وبذلك الحلف الديني يكون أول نموذج تاريخي لجمعية أمم قد وضع على شواطئ البحر المتوسط، وسيسار على هذا النموذج بعد حين فيقام حلف آخر. وقد اتحد اثنا عشر كنتونا مستقلا، أو اتحدت شعوب من الفلاحين وصيادي السمك، لحماية بعضهم بعضا قبل أن يصنع السويسريون مثل ذلك ب 1800 سنة، وقبل جمعية الأمم بجنيف ب 2500 سنة، وقد فصلوا فصلا وديا جميع المسائل الخاصة بالحدود ونظام المياه، وسنوا ما يؤيد ذلك، وفرضوا من العقوبات ما يجازى به الباغي بعمل مشترك يقوم به جميع الأعضاء. وليست مبادئ القانون الدولي الأساسية مدينة للرومان، بل للأغارقة الذين هم قوم من الملاحين والفلاسفة، وهذا إلى أنها كانت تصدر عن البحر المتوسط كصدور كل صالح عنه. والحق أن ذلك الحلف الهجومي الدفاعي أبرم، كما يلوح، قبل وضع القوانين المدنية، وكان قد قدس للمشترعين الأولين كآلهة، وهم لم تطلق عليهم أسماء رجال، بليكورغ ودراكون، إلا بعد زمن. وكان من المذهب الإغريقي أن يؤنس ولي الأمر بدلا من أن يؤله على المذهب الروماني، ولم يكن الإغريقي الوحيد الذي أله، ولم يكن الإسكندر الأكبر إلا نصف يوناني.
وأثينة وحدها هي المدينة التي سمت في ذلك العصر فوق الدويلات المتحاربة على الدوام.
ومن النادر أن تسير مصاير أفذاذ الرجال وفق خطة مبيتة، حتى عند توجيه تربيتهم بحكمة كما تقتضيه قابلياتهم، فلا تلبث الفرج والصدوع أن تقع، ولا يمكن أن يبصر من يكون مختارا بين جمع من فتيان موهوبين، وأن تعرف السرعة التي ينشأ بها، وأن تعلم سرعة ما يحتمل من تقهقره، وأن تدرك القوى التي تهدمه في نهاية الأمر. ولو كان الأمر غير ذلك لغدا التاريخ منطقيا، ولبدا مملا، ويحاول، عندما يدرس شباب أعاظم الرجال، أن يستنتج كون كل شيء أتوه كان مقدرا مقدما منذ البداءة، وكذلك يصعب علينا أن نتمثل دورا لم تكن أثينة فيه غير إحدى الجمهوريات الثلاثين الصغيرة المتقاتلة نيلا للمجد والسلطان.
ومع ذلك فإن نظرة تلقى على خريطة اليونان وعلى رسم أثينة تدلنا على أن من مقتضيات موقعها وطبيعة أرضها أن تزدهر كما أن مواهب الشاب مع مساعدة أحوال منبته مما يعده لعمل باهر، وبين مدن البحر المتوسط تقع بزنطة وحدها في مكان مبارك كذلك، ويمكن تشبيه أثينة من حيث موقعها بناظر يسمح لجمع من الأولاد أن يغتسلوا في البحر، فهو يرقبهم من فوق مرصده، وهو يحملهم على نظام شديد مع أنهم يأتونه بأصداف أو سفن. وإذا صح تعيين الجزر لمصير اليونان في الحقيقة فإنها لم توفق لذلك إلا لقربها من قارة تتصرف في مائة ساعد لتقبل السفن وفي مائة جبل لاتقائها.
وولدت الحضارة الأوروبية على تلك المزق من الأرض التي ندعوها بلاد اليونان، وهي لم تولد على غير القسم الشرقي من تلك المزق التي وضعت الطبيعة أثينة على مركزها. ومن العبقرية أن يستفاد دوما من بعض نعم الطالع فتنميها العبقرية بعدئذ بنفسها. وهكذا أعدت أثينة لتسيطر ولتكون وطنا ساطعا، مع أن رومة لم تسطع أن تنمو إلا بعناد بطيء وعلى الرغم من أحوال غير ملائمة. وبهذا يفسر سبب إتمام أثينة ارتقاءها المجيد في قرن واحد مع أن ذلك لم يتفق لرومة إلا في خمسة قرون، ومن الواقع أن رومة حافظت على سلطانها مدة أطول من التي اتفقت لأثينة.
وفي الأرخبيل، الذي يسمى الأرخبيل الإيجي، تعد 483 جزيرة، مع أنه لا يوجد عند شاطئ اليونان الغربي غير 116 جزيرة، ولكن لا أهمية للعدد. وفي الغرب يفصل بحر عريض عميق، يفصل البحر اليوناني، تلك الجزائر عن جنوب إيطالية، والمضيق الوحيد هو في كورفو. والجزائر في الشرق هي، على العكس، بقايا برزخ، فلا تزال تؤلف ممرا يبلغ من السهولة نحو آسية الصغرى ما تؤدي معه جزائر سيكلاد وجزائر إيجه من أندروس إلى رودس فيسهل على العملاق أن يخلص بأن يثب من بر إلى بر كما يمر من جدول ذي حجارة بارزة، وذلك إلى أن الرياح تعين السفن التي تصل بين القارتين كأقريطش، ومقدونية والدردنيل في الشمال. وتعد أثينة مدينة بنصف عظمتها وفوزها للجزر والرياح ومدينة بالنصف الآخر لموقعها الداخلي، وتقع الأرض القليلة التي كانت تشغل معظمها، والتي كتب باسمها الخلود للجمال الأتيكي والروح الأتيكية، على الساحل الجبلي الممتد من الشمال حول خليج إيجين المشتمل وحده على 62 جزيرة، ويحفظ الأتيك من جهة الشمال جبال ومن جهة الغرب برزخ كورنث الذي لا يجاز إلا بمضايق صعبة وبطرق ضيقة بين الصخور. والأتيك، على العكس، مكشوف من ناحية الجنوب، والأتيك مشمس جاف، وهو أقل صلاحا لزراعة الحبوب مما لزراعة الزيتون والكرمة والتين، وهو إذن لا يستطيع أن يتجه إلى غير الشرق؛ أي البحر. ويقيد هذا الأمر شكلي حضارته الأساسيين، وموقع أثينة من الناحية التجارية أرفع من موقع كورنث المحصور بين الخليجين والمعد ليكون ميناء مرور.
ولنقابل بين الأتيك وجارته الشمالية بيوسية المقتطعة من البحر، والمرصعة ببحيرات والرطيبة الجو والباردة الشتاء والخصيبة الأرض، لنبصر أنها أنشأت شعبا من الفلاحين الرزناء المتحرزين.
ثم لنلق نظرة إلى ما وراء كورنث، إلى الأركادية، إلى بلد الرعاة الجبليين الذي لا يزال فلاحوه محافظين على مظهرهم القديم، وذلك مثل رمز منسجم لقصيدة رعائية خالدة، وبين الاثنتين يقع الأتيك الذي يجتذب خليجه الجنوبي جميع من يأتون من وراء البحر والجزر بحثا عن مرفأ وإنشاء لأماكن تجارية ومحال لهو. وهكذا سطعت أثينة على الأرخبيل ثلاثة آلاف سنة فبدت منارا نيرا يلقي نيرانه على الشواطئ وعلى السفن وينشر في العالم، وعلى أفواه ملاحيه، أسطورة ضيائه حتى قبل أن تصل أعماله وأفكاره إلى السواحل البعيدة.
ومع أن هذه المدينة البحرية صارت عاصمة حلف لم تكن مالكة لميناء طبيعي، وهي قد كانت منذ البداءة، أقرب إلى البحر من رومة، غير أن تمستوكل لم يحول المستنقع إلى ميناء عالمي إلا بعد حين، وذلك بفضل مهارة مهندسي العصر، وهو أول ما ملئ بالأنقاض والحجارة، ثم جعل مدخله خمسين مترا بعد أن كان ثلاثمائة متر، ثم وسع مجددا في زماننا.
وفي مقابل ذلك حبت الطبيعة أثينة بموهبة ألزم من مرفأ لتوسعها، وكانت تبرز من السهل، وعلى ارتفاع 150 مترا، صخرة منفردة ذات ذروة مستوية محاطة بهوى عميقة، وكان طول هذه الصخرة 330 مترا، وكان عرضها 130 مترا. وقد أقيمت المستعمرة الأولى على هذا الحصن الطبيعي، وقد وجدت هنالك موقعا مثاليا يذكر بمأوى قطاع السابلة في عصر الفروسية. بيد أنه اتفق لهذا التل من الطالع الساطع ما لم يتفق لحصون الأرض طرا، فقد أقيم فوقه البارتنون منذ القرن الخامس قبل الميلاد.
Bog aan la aqoon