ويسفر هذا السفر عن خلاصة للسياسة العالمية، وهذا هو الرسم الذي جعل منه فردي آمن دوما، آمن في الماضي كما في الحاضر، بأن الروحي أفضل من المادي، ولكن مع النظر إلى ما في تحقيق هواجس المبشرين من بطوء، ولا يستطيع المصلح أو الفيلسوف أو الخيالي أن يصنع زمنه، وما بعض الرجال، كبركلس ومارك أوريل وصلاح الدين، إلا من الشواذ في بلاد البحر المتوسط، وأقطاب السياسة المفكرون، كمحمد، هم الذين رضوا بالأمور كما كانت فكتب لهم الفوز، ومع أن أفلاطون ودانتي أكبر من ذلك لم يتفق لهما مثل ذلك قط، وقد نسي الفاتحون الذين أهملوا الفكر كأتيلا. والواقع أن العظماء الذين ذكروا في هذا الكتاب جلبوا أفكارا إلى الأمم التي قهروها كما صنع الإسكندر، أو تلقوا دروسا من المغلوبين كما فعل بعض رؤساء الرومان والعرب، ومن بينهم من ظهر مشترعا كجوستنيان ونابليون، أو سائرا بالحضارة قدما كبعض البطالمة والبزنطيين أو بعض البابوات أو بعض رؤساء جنوة والبندقية. قال فولتير: «أطلق كلمة «العظماء» على الذين امتازوا في ميدان النفع والإنشاء، وأما الذين خربوا ولايات وفتحوها فهم من الأبطال فقط.»
ويستدعي هذا التاريخ مقابلة بالأزمة العالمية الحاضرة على الدوام، ولا نستطيع أن نتعلم شيئا من الثورات القديمة لا ريب، وذلك لأنها خاصة بحياة أخرى، ولكن مما يفيد أن نعرف الوجه الذي ألف به طغاة الماضي شيعتهم.
وترى المعضلة الديموقراطية هي التي تفرض علينا في كل مكان، وترى الطغيان يصدر في كل زمان عن ديموقراطية فاسدة، وذلك إلى أن يزول وفق تطوره الطبيعي، وتنطوي جميع الديموقراطيات على طغاة مكتومين مرهوبين، مشئومين في الغالب، ويوصف بعض كبراء أولياء الأمور في القرون القديمة بالجبابرة، وليست قيمة الديموقراطية بما تقوم عليه من التصويت العام، وإنما تقوم في أيامنا، كما في عصر بركلس، على ما تعرضه على ذوي المواهب من إمكانيات وعلى رقابة أصحاب السلطة، ولا مراء في أن الرجل الكبير القابض على زمام السلطان يسيطر على دوره في الوقت الحاضر كما في العهد الجمهوري بأثينة ورومة، ولا يعتم مع ذلك أن يغيب مغلوبا بعمله نفسه، وإني تجاه فيض الحوادث التي وقعت في خمسة وعشرين قرنا لم أنزع إلى توسيع وجهة نظرية عما قبل التاريخ، ولن يجد القارئ في هذا الكتاب دراسة حول ما حدث قبل التاريخ من الانقلابات في البحار والقارات، ولا حول مسألة عروق البحر المتوسط الابتدائية التي تتغير بتغير الموضة
4
كثياب النساء، وقد غدت معرفة أي العروق قد سيطر على البحر المتوسط، وأي القبائل التي كان ينتسب إليها ذلك العرق، من الموضوعات الجديدة التي يعنى بها من وقف نفسه من الأساتذة المعاصرين على خدمة الطغاة في الوقت الحاضر، ومن هم «الإيبريون البلاجيون، وشعوب اللغة الساتمية وأمم المثال الهندي الجرماني والحاميون الإيبريون» إن لم تكن هذه أسماء هزلية صادرة عن مختبرات علماء وصف الإنسان في الزمن الحالي؟ وأجدر بي أن أبين أن العروق لم تختلط في مكان ما اختلاطها في البحر المتوسط، فكان في هذا سر عبقريتها.
بيد أن مصدر وحي البحر المتوسط هو المنظر والنور والهواء والماء، وقد بدأت هذا الكتاب في فصل الصيف، وقبل الحرب في البحر المتوسط، وبالقرب من جزر إيرس،
5
ثم قاد منفاي إله غير معروف فجئت بلدا فردوسيا، وهنا تستقبلني روضة اختطها خبير كبير بالبحر المتوسط، اختطها ف. و. جلسبي، الذي حلم بالحدائق في جميع حياته، والجنة التي رسمها منذ خمسين عاما وفق تصميم مغنى
6
إيستي،
Bog aan la aqoon