ولم يزر بالفضائل النصرانية في جو مثل هذا، وإنما وضعت هذه الفضائل في المرتبة الثانية بحكم الطبيعة، ومن ذلك حلت شهوة الثأر الوثنية محل فضيلة التوبة النصرانية، وكان يرى الجبر في طبيعة الرجال والنساء فلا يحتاج الإنسان بعد الآن إلى قسيسه أو إلى يسوع لينقذه، وحافظ الناس على طقوس العماد والزواج والجنائز، والروح القدس هو الذي كان يلوح خلوها منه، وقدرت نساء قديسات، ككترينة السيانية، تقديرا عظيما لفائدتهن الاجتماعية، وقد عاشرن معاصريهن كالمطالبات بمساواة الجنسين في الوقت الحاضر، وكان من النادر وجود امرأة مترجلة؛ أي عذراء مجاهدة. وعلى العكس وجد من النساء كثيرات عارفات بأمور الغرام خبيرات بحيل الرجال. وكان من عادة الدوكة كترينة سفورزا أن تعرض جنودها في ميدان عام كل يوم، وقد دعيت ذات يوم إلى الانتباه بصوت عال لاحتمال الانتقام من أولادها بسبب شهوة الحكم فيها، فاسمع جوابها: «عجبا، إذا ما أصيبوا بشيء وضعت عوضا منهم!» فقول كهذا يشجع جيلا من الفتيات على السير مع أهوائهن.
وتذكرنا هذه العبادة للبدن وللحذق الفطري واللعب الفروسي والعمل الرياضي ببعض المثل العليا الأمريكية الحديثة، ولو وجدت في فلورنسة مجلات أسبوعية كما في نيويورك لأبصرنا تماثلا بين كثير من صور البلدين مع قلة تبسم في السابقة، ولو نظرت إلى ما رسم من صور رائعة كثيرة لذوي الصيت وغير ذوي الصيت من رجال عصر النهضة ونسائه لرأيت موناليزا وحدها هي الباسمة ولرأيتها لم تبسم لغير نفسها.
ومع ذلك فإن حيوية مشرقة كتلك لا تكون خالية من بعض المحاذير، وكانت هذه المحاذير أظهر مما في الدور الروائي السابق أيضا، فالانتقام ولد القتل وغذى الطموح ما بين الأمراء والجمهوريات من صراع لا ينقطع، وما أبدي من إعجاب بالمغامرين أدى إلى اشتباك الطبقات اشتباكا تاما، وقد آلت السلطة إلى الأكثر مهارة وبسالة، لا إلى المؤتمرين المرائين كما في بزنطة، وقد حاول الجميع أن ينال السلطة إذن، فنالها في بعض الأحيان أناس غير معروفين، ومن لم يسطع أن يتعلم في شبابه كان يعرف ذلك سريعا من «كتاب النديم» لكاستيغليوني؛ أي من هذا الكتاب الذي كان يعلم العالم سلوك سبيل النبل فصار أكثر كتب العصر تقديرا.
وأما النساء فكن يتعلمن قواعد السلوك وحسن الأوضاع من كتاب «جمال النساء» لفرنزولا؛ أي من هذا الكتاب الذي كان يتطلب صدرا واسعا بدلا من أكتاف رخوة للمرة الأولى منذ عهد الأغارقة. وليست فضائل الإخلاص والوفاء والشكران هي التي كان الناس يسعون لنيلها تزيينا لحياتهم، بل كانوا ينشدون الجمال والصحة قبل كل شيء، وكان يستغني عن الحرية من هو حائز لهذين الكنزين حينا من الزمن. والواقع أن حسان الرجال والنساء كانوا يجدون، أحيانا، منقذا يخرجهم من بين جدران السجن، ومع ذلك فإن بهجة الحياة لم تنحط إلى درك الفسوق والإدمان والخلاعة؛ أي إلى الأباطيل التي اعترت الإمبراطورية الرومانية الآفلة فلم تسفر قرونها الثلاثة عن أي أثر فني والتي لم تنتج قرونها هذه غير قليل من الآثار العلمية، وعلى العكس كان العالم قد كون حول سنة 1500 وكان يسوده من الفن والعلم ما لا عهد له به منذ زمن الأغارقة.
ويتردد أحيانا في مقابلة رجال ذلك الدور في إيطالية على الخصوص بأغارقة القرون القديمة، ولم يعلل هذا التردد بطابع دور النهضة الطارئ ولا بمستواه الفني المتأخر، ويمكن الميل إلى هذه المقابلة بلا وجل؛ وذلك لأنك إذا عدوت عهد بركلس وعهد ليون العاشر لم تجد دورا قبل النهضة وبعدها اشتمل في زمن واحد على مثل ما احتوته هذه النهضة من ذوي السمو. وكلا الدورين كان قصيرا، وكلاهما ظل متجمعا زهاء أربعين عاما، ولو توسعنا في العد من حيث الازدهار لجعلنا القرن الخامس نصيب الأغارقة ولجعلنا ما بين سنة 1450 وسنة 1550 نصيب دور النهضة.
وفي دور النهضة حدث أمر نادر في إيطالية، ظهر كثير من العباقرة في جيل واحد، وما كان عهد أغسطس، ولا عهد جوستينيان أو الملك الشمس، ولا عهد الملكة إليزابت أو الفليبين،
32
ولا عهد نابليون؛ أي ما كانت هذه الأدوار، لتستطيع أن تزهو بأنها أنتجت من العباقرة مجتمعة ما أنتجه دور النهضة، ويكفي سرد أسماء هؤلاء لأسفنا على عدم معاصرتنا هذا الدور.
والحق أن بعضهم كان معاصرا لبعض تقريبا، فبين النحاتين سر من فروكيو إلى ميكل أنجلو، وبين المفكرين والشعراء سر من تاس وأريوست إلى بيك الميرندولي فإلى مكيافلي، وبين المصورين سر من بوتيشلي وغرلانداجو إلى بيرو دلا فرنسسكا، ومن بليني إلى جيورجيوني فإلى تيسيان، ومن بيروجين إلى رفائيل، ومن كريجيو إلى ليونار دفنسي فإلى لويني، وبين المهندسين البنائين سر من برونليشي إلى برامانت، ومن البابوات اذكر الثلاثة العظماء الذين تعاقبوا وهم: إسكندر ويوليوس وليون، وبين الرؤساء سر من سزار بورجيا إلى كوليوني، وبين الملوك سر من فرديناند إلى محمد (الثاني)، وبين الرواد سر من فاسكو دوغاما إلى كريستوف كولونبس ...
وفي ذلك العصر ظهر مئات من ذوي النفوس الكبيرة ضمن نطاق المدن الإيطالية، ولم يشاهد البحر المتوسط تجمع مثل ذلك العدد من العباقرة غير مرة واحدة، وذلك حين أقام بركلس البارتنون قبل ظهور آل مديسيس بعشرة قرون، ويتشابه الدوران بهاء وسناء، وكلا الدورين أثار نكرانا وآثاما وتحزبا وانتقاما.
Bog aan la aqoon