلا هدف، أنا وحدي غير الآخرين.» سطور من كتاب ترجمته منذ سنين.
1
أهناك شيء يصدق عليك مثلها؟ الاكتئاب كان قدرك. أمك المسكينة كانت تسميك مالك الحزين، كنت لا تبكي وتنشج إلا في الأفراح. أيها السم الأسود، من الذي خلطك بدمي؟ أهذا هو الذي قربك من الشعر؟ عرفت مبكرا أنك أفلست فيه. أهذا هو الذي جعله يلازمك كظلك فأخذت تنقله إلى لغتك؟ سودت عنه مئات الصفحات. تجولت في جزره البعيدة والقريبة (في العام الماضي منحوك الجائزة - فضلا منهم وكرما - فأغرقتك في مزيد من الاكتئاب). يا أوديسيوس الخائب، سدى كانت مغامراتك، الحوريات كذبت عليك. الرحلة كانت مضيعة للعمر. وعزفت على قيثار لم تصنع أوتاره، لا لم يصنع لك، هل تعجب بعد وصولك إيتاكا أن تتنكر «بنيلوبة» لك؟ أن تهتف بك: «لا لست الزوج! والثوب الواعد لم يغزل لك. لم أنفق فيه العمر لكي أنتظرك.»
Bog aan la aqoon
ها هي ذي تطردك الآن، وعلى مرأى من كل الخطاب الجشعين وأهلك ومربيتك. هل كان الأولى بك أن تبقى في زي الشحاذ؟ طهر نفسك، واغسل كفيك. هل يتسع العمر لرحلتك الأخرى، رحلتك الحقة؟! (موضوع مسرحية بدأتها ولم تتمها) ما أكثر ما بدأت! ترى لماذا لم تستمع لصديق عمرك
2
الذي وجهك لسيف وأبي زيد وعنترة؟
لم غربت وما شرقت؟ لم تبعد دوما عن نفسك وعلى من تلقي الذنب؟ الطفولة كانت قاسية. الزمن اشتد عليك. طوفت بكل الآفاق وها أنت تعود، الابن الضال يهرع نحو أبيه؛ ليغرق كفيه بدمع التوبة، لكن الأب مشلول، فقد الذاكرة، ونسي الابن. وهو الآن تراب يرقد في حضن تراب، والابن التائب يصرخ: لم تتركني؟ (عنوان رواية تدور في عقلك منذ سنين. لم لم تبدأها بعد؟) أما كان الأولى من رحلة الشعر (ضيعت في كتاب واحد عنه ست سنين)، حبست شبابك في سجن لا تدخله إلا أوزان الشعر وكلماته، هل كان الأمر يساوي هذا الجهد؟ أم أنك تهوى دوما أن تلعب دور ضحية، حتى لو كان الجلادون هم الشعراء؟! هل هي مأساتك وحدك؟ أم كان الأولى من هذه الرحلات أن تعلم أميا واحدا؟ وهل تنسى أن أمك ماتت وهي أمية، تذكر تعبك أياما وأسابيع لتحفظها
إنا أعطيناك الكوثر .
وأين تهرب من كلمة ذلك الذي زار بلادك؟
3
سارع إليه كهنة الثقافة - وكم انبهرت مثلهم بكل جديد - فقال ما معناه: لو كنت مكان المثقف عندكم لأخذت طباشيرا ولوحا أسود، وهرعت إلى الريف لتعليم الأميين. وها هي ذي الهاوية تتسع بين الكاتب والقارئ لا تضيق. ونحن نواصل كتابة الرسائل المفتوحة إلى بعضنا. لا نكف عن الصراخ من ذنبنا وخجلنا من عار الأمية. مع ذلك لا نفعل شيئا. (أين اتحادات الأدباء لتوجه قوافلنا نحو الريف؟) هل نعزي أنفسنا بأجيال أخرى - قد تأتي أو لا تأتي - تذوق عندئذ أشعارنا المترفة وعباراتنا الرنانة ونظرياتنا المتعالية وقصصنا ومسرحياتنا التي نفرغ فيها مشاعرنا المذنبة؟ عزاء يستحق البكاء! فابك إذن على حائط مبكاك. •••
وهبطت إلى المتاهة كما هبط ثيسيوس (يا للأسماء الصعبة، لو كنت أدرى بتراثك لوجدت أسماء أرحم!) متاهة الحكمة التي ضاعفت حماقتك. في كل ركن عجوز أشيب ثرثار، وخيوط المذاهب كثيرة ومعقدة، تخرج من نسيج عنكبوت لتقع في نسيج عنكبوت، من طاليس إلى هيدجر وأنت تقرأ وتتابع، تجعد الجبين واكفهرت الملامح، والشعر شاب فرق السالفين، وأنت تتحمس لكل رأي وتتأثر بكل صوت، تفرق نفسك على خبزهم الجاف لكي يبلعه الناس. يقولون لك: أنت تكتب الفلسفة بقلب شاعر. هل يعزونك أم يجرونك من أنفك كما جر فاوست تلاميذه عشر سنين؟ سموه الأستاذ، وسموه الدكتور، فاكتشف أنه ما يزال هو الأحمق المسكين، وأننا عن معرفة أي شيء عاجزون! وها هم يسمونك الأستاذ، ينادونك حضرتك وسيادتك (لكن من يقف بجوارك؟ من يشعر بك؟) هناك تجلس كصنم بوذا المسكين بين جدرانك الأربعة أبكم أخرس كالبوم. ويرونك - حين تناقش أطروحة - في مسوح الحكماء المملين. ويثرثر صوت يخرج منك فتنكره حين تفاجأ به. وتود لو أنك تخرج من جلدك، تدخل جسدا آخر - أبهى وأصح - أو أن تجري عريانا كالمذعور، لكن الدور يمثل فوق المسرح. سيظل يمثل، حتى تنفجر وتخرج منه إلى قبرك أو للنور. (أيتها العين الواسعة السوداء. تابعت صعودي نحو الواحد وأنا أقرأ أفلوطين. هل أحسست بأني أتمنى أن ألقى السلم كي أصل إليك؟) وتكتشف أنك تورطت، أنت ونحن وهم متورطون، تورطت في جسد فرض عليك، في عصر وبيئة لم تخترهما. يقولون وتصدقهم أحيانا: مصيرك بيديك، فاقبض عليه! قارب حياتك من صنعك، فوجه دفته بنفسك، في هذا الزمن وجدت وهذا الركن من العالم؛ فواجه الموقف وتحد المشكلة! وتدق كلمات التحدي والكفاح وسائر الطبول الضخمة. وحين يجن الليل تقول: أنا مع ذلك في ورطة! وتناجي نفسك: لو خيرت لكنت اخترت، أن أصبح شجرة، أو أتقمص قطة! (فالشجرة تلقي ظلا، للتائه والحيران، تعطي خشبا للبردان، فاكهة أو خبزا أخضر للجوعان، والقطة متوحدة، متكبرة تعشق سر الأنجم والكتمان) وتكتشف أنك ضيعت الخيط. و«أريادنة» لم تمسك بطرفه ولم تنتظرك يوما على باب المتاهة. (أصبحت الآن أما لثلاثة أطفال. هل تتذكر جوع القلب وذل العين؟)
وتواصل ثرثرتك ودموعك تجري في صمت. والسنة الدراسية على الأبواب، وعينك داخل المتاهة تبحث عن حائط مبكاك. •••
Bog aan la aqoon
وحيدا تذهب. وحيدا تجيء (في الليل، على فراشي، طلبت من تحبه نفسي. طلبته فما وجدته).
4
آلاف الليالي، مكورا كالجنين في بطن أمك، تمد أكف الجوع إليه. تتعرى، من يغطيك؟ يسعل صدرك يتفجر بالربو، تتشنج معدتك وأمعاؤك بالمرض القومي الأزلي، من ينعطف عليك؟ من يطعمك ويسقيك؟ يا جوعا أبديا للأنثى والأم! ومنذ تخطيت الأربعين وأنت تخاف، في الظلام تتربص عين اللص وعين الغيب، والسماء تمطر الكوارث كل يوم، وصفحة الحوادث قضاء ينزل على الرأس مع كل إفطار. ضيعت الحبيبة، فضاعت الزوجة والأبناء والأحفاد، ضاع الآباء وضاع الأجداد، ضاع الماضي والحاضر والمستقبل. صرت ترابا، عدما، هاوية معتمة في لحظة. لحظة رحت لبيتها فانعقد لسانك، شل القلب وأطبق فوق الشفتين الموت. كل سنة أو سنتين تراها صدفة، في منعطف طريق أو عند عبور شارع - إن ساء حظك لم تر إلا ظهرها، فأتتك عيناها السوداوان النافذتان كحد السيف، اللامعتان كسحر الموت - في يدها طفلاها. كان من الممكن أن يكونا منك، وحين اكتست السواد تحركت، لكن النجم المنحوس هناك. تتحسر: آه لو كانت، لو كنت وكنت وكنت ... وتمضي مسرعا إلى مسكنك، تضع المفتاح في الباب، تتحاشى عيون المتطفلين، تطالعك سدود الكتب كحيوانات منقرضة، تتفرس فيك عيون الأموات-الأحياء، طالت رقدتهم في كهف الورق المصفر! تدفن رأسك بين يديك. في بحر الحزن الأسود تغرق سفن العمر، يوم سلمت عليها - للمرة الأولى أيها الريفي - صرعت شعاعا، عصفورا وفراشة. وحفرت التاريخ على الحائط، ومعه كلمة نيتشه: حب القدر، ما زال الحفر هناك، يشبه شاهد قبر الغرباء، في أرض الغربة: «أيها العابر، قل لمواطنينا في إسبرطة: هنا نرقد مقتولين، وما زلنا في الموتى لوصاياها أوفياء.»
5
ما أشبهك بنيتشه. كم أحببته: ثورته، وجنونه، خيبته والتسليم بقدر محبوب ملعون، هل نملك إلا التسليم؟ (في أواخر حياته، بعد أن أطبق عليه ليل الجنون، لم يعد يعرف أنه نيتشه. تنظر أخته إليه فلا تملك أن تحبس دموعها. ينظر إليها ويقول: لم تبكين؟ ألسنا في النهاية سعداء؟!) واللحظة كانت مسئولة. لم تتركها تمضي وتفر؟ لحظة عجز عن تصميم في وجه الحب-الموت. عبرت لن ترجع أبدا. لم تمسكها من خصلات الشعر الذهبي. كانت تدعوك وتبتسم لك: لم أحجمت؟
وتجيء الموجة في طوفان الجري وراء الخبر المر مغموسا في أوعية الملل، اليأس، القبح، الذل. واللحظة لا ترجع أبدا. أهي فكرة ثابتة تنام على فراشها المريح؟ عزاء وتبرير؟ هل تخدع نفسك؟ تضع الدرع البراق على جثة فارس؟ كي تستمتع بالحرية خلف السور الشائك؟ تتلذذ ببكائك في كهفك؟ يا للأوهام السهلة! سهل أن تتهم النفس، تعذبها، فالتعذيب شريعة هذا العصر، لكن الفاجعة أمر، والمحنة أكبر من مشكلة الحب، فلكم أحببت وجربت. حاولت أن تكون البرجوازي الصغير - من يملك أن يخرج من جلده أو يتخلص من ظله؟ - تقرأ الجريدة، وتتابع أخبار النجوم والأغاني الجديدة، تحرص على مسلسل الإذاعة والتلفزيون، تتحسر على أيام الخير، وتقول مع ذلك: غدا يتحسن كل شيء - لكنك لا تدري كيف؟ - ومثله وضعت الخاتم في يدها (وضعته مرتين في يدين، أبرأت ذمتك ككل مواطن صالح يؤمن بالله والوطن)، وعندما أردت أن تضع يدها خلصتها منك. كانت مع الآخر ترقص وتأكل من الشجرة المحرمة - على آدم المسكين وحده - كنت مملا والكتب مملة. وجه الحكمة لا يلمع مثل وجوه العملات الصعبة، والأخرى كانت أذكى وأمر. داعبت الطفل الراقد فيك وسرت منه. أخذت منه الذهب المشرى بعرق العمر. يا من تتلوى في محراب الفكر، أحرق كتبك قبل فوات العمر. اربط ربطة عنقك، واسمع آخر أغنية فيما يطلبه المستمعون، واذكر حين يجن الليل، أنك وحدك، وحدك كإله الصمت كوحش مجروح. وحدك تتألم وتموت، حتى لو كانت في أحضانك ملكة تدمر.
واحمل حائط مبكاك إلى القبر. •••
اللحظة ضاعت. (هل يتسع العمر لعودتها؟ هل يرجع دولاب الزمن الدوار فتظهر لك، تبتسم كنجم صاف خلف سحاب الدمع؟) عبثا تجمع عنها أكوام المعلومات، تشغل نفسك بالزمن القاسي. ها أنت تحاضر عنها منذ سنين. تهتف أحيانا: ما دام القلب يدق فلا يأس؛ فاللحظة فاكهة تنضج في موسمها، حين يحين أوان النضج. اللحظة - سر الوهج الخالد تحت تراب الفنانين - تحتاج لمروحة الشمس وأجنحة الريح وأنفاس المطر، سنين بعد سنين. لا تيأس أبدا، حين تزيد المحنة يأتي المنقذ. (عنوان كتاب عن أفلاطون! هذا المنقذ سيغادر كهفه، يترك كهف الأشباح، ويصعد للنور الحق. فمتى يخرج منه؟ أم خرج ولم يرجع بعد؟) تهتف بقلوب بكر: عيشوا اللحظة! لحظة الحسم والقرار والاختيار. لحظة التحدي والفعل الحر، بها يواجه الفرد نصيبه، والشعب قدره. من يخذلها، يهرب منها، من يحجم عنها يبقى مدحورا أبد الدهر. هذا قانون الزمن وسر التاريخ. من يتحد الموت يعش! من يحي الموت يكن! كلمات ضخمة.
أحيانا تتجسد، تتحقق، تنقذ فردا أو شعبا يغرق. احمد ربك أنك عشت اللحظة. لحظة عبر أخوك الجندي إلى سيناء. ما أعظمه وهو «يكرر» صيحة «بدر»! ما أكرمه وهو يلف حزام البارود على جسد أضناه الفقر؛ كي ينسف - باللحم الدافئ - درع حديد متكبر. هل تتكرر هذه اللحظة في سيناء وغزة والجولان؟ هل تنقذنا إلا لحظات الحسم الحر؟ أم نشغل عنها، نهرب منها، نستثمرها في شيكات وشعارات، في المستورد والبوتيكات، في أفلام أو حلقات، في الجشع الذاهل عن لحم الجندي المسكين؟
أخشى ما أخشاه الآن: أن تأتي اللحظة، وأنا أحتضر وألفظ آخر أنفاسي. أن تتقدم مني كالعذراء وتهمس: هل تذكرني؟ وأذكر عندئذ أنني نسيت. إني لم أكن أنا نفسي. يقول قائل يعزيك: ومن الذي حقق نفسه؟ أين الذي رضي عنها ؟ حتى الذي أنجز الأعمال الكبرى، في الفن أو الحياة، هل رضي عن نفسه؟ وربما قلت لنفسك: حقا لم تتم عملا كبيرا، ولكن آلاف الصفحات التي كتبتها - يا للذنوب الثقيلة! - لا تخلو من أنفاسك، ترجمت كثيرا، وأنكرت نفسك. أليس هذا عطاء؟ ألم تعش وتجرب كل كلمة وسطر؟ وا أسفاه!
Bog aan la aqoon
الطيبة جنت عليك. (في أيامنا يسميها الكذابون ضعفا، كما يعدون الرقة عجزا والوداعة والأدب جبنا) البراءة والنقاء ظلماك (وكل ما فعلت أن حاولت البقاء نقيا أبيض مهما خضت المستنقعات). فنيت فيما كتبت ونقلت (صادقا تقول: ما أقله وأهون شأنه! كم كانت هناك أعمال أخرى أجدر وأهم!) حتى أوشكت أن تتقمص أرواح الذين شغلت بهم. أسروك حتى كدت تصبح صدى لا صوتا، نسخة لا أصلا. أكانت «شهامة» وأداء واجب، فريضة لغة بادرة شاءت المصادفة أن تطرق باب حضارتها وأدبها. ولم لم تستطع الجمع بين هذا «الواجب» وواجب آخر أكبر منه؟ أهو ضعف الحيلة، قلة الهمة، غباء الطبع، ذل الخبز اليومي، لذة الانبهار بالآخر والغير، غرور التلويح به في وجوه الآخرين؟ ربي، ماذا كان الأمر؟
المسألة - كما قيل بحق - نسبية، والغرور لم يبلغ بك أن تصدق الثناء. (في النهاية: ماذا تقوى الكلمة أن تفعل في مجتمع متخلف؟)
والشركة ما زالت تدميك: لم لم تحقق نفسك أو بعض نفسك؟ لم لم تستجب للحظة الخلق؟ لم لم تصبر وتثابر، وفي أجيال الرواد وأجيال معاصريك وجوه مضيئة تحبها وتتعلم منها؟ بالأمس فتحت كراساتك القديمة - كدت تنساها في غبار الأدراج! - طالعت خواطرك وقلبت المشروعات (عشرات القصص بدأتها ولم تتمها، مسرحيات وروايات طويلة وقصيرة) أين كنت؟ لم جرفك التيار؟ كم نحن أغنياء بالأفكار فقراء في الأعمال!
6
يهزون رءوسهم ويقولون: مترجم حساس، وباحث جاد. وتطعن في القلب، وتدور دوامة التدريس، تطحنك الطاحونة (ترى كيف يواجه المحنة من هم أعظم منك وأعلم؟ أم أنك تهول كعادتك وتصارع شبحا لا وجود له إلا في رأسك؟!) وفي النهاية لم تقول هذا الكلام؟ لمن؟ ألم يكن الأولى أن تصوره في مشاهد ومواقف وشخصيات؟ أهو العشق الموروث، تعذيب الذات؟ ألا يجدر بك أن تبدأ السير عن طريق الثقة والاطمئنان؟ أتبذل وعدا؟ أتحاول أن تنزع خيطا من عقدة صمتك؟ من يكترث بدمعك؟ من يهتم بحائط مبكاك؟
قاس عليك الزمن، كان الزمن قاسيا، عشت الزمن الأسود، الضوضاء حاصرتك، والإزعاج طوقك وأطبق عليك. (ألهذا آويت لكهفك، وجعلت تراث الإنسانية منفاك؟) الجهد كان قليلا والحيلة ضعيفة، الشعارات تنطلق وتدوي، رياح الجديد والغريب تعصف، الانبهار بالموضات والعجائب يذهل النفس عن ذاتها (أنت أيضا شاركت فيه، هل تقبل توبتك الآن؟) البطولات الزائفة والصيحات الكاذبة وتعليمات كهنة الأيديولوجيات «ينبني ويجب ولا بد» سحقت براعم المواهب المتفتحة، وشتتت أوراقها، وأرعبت عصارتها الحية، وسلطت عليها سموم الإدانة (بعضها سكن، بعضها اتجه للمسلسل والتلذذ بطعم الدولار، بعضها لاذ من جحيم الضوضاء إلى قاعات الدرس، أقلها نجح وصمد وأبدع أعمالا لا يبدعها إلا الصبر).
عشت الزمن الأسود (عندما يظهر الطاغية الكبير يصبح الجميع طغاة صغارا، من الحاكم إلى الكناس وجندي الشرطة)،
7
لم تعذب ولم تعلق من قدميك، ولم تركل ولم تلطم على وجهك، ولكن بعض الذين ذاقوا العذاب والتعذيب والركل واللطم كانوا أقرب الناس إليك. وكتبت عن الطغيان (حتى أوشك أن يكون هو اللحن الأساسي في كل كتاباتك القليلة الشأن)، حتى الدراسات لم تخل منه - مع الحذر الواجب.
حاولت - على طريقتك الهامسة الحيية - أن تواجه الإزعاج والضوضاء، كتبت عن «صمت جوته»، وعن السكينة التي قتلناها، فقتلنا معها روح العلم والهدوء والنظر المتزن. كانت الحناجر أقوى من العقول (هناك الآن بصيص أمل في أن كفة العقل والعلم بدأت ترجح)، لكن هل اختفت من حياتنا الأصوات العالية والادعاءات المدوية والعنتريات الزائفة؟ أليس من واجبنا نحن الكتاب أن نقاومها ونخمد أنفاسها؟ يتردد في سمعي الآن صوت بح من الدعوة للعلم، للفكر المنتج عملا، للنظر الخالص من اضطراب العواطف وزعيق الشعارات وبريق المطلقات والتعميمات، وبالجملة من الكذب والضوضاء التي كادت تصبح علامة عربية
Bog aan la aqoon
8
مسجلة. والنتيجة ملايين اللاجئين والمشردين ، والأدعياء والمتبجحين، العاطلين والمتسولين، والخطر المحدق بملايين أخرى.
والخطر المحدق أن نصبح «كغثاء السيل» أن تنقرض حضارتنا، ونصبح تاريخا فات، حقل تجارب للأمم الأقوى، مثل خيام وعقالات وعيون جائعة وبقايا آبار النفط، هل عرب أنتم؟ هل عرب أنتم؟ هل عرب ...؟
9
أعرف أنني أبالغ وأسرف في المبالغة. إن شبح الانقراض - الذي خيم علي سنين طويلة، وجسمته أمامي قراءات طويلة في فلسفة التاريخ - ربما يكون قد بدأ يتهكم علي. ولقد عشت - بحمد الله - حتى رأيت مواجهة الصمود في أكتوبر/رمضان، ولمست أبواب الحرية وهي توارب، والأصوات تردد شعار العلم والإيمان (ولا بد من الصبر والعمل المشترك، حتى يصبح سلوكا حيا لا مجرد شعار). لماذا أستطرد؟ ألأجد تبريرا؟ ألأفضح ضعفي وعجزي أنا وجيلي؟ ألأقول للمواهب الشابة: ثابروا على الأعمال الكبيرة، اصمدوا لمعرفة الذات، فمعرفتها والصبر على اكتشافها والدفاع عنها في وجه كل ما يشتتها هو العبقرية نفسها، ومن أنا حتى أقول هذا أو أدعو إليه؟ كيف يعطي الشيء فاقده؟ هل يشاركني أحد في ألمي؟ هل يحس به؟ أهو اعتراف؟ ولمن؟ ولماذا أعلنه في هذا المكان؟ ألم يكن من الممكن أن أستغل كرم هذه المجلة في شيء أنفع، وقد سبق لها أن أكرمتني ورعت بعض بذوري الفقيرة التي أقلب الآن حصادها الفقير؟ هل أعدتني البطولة «التي يدعيها الكاتب حين يرتدي مسوح النبي والكاهن والمعلم والرائد»؟ أم أصابني - دون أن أدري - المرض الذي حذرت منه كثيرا، حين تكلمت عن التواضع والاعتدال، حين جعلت مثلي الأعلى ذلك «البطل» الصيني المسكين، ذلك الحكيم الطاوي الذي حارب معركته، وحقق انتصاره، ثم استقل مركبا خفيا وتوارى عن الأنظار، أنظار الذين وعدوه بنصف المملكة هدية وانتظروا للاحتفال به؟ رب لم هذا التناقض كله؟ هل آن أن أخلص نفسي من هذه المناجاة وأعبر بالصورة لغة الفن؟ أم يمنعني أكل العيش وضعف الحيلة؟ أنتم يا من ستظهرون بعد الطوفان الذي غرقنا فيه، فكروا عندما تتحدثون عن ضعفنا، في الزمن الأسود الذي نجوتم منه، وإذا رأيتمونا نبكي، فاذكرونا، وسامحونا.
10 «الضعيف هو الغبي الذي لا يعرف سر قوته، وأنا لا أحب الأغبياء.»
11
هنا أجد نفسي أمام عمل يكشف لي اليوم - وبعد كتابته بحوالي عشرين سنة - عن معان وإيحاءات جديدة. شأنه شأن كل فن عظيم، أجد نفسي أمام فنان لم يكف عن التجربة والريادة والمغامرة، هو بالنسبة لي (وربما لكثير من جيلي، وإن كنت لا أحب التعميم ولا التورط في الكلام نيابة عن أحد) منارة شامخة ترسل ضوءها الهادئ لسفينة المصير العربية، ولقوارب المواهب الصغيرة التي تتلمس طريقها في الظلمات. هذا رجل عرف نفسه، سر قوته. كجبل المقطم بقي صامدا يطل - بحبه وحزنه الجليل - على المدينة العتيقة المضطربة بالفقراء والمقهورين والمتسولين والفتوات. كتب ما كتب ليمحق الفقر والقذارة والتسول والطغيان؛ لتختفي الحشرات والذباب والنبابيت. وبشرنا بالسحر، العلم ليخلصنا من قهر الفتوات وكذبهم. الفتوات في كل مكان، فهل آن أن يختفوا؟ ومن الزيف والبطش والدجل، وهو في حكايات الرباب كما هو في دعاوى المتبجحين وبلاغيات الهتافين، حتى كدنا نحن العرب أن نصبح ألفاظا تمشي وتأكل وتنام. هل نقرأ هذا العمل من جديد؟ وهل نأمل أن نحاول قراءته بعيدا عن التشنج والخوف؟ هل ندرك الآن أنه كان رؤية بصيرة لتصحيح الثورة، ومحاولة للمزج بين العقل والوجدان أو بين العلم والإيمان، الذي أصبح الآن كلمة على كل لسان؟ هل نطمع في قدر كاف من الحرية الظاهرة والباطلة التي تسمح للأديب بتناول مادته من التاريخ الديني أو الأسطوري، فيتصرف فيها كما يشاء له فنه وضميره (والفنان الحق ضمير العالم، ميزان التاريخ)، مثلما يحدث في كل بلاد الله، فلا يرفع أصبع اتهام، ولا يجمح قلم، ولا يتطاول لسان ثرثار؟
1977م، العيد الفضي لمجلة الآداب البيروتية
الدمعة الثانية: لمن أتحدث يا نفسي اليوم؟
Bog aan la aqoon
- آه! - ما بك؟ - ضاقت نفسي سئمت نفسي من نفسي. - نفسك تسمعك، تكلم! - ماذا يجدي أن أتكلم؟
ماذا يبقى غير الصمت وماذا يبقى؟
غرقت سفن الغرقى قبل الغرق،
والطفل تمنى لو لم يولد أبدا،
والموت تسكع في الطرق.
ينتظر البائس صوت البوق ويرنو للأفق،
والطير الواجم شلته نذر الشفق .
نعق البوم، وفي عينيه ارتسمت أطلال الكون وفي الحدق.
وتنهد من لا زالت فيه القدرة أن يتنهد،
والكل شقي. - ألهذا جئت؟ ألا تندم؟ - جئت أبثك أحزاني،
Bog aan la aqoon
وأريك عيون الجرح وألتمس البلسم،
أتلقف منك الحكمة. - القردة منك ومني أحكم.
فأنا لا أنظر، لا أسمع، لا أتكلم. - سيعز علي سكوتك عني،
من يسمعني إن صدت نفسي،
وتخلت عني في بؤسي؟
هلا حببت إلي الغرب وأوصيت بمركب شمس؟
رب الأرباب سيسمع شكواي هناك، و«آمون» لن يخزل همسي،
و«جحوتي» يقضي في أمري،
ويدون مظلمتي «خنسي». - لكأني أسمع صوت المتعب يلين عيشه،
من مملكة الغرب يجيء ويحمل نقشه،
Bog aan la aqoon
يسترحم نفسه؛
أن تمضي معه في مركبه، فتقاوم طيشه،
وتعاتبه وتهدئه وترمم عشه. - هل جئت لأشكو من يأسي؟ - أحياتك تقبل في النعمى، في الشدة ترفض والبأس؟ - يا أختي مهلا لا تأسي،
سأسوي مثواك بنفسي،
وأقيم الظلة تحميك من البرد ومن قيظ الشمس. - عش يومك، لا تقس علي - إن أقس فإنك لن تقسي،
ولمن أتكلم أو أشكو،
إن صدت وابتعدت نفسي؟
ولمن أتكلم؟ واليوم يعاف اسمي
أكثر من رائحة الرخم بيوم القيظ المحموم،
ولمن أتكلم؟ والجار يدبر همي
Bog aan la aqoon
وصديق الأمس نعاه البوم؟
ولمن أتكلم؟ قر الناس على السوء،
وجحدوا الحسنى والإحسان.
ولمن أتكلم؟ والماضي ينسى من ذاكرة الناس،
ولا هون من إنسان.
ولمن أتكلم؟ فقد القلب رضاه،
وظل الصاحب مفقود. - ما بالك تتمنى الموت؟
هل يبدو اليوم أمامك،
فتخاطبه، أم طيف زارك في النوم؟ - يبدو الموت أمامي اليوم،
كشفاء من مرض طال وعتق من ذل الأسر.
Bog aan la aqoon
يبدو الموت أمامي اليوم.
1
كشوق سجين للبيت الآمن بعد سنين قضاها في القهر. - دع شكواك، وألق بخورك فوق الجمر،
واهنأ في يومك. - اهنأ؟ هل تخفى عنك هموم القلب؟ - افتح قلبك، هات السر! - يا نفسي، لست بأول من يرثي نفسه.
ينعى غده، حاضره، أمسه.
أرثيها مثل الشاعر «عبد يغوث»،
2
أو «مالك»،
3
أو «فيون».
Bog aan la aqoon
4
عل دموعي تسقط في حقل فؤاد محزون،
فتنبه بذرة أمل أو شوكة غضب مدفون.
أحمل مصباح «ديوجين»
5
المسكين
أهتف في وجه الناس لتسمع أذن من طين:
أنتم في جنح الليل، متى تصحون؟
دولاب الزمن يدور وأنتم تنقرضون وتندثرون.
أشعلتم حرب بسوس أخرى،
Bog aan la aqoon
وهزمتم بعضكم البعض، وأنتم مهزومون،
واستسلمتم لطغاة الدنيا والدين. - تسقط قطرات الدمع على قلبك،
كالمطر على أرض مدينة،
هجر الناس مساكنها.
تروي زهرة أمل،
أم شوكة ألم بعيوني؟ - يروي دمعك شجرة أمل في غابات شجونك وشجوني.
وغدا ستمر خطى الخطاب، ويقطف من ثمرات عيونك وعيوني.
يوما ينجز وعد سنين؛
فالرجل أمين! - أتظنين؟ - كفكف دمعك يا عبد يغوث!
يا مالك،
Bog aan la aqoon
6
ممن ترجو الغوث، وليس هناك مغيث؟
الدمع على خد البطل مهان.
ذابت أعمدة الملح، وثار الموتى في الأكفان.
وقريبا تلد الأرحام الفرسان،
والفارس لا يذرف إلا دمع الفرح
على صدر الشجعان. - أقدام الخيل قد انكسرت،
ساحت في رمل الأحزان.
والفارس مقهور يبكي
في ظل جدار الكتمان.
Bog aan la aqoon