45
ما لم تكن الجزمة رائعة خاصة بفارسة كالتي تلبسها الدوكات في ألواح فان ديك. وإذا ما عرضت خريطة أوروبة على ولد لم يلبث أن يدل على إيطالية محاولا تتبع استداراتها بإصبعه الصغيرة. وما كان من القول بوجود برزخين يصلان بين تونس وصقلية وإيطالية فيما مضى أثبت بعظام الحيوانات وبما يرى من العمق القليل في العتبات البحرية القريبة من بنتلرية ثلاثمائة متر ومن مسينة مائة متر فقط، ويميز ساحل أفريقية من ذروة إتنة بالعين المجردة، ومن ينعم النظر في هذا المنظر ذات مرة لا يفقد كل سعادته في حياته.
وعلى الخريطة تعيد العين ذينك الجسرين نحو أفريقية فتغلق الحوض الشرقي على هذا الوجه، وهنالك يرى السبب في مرور كثير من القرون قبل أن تشتد الرغبة في المعرفة والاغتناء فتحفز إلى الفتح من الشرق إلى الغرب، وتتكرر خلجان جميلة التصوير على نمط واسع وعلى طول جميع شواطئ البحر المتوسط، وتوجب بعد ذلك انخفاضا في الأرض وعلى أطراف الأودية، وتجوب سلاسل من الجبال جميع الأرضين المجاورة وتحددها، وإذا ما درست خريطة شعر بالحوادث الكثيرة التي وقعت في ذلك الزخرف الزاخر المتنوع.
ومما يزيد حوضي البحر المتوسط بركة ما بين الشمال والجنوب من تباين نسير به من الألب إلى الصحراء. وكان البحر الذي تدخل به الحضارات عن تماس متقابل خصيب بحرا صغيرا، بحرا داخليا تقريبا، وهو يبدو مسرحا كان يظهر عليه مناوبة للاقتتال برابرة الشمال وأبناء صحراء الجنوب الذين صاروا قراصين، وهل كان ينشأ غير افتراق سكان بحر كسكان البحر الأسود المتنائين عند النظر إلى عزلة هذا البحر الباردة المحدودة، وغير افتراق سكان بحر كسكان المحيط الأطلنطي عند النظر إلى بطء وسائل النقل في هذا الأقيانوس سابقا، وذلك لدى قياسهما بالبحر المتوسط؟ واليوم، حين يكفي وقت مساء للسفر جوا من قورسقة إلى تونس، تتجاور الحضارات التي يربط العلم بعضها ببعض على ذلك الوجه، وتصبح المسافة بين بورسعيد وتريستة من القصر ما نبصر معه خطر ميل المحال إلى الاختلاط، وعلى من يود تمثل اصطراع تلك الحضارات في القرون القديمة أن يتناسى السرعة الحديثة.
ويا له من تباين بين! وبين بحر أزوف، الواقع هو وزوريخ على درجة واحدة من العرض، وبنغازي الليبية يتلقى البحر ريح سيبرية الباردة وريح السموم الأفريقية، وتعد مصر ولبنان من توابع الصحراء مع استثناء سواحلهما، وقد أدى عدم المطر هنا، كما في بابل أيضا، إلى ري مصنوع، وإلى تأليف جماعات تدافع عن نفسها دفاعا مشتركا ضد البدويين، ومن هنا كان ظهور النظام المركزي والحكم المطلق والاستبداد. وعلى العكس أسفر المطر في البحر المتوسط عن الصناعات الفردية وعن الاستقلال والحرية كما نشأت عنه أحزاب سياسية. وبهذا يتجلى أول فرق بين الشرق والبحر المتوسط، وبالملاحة البحرية نفسها يتجلى ثاني الفروق.
ومن دراسة البقاع التي نشأت فيها شعوب البحر المتوسط الرئيسة نتبين ما هو نافع لها ضار بها كما نتبين أسباب انتصاراتها وهزائمها.
وهنا ترى العراق محاطا بالسهوب نافذا من هضبة أرمينية العليا إلى الشرق وإيران والهند بالغا الصين بتجارته غارقا في ظلام الجهل. ومن الناحية الأخرى تعوق سورية، بغورها الأكبر، وسائل الاتصال، ولكن مع امتلائها حيوية في ساحلها الضيق المائل إلى الغرب والذي كان الفنيقيون يدخلون البحر المتوسط منه، وهناك ترى آسية الصغرى محاطة بالجبال من ثلاث جهات فلا تبدو غير أسوجة
46
ولا يسهل دخولها من غير الغرب، وما هي عليه من اتجاه نحو البحر المتوسط ساعد على مغازي الفرس ومسلمي الترك، وبالدردنيل والبسفور اتصل بشعوب سهوب روسية البعيدة فكانت تمير
47
Bog aan la aqoon