بعد حين، وتوفق في رسالتها مع ذلك، ويعزم غريغوار الحادي عشر، وهو البابا الفرنسي السابع في أفينيون، على وضع حد للمنفى، ويبحر من مرسيلية شاعرا في فؤاده بما يندر أن يحسه الملوك الذين يجاوزون البحر المتوسط من المشاعر، ولا ترافقه كترينة مسافرة برا، ويثبت اجتماعهما في جنوة بالبابا الذي لم يزل مترددا درجة نفوذها، وينعم البابا عليها بقصر فتسلمه إلى ديرها، ويرسلها البابا من رومة إلى فلورنسة لتقوم برسالة، وتشتعل فتنة بموت البابا، وتكاد كترينة تقتل، وتأسف لإنقاذ الطالع إياها من الشهادة، وبينما كانت جادة في سبيل البابا الجديد، عاملة على مفاوضة الشعب الروماني، إذ تمرض وتموت سريعا، ومن المحتمل أن كان يجتنب الانفصال الكنسي الذي وقع بعد وفاتها لو كان من الممكن دوامها على العمل من أجل الكنيسة.
وقد وجدت هذه المرأة العبقرية أسبابا كثيرة لحمل البابا على مغادرة أفينيون، وقد اشترك الزعيم الشعبي، ريانزي، في الأمر، ويشابه ريانزي هذا طغاة أيامنا بحماسته الشعبية وتمثيله المسرحي، وكان القدماء من خطباء اللاتين وأبطالهم يملكون قلب ابن الفندقي الروماني هذا، فلما قتل شريف أخاه ظن تجسد بروتوس فيه ، ويوفق عن طموح وكيد، والطموح والكيد هما سلاحا الطغاة، لنيل مقام في بلاط البابا كليمان بأفينيون، وينتفع البابا به ليضمن لنفسه دعامة في رومة التي أضحت اليوم أقوى من قبل، ويعود ريانزي إلى هذه المدينة الفوضوية فيعلن ذات يوم عقد مجلس على الكابيتول في صباح الغد، ويبدو مدججا بالسلاح ذا مشية روائية عاطلا من الحرس محاطا بالموسيقيين والأعلام ونائبي البابا فقط، ويجعل نفسه على رأس موكب من محبي الاطلاع والساخطين، ويلقي من فوق الكابيتول خطبة فاتنة حول حقوق الشعب الروماني الطبيعية وحول عودة العصر الذهبي، ثم ينتحل سلطات مطلقة بين هتاف الشعب، ويلقب نفسه ب «المنقذ»، ويقيم احتفالا رائعا في كنيسة القديس بطرس، ويتم كل شيء على شكل مسرحي وعلى وجه شعبي، والحكم هو ما كان يقصده.
وهو لم ينس سوى أمر واحد، سوى العمل، وهو قد عاش بالشعائر والدعاية، والشعائر والدعاية ما بدا بهما أستاذا، وقد توج زعيما شعبيا بأبهة عظيمة ومع أكاليل وأزهار ومع العيش خائفا من أشراف الرومان، وقد ترك هؤلاء له مدينة رومة بلا نزاع. وقد ظل ريانزي قابضا على زمام الأمور بلا جيش ولا مال حينا من الزمن، وبينا هو يترجح بين المأساة والمهزلة إذ ينال فوزا، وذلك عندما اختير حكما بين الأسرتين المتنازعتين حول موضوع نابل، ولكنه يغدو محل سخرية حينما حرض البابا والإمبراطور على إقامة إمبراطورية رومانية جديدة تحت سيادة الشعب الروماني؛ أي شعبه الخاص، ويخسر كل شيء عندما يعلم أنه لاعب فيتنزل عن سلطانه بعد عهد سبعة أشهر، ويلجأ إلى إمبراطور ألمانية في براغ ويسلم إلى أفينيون ويقضى بقتله، ويكتفى بسجنه، ويطلق بعيد موت البابا.
ويرى البابا الجديد أن يناهض الأشراف الذين عادوا إلى رومة، فيطلق ريانزي، ويضم إليه نائبا من لدنه، ويقبض ريانزي على زمام الأمور مرة أخرى بفضل بلاغته، وعلى ما كان من مرور سبع سنين بين الفصلين فإنه لم يتعلم من خيبة الأمل شيئا غير القسوة والتحزب الجامح، وتمر بضعة أسابيع فيعزل ويقتل في أثناء فراره ابنا لأقل من السنة الثانية والأربعين. وقد استطاع ريانزي أن يوحي في أوج مجده إلى الشاعر الكبير بترارك، إلى هذا الشاعر الحماسي الناظم على المنهاج القديم، فيمجد هذا الشاعر فيه رومولوس جديدا وكاميل جديدا، ومع ذلك لم يلبث هذا الأفاق أن نسي ليعود فيمجد بعد زمن من قبل بايرون وفاغنر، وله تمثاله في رومة، وهذا التمثال صغير، ولا تجده فوق الكابيتول، بل تراه على السفح عند أسفل تمثال مارك أوريل البرونزي.
ويظهر بعد ذلك الحبوط كردينال إسباني خبير بالفروسية وضرب السيف عارف بتقديم القرابين وبتفاسير آباء الكنيسة، ويقضي، بعد جهاد عشر سنين، على سلطان بارونات الرومان المتقاتلين الذين ملئوا رومة بحصونهم المتينة المتعاظمة المبنية من حجارة قصور الأباطرة القديمة، ثم مهد السبيل لرجوع أحد البابوات قريبا. وقد أوجبت المصالح السياسية وقوع انتخابات مضاعفة كما كان يحدث في الماضي غالبا، غير أنه كان لدى البابوين في ذلك الحين من المكان والزمان الكافيين ما يقومان معه بشئون السلطان في آن واحد، وما كان بين الدول العظمى من تباين قومي تجلى في مجموعتين مختلفتين، فجعل هذا مبدأ السيادة العالمية أمرا مستحيلا، وهذا إلى ما كان من عدم اكتفاء أي من البابوات بسلطة روحية صرفة.
وقد دام هذا الانفصال زمنا طويلا، وقد شاهد العالم هذا المنظر غاضبا ساخرا معا، والحق أن وجود بابوين هو من المناظر الهزلية الفاضحة!
وقد تداول عرشي البابوية رجال ماجنون، فكلما مات أحدهم عم الأمل باعتزال البابا الآخر، وكلما انتخب بابا جديد وعد بتنزله عن البابوية إذا صنع خصمه مثله. والواقع أن كل بابا كان يتمسك بالسلطة حتى الممات، ومن العبث ما كان يعرضه أقدم الكليات وأجل الكرادلة من وساطة، فإذا ما لاح الاتفاق قريبا كان أحد البابوين ينكد بوضع الآخر، فيرى البابا الفرنسي المنكد من السعادة أن يعود إلى بروفنسه العزيزة سريعا.
وأخيرا يتفق على عقد مجمع ديني على أن يكون يسوع رئيسه الخفي، وينصب له عرش فارغ، وينتخب المجمع بابا جديدا، ويرفض البابوان القديمان أن يتنزلا، وتتم المهزأة بوجود ثلاثة بابوات !
ويعقد مجمع ثالث في كونستانس وينتخب بابا روماني في سنة 1418 بعد مفاوضات طويلة، وكان الخراب قد أصاب مباني الفاتيكان الرائعة في تلك الفاصلة فأصلحت في عامين، ويدخل الفاتيكان أسقف لا يعتد به، وذلك بعد 110 سنوات من التاريخ الذي غادره فيه البابا الأخير الذي كان لا منافس له.
6
Bog aan la aqoon