101
دام في النصر تشهد به المظاهر المشئومة ويلازم ما اتصف به من أخلاق عملية هذا الشعب الروماني ذو الفضائل المتينة والذي كان يتقدم عن سعي بعيد من العياء. وفي ذلك الزمن كان جفاف الأرض يجعل هؤلاء القوم، كما تجعلهم أخلاقهم، مشابهين لبروسيي هذه الأيام، وإلى هذا أضيفوا النفوذ الإغريقي الذي ينشأ بما لا يمكن إنكاره عن بعض التماثيل الصغيرة والذي يثبت فوز الروح حيث كل دراسة للعرق تصاب بحبوط محقق. وقد ترك الإتروريون وراءهم آثارا رائعة، ومنها تلك التماثيل الصغيرة البرونزية التي صور بها مقاتلون بلغوا من الهيف ما يرون معه أنهم عذارى متنكرات مستعيرات أسلحتهن وخوذهن من إخوتهن. ومنها ذلك الرأس النسوي المصور على جدار إتروري بتاركينية. ومنها «مارس توجي» ذو المظهر الجافي والشكل الغبي، فجميع ذلك من الآثار الإترورية التي استوحت روح الإغريق.
وما كان من صراع بين الأغارقة من جهة والإتروريين والفنيقيين من جهة أخرى أوجب عقد محالفات دائمة مع القرطاجيين، وقبل ذلك كان القوم الملاحون القرطاجيون قد عظموا وتقووا تجاه وعيد الأغارقة. وهنالك، في ملتقى حوضي البحر المتوسط، وهنالك، حيث أقام الفنيقيون معسكرهم للاستيلاء على لجين إسبانية ومنتجات أفريقية، قد أنشئوا أهم مدنهم، وهنالك قد بلغوا سلطانهم العالمي في بدء الأمر، وهنالك قد بادوا في نهاية الأمر. وقد كانت قرطاجة قديمة قدم رومة، وعلى ما في تاريخ شيدهما حوالي سنة 800 قبل الميلاد من شك يدل كل شيء على كونهما معاصرتين. وخلف رأس يبلغ من العرض نصف فرسخ، وفي خليج تونس، يمتد مرفآن على مهل مع وقايتهما بعمق هذا الخليج وبكثير من الصخور العالية، وأحد المرفأين تجاري طويل ذو أرصفة عريضة، والمرفأ الآخر حربي مستدير يشرف عليه سور المصر، وفي أيامنا، حين ينعم النظر في هذين الميناءين، لا يحرك النفس أكثر من تبين صغر أبعادهما الذي قرنه الخيال بفكرة القوة كما فعل بتروادة.
وإذا نظر إلى الأمر رمزيا وجد كل واحد من تلك الشعوب مدينا بسلطانه حتى لأعدائه. وكان الفنيقيون في بدء الأمر قد دحروا من داخل آسية إلى سواحلهم المنخفضة ونحو البحر، وكذلك الأغارقة كانوا قد دحروا إلى شبه جزيرتهم ونحو الأرخبيل، ثم أوغل الفنيقيون، بسبب هؤلاء الأغارقة أنفسهم، في البحر المتوسط حافزين الرومان إلى السير على غرارهم. وهكذا حمل الضغط المستمر أحسن شعوب ذلك الدور موهبة على تحول بعضها من تجار إلى محاربين وتحول الآخرين من فلاحين إلى بحريين، والشعب الرابع وحده؛ أي العبريون، هم الذين ظلوا غريبين عن البحر تماما.
ولم يكن أي واحد من تلك الشعوب مفطورا على غريزة الفتح، وهي لم تقم بفتح إمبراطورياتها مكرهة إلا دفاعا عن النفس. وكان أعظم فاتحي العالم القديم، الإسكندر وقيصر، من أمم لم تحفزها الغريزة الحربية ولا الاحتياج إلى التوسع. وقد أرادت هذه الأمم في البداءة أن تدافع عن نفسها فقط، أن تعيش فقط، ومع ذلك جاوزت إمبراطورياتها من حيث الاتساع، ومن حيث الدوام عند النظر إلى رومة، ما أقامته قبائل البرابرة البدويين من الإمبراطوريات في منطقة البحر المتوسط بعد زمن، سائرة في هذه المرة وراء الغريزة الحربية والميل إلى التوسع.
ولما سار الأغارقة الأولون إلى الغرب بحرا بلغوا صقلية حوالي سنة 700 قبل الميلاد، وبلغوا شمال أفريقية حوالي سنة 600 قبل الميلاد، فشعروا آنئذ بأنهم وارثو قدماء الفنيقيين، ومن قول الهاتف، وهذا لا يزال صحيحا في أيامنا: «من يصل إلى ليبية متأخرا لتوزيع الأرضين يندم فيما بعد.» وكان الأغارقة قد أعدوا للوصول في الوقت المناسب فاستقروا بسرت وأنشئوا قورين وبرقة. وقد بلغ الفوسيون، الذين هم أمهر ملاحي الأغارقة، وذلك مع تعاطي السلب والتجارة، نواحي مصاب الرون، فأقاموا، أو وسعوا، مرسيلية، ثم مروا من جزائر البليار إلى إسبانية ونزلوا إلى قورسقة، وقد كانوا يركبون زوارق رشيقة ذات خمسين جذافا، لا سفنا تجارية ذات جدران مستديرة كما زعم هيرودوتس. وقد ساعد ملك طرطسوس الإسطوري، الذي يلوح أنه ملك الساحل الأطلنطي الواقع وراء جبل طارق ثمانين سنة، فريق الفوسيين الذين كانوا يحاربون الإتروريين واللاتين أو يحالفونهم مناوبة.
ثم نهضت قرطاجة لترد الضربة، وهي، إذ غدت سيدة عدة مدن فنيقية وقبائل إيطالية، هاجمت الأغارقة، وهي قد غلبت نصف غلب في أول معركة بحرية في الغرب جديرة بهذا الاسم، ولكنها وفقت لإنقاذ قسم من أسطولها، ثم حالفت الإتروريين، ثم عقدت قرطاجة معاهدتين مهمتين، وقد احتفظت في إحدى المعاهدتين لنفسها بجميع الحقوق على جبل طارق. فمما ريب فيه أن اجتذبتهم الصخرة التي يفصلها عن القرطاجيين جميع البحر المتوسط الغربي؛ وذلك لأنهم كانوا يحلمون بالبحر المجهول الذي يمتد وراء ذلك. وكان القانون القرطاجي يحظر دخول جزيرة واقعة في المحيط الأطلنطي معاقبا بالقتل من يصنع ذلك؛ «وذلك لأنها مقام الآلهة أكثر من أن تكون مسكنا للآدميين»؛ وذلك لأن الإقامة بتلك الجزيرة مما يوجه إليها نظر الإتروريين، فيحسب هذا القانون دليلا على الأثرة أكثر من دلالته على خصب الروح.
وأما المعاهدة الثانية فقد عقدت بين قرطاجة ورومة القديمة (سنة 350 قبل الميلاد كما يظن) التي كانت عاصمة العالم اللاتيني. وفي هذه المعاهدة صار يحق للقرطاجيين أن يتاجروا في الأرضين الرومانية، ولكن على ألا يقيموا حصونا ولا أن يتلبثوا ببعض الأماكن ليلا، وفي مقابل ذلك وضعت حدود لملاحة الرومان في اتجاه الغرب.
ولم يلبث جميع أولئك الملاحين الغربيين أن ضغطهم عدو قوي جاء من الشرق، فقد أرسل دارا الفارسي رسلا لتهديد قرطاجة ومطالبتها بكتائب مساعدة. وقد فرض هذا الفاتح الآسيوي بأعجاله الهائلة المجهزة بالمناجل على القرطاجيين ترك بعض الأفعال، ولا سيما تقديم القرابين البشرية وأكل الكلاب وتحويل ما يجب عليهم دفنه من الموتى إلى رماد.
ويظل ظل الفتح الفارسي، الذي أقتم به البحر المتوسط، من أقاصيص التاريخ الوهمية، ويمضي قرنان فيلوح ظل المحارب الإغريقي أمام الفرس، وهنالك يقهر الإسكندر سليل الملك الأكبر كما كان يتسمى به دارا أيضا.
Bog aan la aqoon