كان القدماء يقولون إن الروح التي ساقتهم إلى البحر الغربي قادتهم أيضا إلى أقيانوس
12
الفكر الخالص.
وما يوحي به البحر المحيط من وجل وجمال مناوبة فيعد شاهدا على عظمة العنصر البحري واتساعه وعطله من الشكل بحيواناته المستورة ونباتاته الغارقة وجباله المغمورة، وهو يهيمن على الحياة التي تكثر في الجزر ويسيطر على ما وراء الشواطئ، ويمتد سلطانه إلى قلب القارات.
ويمكن قياس البحر بالموت الذي يستقبل الجميع ويساوي بينهم، ويمكن اتخاذ الأنهار التي تجري فلكهم عليها مثلا للناس حينما تصب وتمتزج بهذا الجامع الأكبر، بالبحر، ويركم المزار الواسع الجاثم، غير مرتاد، في قعر البحار المحيطة والمزداد دوما بغنائم جديدة، ما عند الجزريين المقاديم من نشاط حيوي، ويعد المدفن الذي لم يعين بأثر، ولم يدرك من يقذفون أزهارا في مكان غرق من البحر عظمة هذا العنصر، والغواص وحده، وهو المشابه للعالم الذي يكتشف غير المرئي بمجهره، هو الذي يستطيع قولا عنه، ولكن من العادة أن يلزم جانب الصمت.
ومع ذلك لم يكن الحكماء، ولا القانطون، هم الذين فتحوا البحر، وهؤلاء لم يفعلوا غير تأمله زاهدين، وأول من خاضوا غماره، ومن لا يزالون يلبون نداءه هم ذوو الجرأة والإقدام والفضول ومحبو مسرات الحياة، وهم على الشاطئ، وحين يضعون أيديهم على حواجز موضوعة أمام أعينهم وقاية لأنفسهم من الشمس، ينعمون النظر في الجزيرة المجاورة، ثم يذهبون لفحص السفينة في الميناء متسائلين عن إمكان مقاومتها للعاصفة والأمواج. والرجل في بدء الأمر قد أراد أن ينتقل من جزيرة إلى أقرب جزيرة راجيا اصطياد أسماك أخرى ورؤية أشراك أخرى، ومشاهدة مختلف الزوارق التي رددت الأسطورة صداها إليه، ولا غرو، فهو جزري يبحث عن جزيرة ثانية.
وذات يوم يرى مع الحيرة ملاح أسفرت مائة قذفة مجداف وريح ملائمة عن حمله إلى الخضم،
13
ويدرك هذا الملاح كيف أن كل شاطئ، مهما ضؤل، يمس البحر العام كما يشترك أوضع الناس في مصير البشرية، ويبعد شيء من الفضول، لا الطمع، ذلك الملاح من الساحل كثيرا، وهو لما اتفق له من اكتشاف جزر جديدة وسواحل جديدة، يطلع على ممكنات جديدة، وينشئ سفنا ضخمة، ويجهزها بالأسلحة ما حاول الجزريون الأجانب أن يحولوا دون نزوله إلى البر، وهو، لعدم انتسابه إلى شخص، يعد ملك الجميع، فيجتذب من هو مقدام ومفكر، وهو لا يعتم أن يجمع بين مصايرهم.
وذلك لأن ذوي الشجاعة والطموح يتخلصون من حقولهم ومنازلهم وأرضيهم فيتكسبون بسفنهم القصفة من سواحل مجهولة، ويتجلى حب السلطان فيمن لم يستطيعوا في البر أن يتوسعوا بسبب جيرانهم، وفي البحر، حيث لا يسيطر أحد، يمكن الاتجار مع جزر أجنبية، وما السلب، وما الكبس، ما وجد كسب كثير! ذلك عنصر لا يقهره أحد، ذلك عنصر يغضي على كل شيء، وهو لا يثور إلا نادرا، إلا حين يعصف ضد المقاحيم الذين يحاولون إخضاعه، وهنالك، على الخصوص، تبصر الشواطئ الأجنبية التي تتيح نيل كل شيء ويسهل ذلك كلما بعدت، ومن الملاحين الأذكياء من انطلقوا من جزيرة ففتحوا بقاعا واسعة، ومن الملاحين من أتوا من موانئ صغيرة واقعة في مداخل ضيقة كأثينة والبندقية ولوبك فأقاموا سلطانهم البحري من غير أن ينالوا حماية بلد قوي، من غير أن يظفروا بمساعدة جيرانهم الذين ظلوا في البر، والبحر من هذه الناحية كان حرا دائما لتعذر رسم حدوده ولتعذر احتكاره باستمرار، فلما حظرت قرطاجة على اللاتين كل ملاحة في غرب الرأس اللاكوني اغترت ثم غلبت، ومن العبث أن حاولت جنوة إبعاد البروفنسيين من صقلية بمراسيم، وعن رغبة في احتكار الملاحة والصيد أراد البندقيون أن يحتفظوا بالبحر الأدرياتي وأراد الترك أن يحتفظوا بالبحر الأسود وأرادت الولايات المتحدة أن تحتفظ ببحر برنغ، ولكن على غير جدوى، وسواء أبالعمل أم بالحرب لا يمكن البحر أن يشرى أو يوزع أو يقسم إلى مناطق كما استطاعت الشعوب أن تصنعه في اليابسة.
Bog aan la aqoon