والذي كان يجعله فوق أغسطس، ووراء كل قياس، هو نبوغه الخطابي، وما كان يتكلم في غير أحوال نادرة، وإذا ما تكلم فبعد أن يدعو الآلهة سرا، بعد أن يضرع إليها أن تصونه من الكلام الغث. وقد سئل أحد خصومه السياسيين عن كونه أمهر من بركلس في المصارعة على الأقل، فأجاب قائلا: «أجل، إنني أمهر منه، ولكن ماذا ينفعني ذلك؟ فإذا ما رميته على الأرض أنكر ذلك في خطبة يفوه بها، ويقنع الجميع بذلك، حتى إن شهود الصراع يصدقونه في نهاية الأمر.»
ومع أن إمبراطورية بركلس دون إمبراطورية أغسطس بمراحل فإن بركلس لم يكن أقل منه انتصارا، وقد تمت للأسطول، الذي كان موجودا حين ارتقائه فأنماه، انتصارات جديدة. وقد عدت أثينة، مرة ثانية، مدينة لقوتها البحرية بتفوقها على جميع قبائل اليونان. غير أن الأسوار الطويلة التي أقامها بركلس ربطا للعاصمة بمينائها وحفظا لها في الوقت نفسه لاحت مهددة للأغارقة كما كان الأسطول الجديد قد لاح، ومع ذلك كانت جميع بلاد اليونان تجتمع تحت سلطانه خلا إسبارطة. وكان سلطان أثينة، حوالي سنة 440 قبل الميلاد، يمتد إلى البحر الأسود وإلى جنوب إيطالية، وصارت أثينة في عشرين سنة قاعدة لم يتحداها من جميع مدن البحر المتوسط غير سرقوسة، وأضحت البيرة الجديدة مرفأ بحريا كبيرا باحتكار قمح البحر الأسود وصقلية ومصر، وأنشأت المعابد التي تتصرف في ثروات عظيمة نظاما بنكيا، ولكن من غير سماح بتملك العقارات الكبيرة، ولم يكن هنالك ترف خاص في المساكن، ولا ضرائب مقررة في أيام السلم، وكانت هنالك أعياد لجميع الناس.
والحق أن بركلس أدرك احتياجات عصره، وهو مع انتسابه إلى أسرة غنية ممتازة، قد انتخب من قبل أعداء طبقته، من قبل عمال البيرة، وهو، وإن كان يقوم بشئون الحكم نفعا للعاصمة، كان يناهض المحافظين، وكان يقيم أول وأحسن نظام ديموقراطي في التاريخ لا ريب، ومن الحق أن يقال إنه استطاع أن يحمل أبناء الوطن على الاعتقاد بأنهم الحاكمون وإن كان مسيطرا فعلا مع قدرة على كتم المظاهر. وقد كان من القوة، جنديا وقائدا حربيا، ما ود معه السلم وحفظه مدة ثلاثين سنة، ولم يقطع حبل السلم مع إسبارطة إلا قبيل موته، إلا حين غدا عرضة لاتهام أبناء وطنه الناكري الجميل، وهكذا أبصر بدء حرب كان يمكنه أن يحول دونها زمنا طويلا. وكان مطلعا على أحوال النفس زعيما للجماهير فأدرك قبل الكونت ميرابو بألفي سنة أنه لا يمكن إمساك النظام الاقتصادي القديم في سبيل الطبقات ذات الامتيازات إلا مع كبير مسامحات وعظيم إصلاحات.
وكانت حكمته، قطبا للسياسة، تقوم على خداع الشعب نفعا للشعب، وهو حين يدفع من مال الدولة بدل دخول الفقراء لمشاهدة التمثيل الروائي، وهو حين يحدث مناصب قضائية برواتب تسهيلا لتقلد المعسرين إياها، يكون قد اشترى أصواتا، وذلك لما كان يجب عليه أن يتقدم إلى الانتخابات في كل عام، وقد انتخب خمس عشرة مرة في أثناء حكمه المطلق. وقد كان يحب الحكم كحب كل متفنن لآلة فنه لا ريب، ولكن مع شعوره بأن اشتراءه للشعب يوجب بقاء أقدر رجل على رأس الدولة، ولما لامه المجلس الشعبي على إنفاقه مالا كثيرا إنشاء لمعابد جديدة أجاب بأنه سيدفع ذلك من جيبه بعد الآن، ولكن على أن ينقش اسمه على التماثيل، وقد كفت هذه الكلمة لانحياز الألوف من سامعيه إلى سياسته وجهرهم بأن يخصص من أموال الدولة ما هو أكثر من قبل لشيد المعابد، ويأذن لأريستوفان وجوقته في إبداء أغلظ أفاكيههم ضد صاحبته أسبازية، ويؤدي ذلك إلى زيادة حظوته لدى الشعب.
وبركلس هو اليوناني الوحيد الذي تأثرت حياته بامرأة لا بخليل، وكان جميع الناس يعلمون أن أسبازية تحتفظ في منزلها بصواحب تعرضهن حتى لبركلس على ما يحتمل، ويزورها سقراط وإن كان هذا الفيلسوف لا يكترث لحب النساء مثقال ذرة، فتؤثر أسبازية فيه فيهجر زوجته الأولى ويهبها لرجل آخر عن تراض، وما كان لأي عار عام أن يحول مشاعر بركلس عن أسبازية.
ويود إثبات نزاهته لأهل أثينة فيشري من السوق العامة ما يحتاج منزله إليه، غير أنه يبيع محاصيل أرضه بثمن غال ككل مزارع، ويأذن للمصورين الهزليين في العمل بقريحة يثيرها قحفه الشاذ بطوله والذي لم يكشفه قط للبسه خوذة باستمرار تقريبا. وهو على ما كان يخادع به الشعب في موضوع دوام السلم مع إسبارطة لم يكف عن التسلح قط. وهو في كل عام كان يبرطل رجال الحكم في إسبارطة كسبا للوقت. وهو حينما كان يلوح لحلفاء أثينة بالمساواة بين جميع الأغارقة، كان يفرض عليهم جزية كفاتح فلا يشكون في أنه يبني الأكروبول المعد لتخليد مجده بهذا المال.
ولما اقتتلت ملطية وساموس انحاز إلى ملطية حيث كانت خليلته قد ولدت فافتضح كثيرا لدى أبناء وطنه، غير أن ما تم لهم من نصر على يديه في نهاية الأمر رفع شأن بلده وأغنى أثينة، فتضاعف بهذا النصر احترام الناس له بعد أن كاد يفقده في سبيل غرامه بامرأة، وكان لا يتحرز في المعارك.
وفي ساموس قاتل بركلس بجانب سوفوكل، وقد حفزت المصلحة والشرف هذين الرجلين العظيمين إلى المجازفة بحياتهما البدنية إنقاذا لحياتهما الروحية، وذلك لاتخاذهما الحكمة دليلا لهما، وما الأثني الحقيقي إلا كبركان مستور بثلج، وكان خيار الأثنيين براكين كإتنة.
وكان بركلس يبدو لأبناء وطنه ألنبيا، ومن بلوتارك نعلم أن هذا الوصف ، الذي كان دارسا في ذلك العصر، يناسبه مناسبة تامة. وكان بركلس، منذ بدء حكمه المطلق الفعلي، لا يبدو للجمهور إلا نادرا، وكان لا يتكلم إلا في الأحوال الكبرى، ولم يقل اشتعال النار الألنبية في فؤاده؟ ولم يمتنع ممثل الكرامة الحقيقي هذا عن التلهي بالنموذجات الشابات في محترفات فيدياس، وهن اللائي لم يزعمن اتخاذهن أتينا الحصان قدوة لهن في حياتهن اليومية إلا قليلا، وهو الذي لم يكن عليه أن يمثل أمامهن دور أبي الوطن القلق بالشئون العامة؟ ولم لا يعترف بنغيله
111
Bog aan la aqoon